«حزب الله»..و«الإستثمار» السياسي في الحرب والسلم!

ياسين شبلي

تُعرَّف السياسة بأنها فن الممكن، وتُعرَّف الحرب بأنها شكل من أشكال السياسة ولكن بطريقة أخرى، وفي الحالتين تكون السياسة “إستثمار” في الوقائع، تفرضه موازين القوى على الأرض، تماماً كأي صفقة في عالم الأعمال، وإن كانت هنا تمس المجتمع بأسره، ومصالح مكونات هذا المجتمع، وليس فرداً أو مؤسسة أو مجموعة قليلة من الناس كما في عالم “البيزنس”. وإذا أردنا ترجمة هذا الكلام على الواقع اللبناني، على وقع التطورات التي أملتها عملية “طوفان الأقصى”،خاصة على الحدود الجنوبية، تعود بنا الذاكرة إلى حرب العام 2006، حينما بدأت الحرب بعملية خطف قام بها “حزب الله” ضد جنود إسرائيليين، تماماً كما حصل يوم 7 أكتوبر الماضي في غزة، مع إختلاف الظروف وحجم العملية بإختلاف الزمان والمكان والهدف المرجو منها، حيث دامت الحرب يومها 33 يوماً، وكانت مفاجئة للحكومة اللبنانية، وكل ألوان الطيف السياسي اللبناني، الذي كان قد دخل في عملية حوار داخلي بعد زلزال 14 شباط من العام 2005، الذي أسفر عن إغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وإندلاع ثورة الأرز وخروج الجيش السوري من لبنان، وتغير التحالفات السياسية، ما أوجد مناخاً سياسياً غير مؤاتٍ، بل معاكس لما يمثله محور الممانعة في المنطقة، بعد عملية غزو العراق والإندفاعة الأميركية في المنطقة، بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 ، فبدت حرب 2006 وكأنها جاءت رداً – وإن غير مقصود ربما – على هذه التطورات في لبنان مجتمعة، أو فرصة بهدف إعادة عقارب الساعة السياسية إلى ما قبل 14 شباط 2005، من جانب محور الممانعة.

حزب الله وكما إستثمر في الحرب عام 2006 يستثمر اليوم في “السلم” عبر المشاغلة المحسوبة للعدو من ضمن قواعد الإشتباك ليقطف ثمرة هذا الإستثمار إنتصار مشروعه السياسي

ولتمرير المشروع الأميركي الجديد للمنطقة من الجانب الآخر. كان رد فعل إسرائيل على العملية قاسياً، وغير متوقع ل”حزب الله” كما تبين لاحقاً، وذلك من خلال مقولة أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله الشهيرة “لو كنت أعلم”، كان الرد بعدوان شامل لا يتناسب مع حجم العملية التي قام بها “حزب الله”، والتي كان يمكن أن تنتهي كما إنتهت فعلياً، بعملية تبادل وبدون حرب واسعة، الأمر الذي أعطى الإنطباع يومها، وكأن خطة الحرب كانت موضوعة ومعدة سلفاً بإنتظار ساعة الصفر ، أو الذريعة التي تسمح بتنفيذها بالتكافل والتضامن مع الإدارة الأميركية، التي ما أن بدأت الحرب حتى بدأ معها الحديث عن “شرق أوسط جديد”، ما أوحى يومها بأن عملية “حزب الله” كانت بالنسبة لإسرائيل وأميركا، كخبرية أسلحة الدمار الشامل العراقية التي غزت أميركا بسببها العراق وإحتلته، أي مجرد ذريعة لتنفيذ مخطط أميركي جديد للمنطقة. إنتهت الحرب بعد 33 يوماً، بصمود عسكري أسطوري لحزب الله فاجأ المراقبين، وكان كفيلاً بتغيير المعادلات في المنطقة، ما سمح له بإعلان الإنتصار رغم الخسائر التي مني بها لبنان شعباً وحكومة ومؤسسات، يومها سأل وليد جنبلاط سؤاله الشهير والعميق الذي أثبتت الأيام وجاهته، كان السؤال لمن سيهدي حزب الله إنتصاره؟

