إيران و«تزييف الوعي»!

السيد علي خامنئي

ممَّا لا يُختلفُ فيه كبيرَ اختلافٍ، أنَّ السِّياسةَ قد دَخلَتْ في كُلِّ شيءٍ من تفاصيلِ حياتِنا، بكُلِّ ما لكلمةِ «كُلِّ» مِنْ مَعنًى، حتَّى صارَ أحدُنا مُضطَّرًا لأنْ يُحدِّدَ موقفَه السِّياسيَّ مِنْ قضايا الأُمَّةِ قبلَ أنْ يَفتحَ خِزانةَ الأحذيةِ من أجلِ اختيارِ حِذاءٍ يَنسجمُ معَ موقفِه. وإذا كانَ أحدُنا على لائحةِ السُّلطةِ السَّوداءِ فإنَّه يَخشى أن يَجدَ في الخِزانةِ بعضًا مِنْ مُخابراتِ الطَّاغيةِ، فلا يُميِّزُ بينَهم وبينَ ما في الخِزانةِ، لِيَجِدَ نفسَه مُخيَّرًا بينَ خيارَيْن يُبنى عليهِما مصيرُه على هذه الأرض؛ إمَّا أنْ يُغامرَ وإمَّا أنْ يبقى حافيًا.

رغمَ هذا الاحتكاكِ اليَوميِّ، بل اللَّحظيِّ، بالسِّياسةِ لم تزلِ الشُّعوبُ، والعربيَّةُ مِنها على وجه الخصوص، في حالةِ عجزٍ عن مُقاربةِ الأمورِ السِّياسيَّةِ بذهنيَّةٍ تُدركُ حدًّا أدنًى مِنْ أصولِ السِّياسة. وحالةُ العجزِ هذه مردُّها، إلى عمليَّةِ صِياغةِ وعي النَّاسِ بصورةٍ تُرسِّخُ هذا العجزَ؛ هي عمليَّةُ «تزييف الوَعي» على ذِمَّةِ الإخوةِ الماركسيِّين.

بعدَ «طوفان الأقصى» اشتدَّ حضورُ قضيَّةِ الدَّعمِ الإيرانيِّ لـ «حركات المُقاومة» والذي لم يزلْ، مُنذُ يومِه الأوَّلِ، مَحَلَّ تَجادُلٍ غالبًا ما يَنتهي بأكثرِ صُوَرِ الجِدالِ عبثيَّةً ومأساويَّة. ولا يَخفى أنَّ الخِطابَ الذي يُقدِّمُه المِحورُ الإيرانيُّ، يُحاولُ إقناعَ المُستمعينَ بأنَّ الدَّعمَ الإيرانيَّ لهذه الحركاتِ، هو «قُربةً إلى الله» وإلى قضايا التَّحرُّرِ عمومًا، والقضيَّةِ الفِلسطينيَّةِ على سبيل التَّخصيصِ، وأنَّ النِّظامَ الإيرانيَّ لا يتوخَّى أيَّ استثمارٍ لهذا الدَّعْمِ مِنْ أجلِ مصالحِه الخاصَّة. بعبارةٍ أُخرى يُريدُ المِحورُ تقديمَ النِّظامِ الإيرانيِّ، كما لو أنَّه جمعيَّةٌ خيريَّةٌ لا تتوخَّى الرِّبح. ولا يَخفى بالقَدْرِ نفسِه، أنَّ النِّظامَ الإيرانيَّ نجحَ في ذلكَ نجاحًا كبيرًا، ليس فقط على مُستوى قاعدتِه الجماهيريَّةِ، وإنَّما أيضًا على مُستوى بعضِ «المُعارضينَ» له.

