داعشيات بلديات..

الفضل شلق

ينص الدستور اللبناني على حرية المعتقد، في الفكر والممارسة وكذلك تنص شرعات حقوق الإنسان الدولية. وقد تدخل رئيسا بلديتي طرابلس وصيدا في شأن لا يعنيهما. الحقيقة ان الناس ليسوا واثقين من اهتمامهما وكفاءتهما في الشؤون التي تعنيهما والتي تخص البنى التحتية والإدارة المحلية، فكيف بالشؤون الدينية التي ليست من اختصاصهما. انهما لا يدركان انهما بما يعلنانه من تعميمات (وتهديدات أحياناً) لهو أمر يدفع في اتجاه الشقاق والاختلاف والحرب الأهلية بين أتباع المذهب الواحد. إن حرية المعتقد تفرض على المتقيد بتعاليم الإيمان أن يكون له الحق ذاته للذي يعترض على هذه التعاليم. ما يمكن ان يعتبر سلبياً لدى فريق يمكن ان يعتبر إيجابياً لدى فريق آخر. ليس رئيس البلدية في موقع ادعاء «العلم» الديني.
الأهم من ذلك ان الدين مسألة شخصية يستطيع صاحبها ان يمارسها علانية، أو غير ذلك، متى شاء، من دون تعرض له ممن يعتبرون انهم يمثلون الدولة. لا تستطيع الطائفة (وهو تعبير نحتقره ونرفضه) ادعاء التسامح تجاه الغير إذا كانت لا تستطيع التسامح بين أعضائها. لقـد صادَرَنا النظام منــذ الولادة، كأعضاء في طوائف، بطريقة إجبارية، قسرية؛ وكفى. أما ان تُصادر أفكارنا وسلوكياتنا من خلال تعميمات لرئيسي بلديتين فهذا أمر مرفوض ومخالف لأسس الدستور اللبناني والقوانين اللبنانية. كما ينزعج بعض غير المؤمنين من صيام الصائمين، فإن غيرهم منزعجون من عدم صيامهم. شرط الحرية ان لا ينزعج فريق من الآخر وان يباح للجميع الممارسة الحرة في هذا الشهر كما في جميع الأشهر الأخرى. ومن اعتقد ان عليه واجباً دينياً فهو يستطيع ممارسته في بيته وحيث يعمل، بنفسه ولنفسه، من دون تعدٍ من أحد. وإذا تعدى أحد على الصائمين ففي الأمر مخالفة للقانون والدستور.
حرية الناس في الشارع أمر مقدس، والحساب عند الله في الآخرة. أما الحساب في الشارع وعلى هذه الأرض فإنه لا يعني أكثر من قمع اجتماعي؛ وهذا يفوق قمع الأنظمة سياسياً. تخلصنا من قمع الأنظمة لا لنقع في قمع المجتمع. وإذا كان لدى الناس خيار بين نظام استبداد سياسي وبين نظام استبداد اجتماعي، فإنهم يختارون الأول لا الثاني. الحرية هي ان يتاح للناس خيار ثالث يمتنع فيه القمع السياسي والقمع الاجتماعي وتسود الحرية في جميع المجالات، وينحصر الشأن الديني في المجال الفردي فقط، فكراً وممارسة.
لسنا بحاجة ان نقمع مجتمعاً، ولا ان يقمعنا مجتمعنا. نحن بحاجة إلى التضامن في وجه قمع الاستبداد السياسي للمجتمع جميعاً، للمؤمنين الممارسين ولغير المؤمنين وغير الممارسين. ليس أحد منا مضطرا للممارسة إذا كانت تتناقض مع ما يؤمن به. من يمارس غير ما يؤمن به، هو مقموع حتماً. والقمع هنا يمارسه المجتمع، بالإضافة إلى القمع السياسي الذي تمارسه السلطة.
