وجيه قانصو يكتب ل«جنوبية»: جبهة الجنوب.. غلبة الشرعية أم شرعية الغلبة 

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.

من الواضح، أن حرب غزة منفصلة بالكامل عن معارك الإشغال، التي شنها محور الممانعة، بالأخص “حزب الله” ضد إسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة الأمريكية. فإذا كان الغرض من الإشغال، التخفيف عن أهل غزة أو مقاتلي “حماس” في غزة، فهذا لم يحصل ولو بنسبة ضئيلة جداً. كأننا أمام حربين متزامنتين، تخوضها إسرائيل، واحدة في غزة، والأخرى على جبهتها الشمالية في لبنان وسوريا، حيث لكل منهما إيقاع واستراتيجيات، ومآلات سياسية مختلفة عن الأخرى.

كأننا أمام حربين متزامنتين، تخوضها إسرائيل واحدة في غزة والأخرى على جبهتها الشمالية في لبنان وسوريا

فلا غرفة عمليات موحدة، ولا تناغم أو تكامل في إيقاع العمليات العسكرية، ولا جبهة سياسية واحدة، ولا تفاوض موحد حول المطالب والسيناريوهات السياسية لما بعد حرب غزة، الأمر الذي أفشل ما سمي بوحدة بوحدة الساحات، التي رُوِّج لها لشهور قبل السابع من تشرين الأول، أو أظهر أن مقومات وحدة الساحات الموضوعية، غير متوفرة وهشة، ولا يتعدى كونه، شعاراً تعبوياً وإعلان نوايا واستهلاكاً إعلامياً.

هشاشة ما سمي بحرب الإشغال، سببه تردد محور الممانعة، في الزج الكامل بقواته وقدراته العسكرية استجابة ل”طوفان الاقصى”. فالحسابات السياسية والأمنية لهذا المحور، والتي تُقرر طبعاً في طهران، تبين أن ما حصل ويحصل الآن، هو أقصى ما يمكنه الذهاب إليه، أي إشغال منضبط محدود ومحسوب بدقة، لا يتعدى أكثر من كونه مناسبة، لاستعراض قدرات قتالية جديدة كما وكيفاً. هي مواجهة على هامش حرب غزة لم ترتق إلى مستوى حرب فعلية، لعلم هذا المحور، أن الحرب تعني تحول إيران هدفاً عسكرياً وأمنياً، وهذا لا يبدو أن النظام الإيراني يتحمله، أو لديه الاستعداد للدخول في مخاطره.

فلا غرفة عمليات موحدة ولا تناغم أو تكامل في إيقاع العمليات العسكرية ولا جبهة سياسية واحدة ولا تفاوض موحد حول المطالب

الحرب أثمانها باهظة، بخاصة وأن الحرب لا تعود تقتصر على المواجهة مع إسرائيل، بل ستشمل أقوى دول “الناتو”، الأمر الذي يضع إيران في موقع الضعيف والهش، مقارنة بقدرات هذه الدول العسكرية والتقنية. أما الإشغال عبر الأذرع المتعددة، فيُبقي إيران في المنطقة الرمادية، أي المنطقة التي توفر للقادة في إيران، ضبابية في المواقف واللعب المريح، على ثنائية التصعيد والمواجهة من جهة، والجهوزية للمساومة والاستثمار السياسي السهل، بل والإنسحاب والتملص الماكر من المسؤولية، في اللحظة الأخيرة من جهة أخرى.  