بعدَ «طوفان الأقصى» اشتدَّ حضورُ قضيَّةِ الدَّعمِ الإيرانيِّ لـ «حركات المُقاومة» والذي لم يزلْ يَنتهي بأكثرِ صُوَرِ الجِدالِ عبثيَّةً ومأساويَّة

إنَّ تزييفَ الوَعي هذا، هو نتيجةُ خمسٍ وأربعينَ سنةٍ منْ أدلجةِ «الجماهير» وتشكيلِ وَعيِهم، في عمليَّةٍ تبدأُ مع بلوغِ الطِّفلِ قابليَّةَ «التَّعلُّمِ»، ولا تنتهي إلَّا بعدَ أنْ تُرَدَّ آخرُ ذرَّةِ تُرابٍ عليه في قبرِه. لكن ثَمَّةَ الكثيرُ مِنَ المُعطياتِ النَّظريَّةِ والواقعيَّةِ، أوَّلُها البَداهةُ، تؤكِّدُ لِمَنْ يملكُ ذاكرةً غيرَ مثقوبةٍ المؤكَّدَ، الذي مَفادُه أنَّ إيرانَ دولةٌ ليستْ بِدْعًا مِنَ الدُّوَلِ، ونِظامُها نظامٌ كغيرِه مِنَ الأنظمةِ السِّياسيَّةِ، التي لا تَدعمُ طرفًا مِن أجلِ سَوادِ عينَيْه، على حدِّ التَّعبيرِ الشَّعبيِّ، إذْ أنَّ العُيونَ في السِّياسةِ ليس لها إلَّا لونٌ واحدٌ وهو «المصلحة»؛ ومصلحةَ الدَّاعمِ أعني وليسَ مصلحةَ المدعوم.

تَظهرُ طبيعيَّةُ السِّياسةِ الإيرانيَّةِ، مِنْ خلال تحليلِ تفاعلِ النِّظامِ الأيرانيِّ مع الأحداثِ الكبيرةِ في المِنطقة، مِثالًا لا حصرًا؛ الاحتلالُ الأميركي للعراقِ عام 2003، والدَّورُ الذي لعبتْه إيران، باعترافِ مسؤوليها، في تسهيلِ عمل الاحتلال. أمَّا على المُستوى اللُّبنانيِّ فثمَّةَ قضيَّتانِ، مِنْ كثيرٍ، أظهرتْ فيهما إيرانُ براغماتيَّتَها وازدواجيَّةَ خطابِها؛ الأولى هي تعاطيها معَ قضيَّةِ اغتيال السَّيِّد موسى الصَّدر في ليبيا، والثَّانيةُ في الحرب بين حزب الله وحركةِ أمل.

تَظهرُ طبيعيَّةُ السِّياسةِ الإيرانيَّةِ، مِنْ خلال تحليلِ تفاعلِ النِّظامِ الأيرانيِّ مع الأحداثِ الكبيرةِ في المِنطقة،

فبعدَ ما يَقْرُبُ مِنْ شهرٍ على الإطاحةِ بنظامِ الشَّاه، تُصرِّحُ طهرانُ بأنْ «نرفُضُ استقبال القذَّافي إلَّا بعدَ عودةِ الإمام الصَّدر». وحينَ كان «آيةُ الله» الخُميني يُطالبُ القذَّافي بأنْ يُخبِرَهم بمصيرِ الصَّدر، وحينَ كانَ «آيةُ الله» شريعتمداري يعتبرُ إخفاء الصَّدرِ «جريمةً كُبرى وإهانةً للمُسلمين»، كانتْ ليبيا تدعمُ إيران في حربِها ضدَّ العراق. ولا يَخفى أنَّ قضيَّةَ الصَّدرِ قد ماتتْ عندَ النِّظامِ الإيرانيِّ و«حركات المُقاومة» التَّابعةِ له، إلى الحدِّ الذي باتَ ذِكرُ “حزبِ الله” للإمامِ الصَّدر، مِنْ بابِ «رَفْعِ العتبِ»، ورُبَّما أقلَّ لكن ليس أكثر، هذا إنْ سلَّمْنا أنَّها قضيَّةٌ كانت تَعني النِّظامَ الإيرانيَّ في شيء. وفي هذا الصَّدَدِ يقولُ السَّيِّدُ هاني فحص، أنَّ الموقفَ الإيرانيَّ مفهومٌ ومُبرَّرٌ، بواقعِ أنَّ إيران كانتْ بحاجةٍ إلى الدَّعمِ اللِّيبيِّ أثناءَ الحربِ ضدَّ العِراق.