يضاف إلى ذلك ان معظم الذين يمارسون القمع الاجتماعي علمهم بالدين ضحل. وحتى لو كان علمهم غزيراً فإن فرض آرائهم التي يعتبرونها دينهم هو أمر مرفوض أصلاً وبالكامل. ارتفعت أصوات كثيرة ضد الداعشية، وترتفع أصوات أكثر ضد الداعشية المجتمعية. لا ينصب أحد نفسه مطاوعاً أو داعية «للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» إلا ويمارس القمع. في الدستور اللبناني، وفي أي نظام ديموقراطي، يمارس «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» على أساس فردي؛ من شاء يؤمن ومن شاء لا يؤمن، والحساب عند الله. الدولة بمعنى «الإمام» هي التي تمارس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا حقها الحصري. أما ان يقوم أفراد بذلك، تلقائياً وبدفع من أنفسهم، أو ممن يحرضهم، فهذا أمر يخالف الدستور والقانون اللبنانيين، ويخالف كل شرائع الإنسان المعترف بها. الدين علاقة بين الفرد وخالقه؛ وإذا لم تكن العلاقة مباشرة، فإن الدين قد يفسد.
لا نرى الحملة على المؤمنين كي يوضعوا ضمن طوائف وجماعات يسيطر عليها البعض، حتى ولو تولوا مناصب رسمية، إلا انضماماً للحرب العالمية على الإرهاب. وهي حرب تشنها الإمبريالية ضد شعوبنا العربية، خاصة بعد ثورة 2011. والإرهاب، بالنتيجة، وقبل كل شيء هو سلعة ينتجها المركز الإمبراطوري بأسلحته وجحافله الإعلامية، ويستهلك هذه السلعة شعوب أُريد لها ان تبقى مقيدة بالأيدلوجيا الدينية كي لا تتحرر، وكي لا تصل ثورة 2011 إلى أهدافها. والإرهاب ينتجه النظام العالمي ويتحول إلى سلعة تستهلكها الشعوب المغلوبة على أمرها. يحاربون الثورة بالدين قبل كل شيء، وينتجون الأسلحة ويبيعونها كي تؤدي حرب الإرهاب العالمية ضدنا إلى حروب أهلية تدمر شعوبنا.
نعرف جيداً ان البلدان الإسلامية التي تدع مجتمعاتها تمارس القمع الديني (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أي المطاوعة) هي البلدان التي تمارس القمع السياسي وقمع المجتمع لنفسه دينياً في الوقت عينه. ونعرف جيداً ان هذه الأقطار ليس لها دساتير مكتوبة؛ وذلك لكي يكون القمع من دون قيود قانونية. ونعرف من هذه البلدان السعودية وباكستان وإسرائيل. تعددت الأسباب والقمع واحد.
الممارسات في المجال العام ليست شأن رؤساء البلديات ولا علماء الدين ولا من هم على شاكلتهم. وعلى الدولة ان تعالج الأمر فتمنع التعديات على الحرية الفردية. تجد داعش صدى لها في الأجهزة شبه الرسمية، وهذا أمر خطير.
الاحتساب شأن الدولة التي رأت ان لا ضرورة لهذه الوظيفة بعد ان أقر الدستور مبدأ حرية المعتقد. أما المخالفات الأخرى التي تقيد حرية المواطنين فهي شأن الدولة التي لديها الشرطة وبقية الأجهزة الأمنية. ليس هناك ضرورة لأن يأخذ بعض الأفراد الأمر بيدهم وكأن الأمانة لم توضع في الدولة.
ليس رؤساء البلديات أمناء على المجتمع وعلى معتقداته. هم أمناء على البنية التحتية في المدن. وهنا تقصير واضح. فليقم هؤلاء بعملهم وليتركوا دين الناس ليبقى شأناً فردياً لا تظاهراً في المجال العام.
المجال العام فسحة للحرية لا للقمع. وما الخلط بين الدين (أو ما يعتقد كذلك) والسياسة في المجال العام إلا محاولة لإثارة الفتنة. ربما كانت محاولة غير بريئة.

السابق
سليمان: اقتراح عون لا يناسب لبنان ولا المسيحيين
التالي
وحدها إيران تُوقف الحرب المذهبية!