إذا كانت إيران تمارس نمط اللعب المريح والرابح، فيما سمي بجبهة الإشغال، فإن البلدان الواقعة تحت سيطرة وهيمنة القوى والميليشيات التابعة لها، والتي تخوض المواجهة ضد إسرئيل والولايات المتحدة بالوكالة عن إيران، تدفع إثمانا باهظة ومكلفة، من دون أفق سياسي لهكذا مواجهات، أو مردود إيجابي متوقع. فسيادة هذه الدول منتهكة، والسقوط المدوي لمؤسسات الدولة مستمر، والانهيار الاقتصادي في تسارع، والتفكك الاجتماعي يزداد، بحكم تفرد مكون جزئي، بحصر أهم مهام الدولة بيده، وهو قرار الحرب والسلم، ما يفرض على هذه الدول، الانجرار القسري غير الإردي لمواجهات ليست لها، وبغير إرادة شعبها أو ممثليهم، والإنصياع لقرار صنع في غير عواصمها، والتورط في مواجهات، لن تحد من الإجرام الإسرائيلي، ولن تخفف عن أهل غزة ومقاوميها شيئاً. هذا إضافة  إلى أن حسابات الربح والخسارة عند هذه الميليشيات، تقتصر على مردودها الذاتي أو نقصانها الخاص، ولم ترق يوما لتكون بمستوى حسابات كلية  تشمل أفراد المجتمع وجميع مقدرات الدولة. إنها حسابات الربح لإيران وحدها، والخسارة والتبعات لدول ومجتمعات حروب الإشغال. 

الحرب أثمانها باهظة بخاصة وأن الحرب لا تعود تقتصر على المواجهة مع إسرائيل، بل ستشمل أقوى دول “الناتو” الأمر الذي يضع إيران في موقع الضعيف

مهما جهدت قوى الممانعة، بخاصة “حزب الله”، تسويغ ما تفعله بأنه دفاع عن شرف أمة، وحماية لمجتمع، وصون لوطن، ونصرة لقضية مقدسة. فهذه المسوغات طابعها شعبوي وخطابي من جهة، ونابع من تأويلات أيديولوجية وعقائدية، لا صلة لها بأصول وقواعد صناعة القرار، وتسيير الحياة العامة . لكن أخطر ما في هذه المسوغات، هو أنها تقفز فوق السؤال الحرج والخانق، الذي يهرب منه “حزب الله” دائماً، وهو سؤال شرعية الدخول في مواجهة ضد دولة أخرى، من خارج قنوات صناعة القرار الرسمية، ورغم أنف شعبه ومكوناته. إنه سؤال من أعطاك الحق أن تقرر وتحارب بإسم شعب، لم يمنحك صلاحية التصرف عنه؟

هو سؤال يضعنا أمام منطقين متناقضين:

 إما منطق الشرعية Legitimacy، الذي قوامه العقد الإجتماعي والإرادة العامة، التي تشرك جميع أفراد المجتمع من دون استثناء في صناعة القرار العام، والذي في مقدمه قرار الحرب والسلم والمقاومة. ما يجعل الحرية الفردية، شرطاً ضمنيا ومقوما لأية شرعية ممكنة، وأساس أي فعل سياسي. 

وإما منطق التنصيب الذاتي، الذي يبحث لنفسه عن سلطة من خارج المجتمع، التي غالباً ما تكون نابعة، إما من قناعة بتفويض غيبي وتنصيب إلهي، لاغ لحق المجتمع أو الفرد في تدبير أمره وتقرير مصيره، وإما من فائض قوة، تُعرِّف الحق بأنه قدرة إرادة على قهر وغلبة باقي الإرادات. بالتالي تصبح الشرعية متقومة بسلطة المتغلب، أي سلطة لا من يقرر عن غيره لأجله، بل سلطة من يملي على غيره ما يقرره لنفسه.

من جديد، تضعنا جبهة الإشغال في الجنوب، أمام الاختبار الأخطر في تاريخ لبنان: غلبة الشرعية أم شرعية الغلبة.      

السابق
توقيف عصابة سرقت وخرّبت كنائس في بيروت
التالي
أسقطتها «حماس» بعد مهام اغتيالات وتجسس.. ما هي مسيرة كوادكوبتر الإسرائيلية أساس في حرب غزة!