المسألةُ الثَّانيةُ هي الصِّراعُ، أو المُنافسةُ، بين النِّظامَيْنِ الإيرانيِّ والسُّوريِّ على «السَّاحةِ اللُّبنانيَّة»، والذي انفجرَ حربًا بين “حزب الله”، ممثِّلًا إيران، وحركة أمل، مدعومةً منَ النِّظام السُّوري. تُبيِّنُ هذه الحربُ إحدى أخطرِ مُرتكزاتِ السِّياسةِ الإيرانيَّةِ، والتي يُمكنُ اعتبارُها المُرتكزَ الأساسيَّ في سياستِها: النِّظامُ الإيرانيُّ يُقاتلُ بغَيْرِ الإيرانيين دِفاعًا عن مصالحِه، وتاليًا فإنَّ دعمَه للفصائلِ غيرِ الإيرانيَّةِ هو للقتالِ بها وليس معها، فضلًا عن القِتالِ نِيابةً عنها.

إقرأ ايضاً: باسيل يُعطّل الحكومة «نكاية» بميقاتي و«حزب الله»..والحرب الجنوبية الشاملة تقترب!

وعلى سبيلِ التَّوكيدِ، لو أجرينا مُقارنةً بينَ علاقةِ “حزب الله” بإيران، وعِلاقةِ “حركة أمل” بسوريا، لأمكننا أنْ نَخلُصَ إلى أنَّ علاقةَ “أمل” بالنِّظامِ السُّوري خلال الحربِ كانتْ عِلاقةً سياسيَّةً مُبرَّرةٌ، بواقعِ أنَّ طرفًا مثلَ “أمل” كان بحاجةٍ إلى حليفٍ قويٍّ مِثلَ النَّظامِ السُّوري أثناء الحرب. ولذلك نجدُ أنَّ هذه العِلاقةَ، قد فُكَّتْ عمليًّا بعدَ الانسحابِ السُّوريِّ، ودخولِ “أمل” في نظامِ المُحاصصةِ والمحسوبيَّات. أمَّا “حزبُ الله” فإنَّ علاقتَه بإيران علاقةٌ وجوديَّةٌ بالنِّسبةِ له، وهو بالرَّغمِ مِنَ القُوَّةِ التي صارَ عليها اليوم، إلَّا أنَّه لا يستطيعُ فَكَّ ارتباطِه بإيران، وهو لم يزلْ ليس جُزءًا مِنْ إيران وحسب، بل هو «إيران في لُبنان» كما صرَّحَ النَّاطقُ الرَّسميُّ باسمِه، إبراهيم امين السيد، عام 1987.

على أنَّ الاعتراضَ هنا ليس على السِّياسةِ الإيرانيَّةِ ذاتِها، إذْ أنَّه منَ السَّذاجةِ التَّوَهُّمُ أنَّ النِّظامَ الإيرانيَّ يُعادلُ بين مصالحِه والمصالِحِ الوطنيَّةِ لأيِّ دولةٍ أُخرى، فضلًا عنِ اعتبارِ مصالحِ هذه الدَّولةِ أبدى مِنْ مصالِحِه. إنَّما الاعتراضُ على محاولاتِ تزييفِ الوعي، وإقناعِنا بعكسِ ذلكَ، ومُحاكمةِ مواقفِنا وِفقَ معاييرَ زائفةٍ وغيرِ منطقيَّة.

منَ السَّذاجةِ التَّوَهُّمُ أنَّ النِّظامَ الإيرانيَّ يُعادلُ بين مصالحِه والمصالِحِ الوطنيَّةِ لأيِّ دولةٍ أُخرى

وإذْ يُفترضُ أنَّ هذا الكلامَ ليسَ مِنَ الجديدِ في شيء، وأنَّه أقربُ إلى البَداهةِ مِنهُ إلى التَّحليل، نجدُ أنفُسَنا بعدَ خمسٍ وأربعينَ سَنةٍ مِنَ «الحَمْلِ على مَحْمَلٍ حَسَنٍ»، في حاجةٍ وجوديَّةٍ لإعادةِ تثبيتِ بعضِ البدَهيَّاتِ.

السابق
موقف ملتبس لـ«حزب الله»: رفض وقف النار في الجنوب مع «إنفتاح» دبلوماسي!
التالي
تصعيد اسرائيلي متواصل..غارات وقصف للقرى الحدودية!