وجاء الجواب سريعاً عندما إستدار الحزب بعد جلاء غبار المعركة مع إسرائيل إلى الداخل، متهماً حكومة فؤاد السنيورة بالتواطؤ مع الأميركيين، حد تسميتها حكومة فيلتمان – السفير الأميركي في لبنان يومها – هي التي كان الرئيس نبيه بري قد أطلق عليها إبان الحرب حكومة المقاومة السياسية، كما أن رئيسها السنيورة كان قد زار الضاحية الجنوبية بعد وقف إطلاق النار، وأُستقبل فيها إستقبال الأبطال، فما عدا مما بدا حتى يُتهَم بعدها بالعمالة، ويتم سحب الوزراء الشيعة من الحكومة، وفرض الحُرم المذهبي على تعيين بدائل عنهم، والإعتصام وسط بيروت على خلفية الخلاف على المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، كما قيل يومها، وإن كانت الأحداث والتطورات أظهرت بعدها بأن الهدف الحقيقي إنما كان هو “إستثمار” الإنتصار المعلن في السيطرة على القرار السياسي في البلد، وكان “حزب الله” قد أعدَّ العدة لهذا الأمر، وهيأ الأرضية له بإقامة تفاهم “مار مخايل” مع التيار الوطني الحر في 6 شباط 2006، قبل إندلاع الحرب ليكون شريكه المسيحي في الوقت المناسب، ما يؤكد قدرة التخطيط بعيد المدى لدى “حزب الله” ومن وراءه إيران ، ووضوح الرؤية والهدف لديه، الأمر الذي بدأ تحقيقه بعد أحداث 7 أيار 2008، على طريقة الخطوة خطوة، بدءاً بإتفاق الدوحة وصولاً إلى تنصيب ميشال عون بالفرض رئيساً للجمهورية، مروراً بالإنقلاب على حكومة سعد الحريري بداية عام 2011. 

“إستثمر” حزب الله في حرب تموز 2006 لصالحه وصالح مشروعه ومحوره في لبنان ما سمح له بعدها بالذهاب مرتاحاً إلى سوريا للقتال دفاعاً عن النظام السوري وبعدها إلى العراق

هكذا “إستثمر” حزب الله في الحرب والعدوان لصالحه، وصالح مشروعه ومحوره في لبنان، ما سمح له بعدها بالذهاب مرتاحاً إلى سوريا للقتال، دفاعاً عن النظام السوري “رفيق المحور” الممانع، وبعدها إلى العراق عضو المحور الآخر تلبية للأجندة الإيرانية في تثبيت أقدامها هناك، ومن ثم إلى اليمن ليصبح بعدها درة تاج المحور الإيراني، خاصة بعد إغتيال قاسم سليماني بحيث بات حزب الله وكذلك السيد حسن نصر الله – كما يبدو على الأقل – وكأنه الوكيل السياسي الشرعي والوحيد لإيران في المنطقة العربية، ويبدو ذلك جلياً من الإستقبالات التي يجريها السيد نصر الله في بيروت مع أطراف محور الممانعة، من عراقيين ويمنيين وفلسطينيين، خاصة بعد عودة العلاقات بين حماس والجمهورية الإسلامية إلى سابق عهدها، بعدما كانت تأثرت بالأحداث في سوريا. 

إقرأ ايضاً: بالفيديو: للمرة الأولى..غارة فجراً على مشغل المينيوم في الكفور-النبطية

اليوم مع عملية “طوفان الأقصى”، التي كانت إيران حريصة كل الحرص منذ البداية على التنصل من مسؤوليتها، كذلك فعل حزب الله بإعلانه على لسان أمينه العام في خطابه الأول بعد العملية، بأنها كانت مفاجأة للجميع وأنها فلسطينية مئة بالمئة، وهو كلام قد يكون يمثل نصف الحقيقة ربما – وهذا مفهوم في ظروف كهذه – من حيث توقيت العملية وتطبيقاتها العملانية على الأرض، ولكن ليس من حيث القرار والإعداد لها، إذ يعلم القاصي والداني عدد الإجتماعات التي عقدت في الأشهر الماضية، بين السيد نصر الله وإسماعيل هنية أثناء زيارات الأخير للبنان، ما يدعو للإعتقاد ويبرره بأن الأمر لم يكن صدفة. وهنا تبرز أسئلة معهمة، وهي هل كان لتطورات مخيم عين الحلوة الأخيرة، من حيث محاولة الإمساك به ومحاولة كسر حركة فتح، بما تمثل من سلطة فلسطينية تابعة لسلطة رام الله، التي تقف حماس على نقيض معها، هل كان لهذه التطورات علاقة بما كان يُخَطَّط له وما تعيشه المنطقة اليوم، من أحداث جسام خاصة ما يجري على الحدود الجنوبية للبنان مع فلسطين المحتلة، وهل سيكون لحرب غزة بعد نهايتها، خاصة إذا نجح العدو بإخراج حماس منها عسكرياً، تداعيات على الوضع الفلسطيني، في لبنان بحيث تصبح المخيمات “حماس لاند” وبدل عن ضائع؟

 أسئلة مشروعة، خاصة مع دخول حزب الله والفصائل الفلسطينية وغيرها في “مشاغلة” للعدو الصهيوني دعماً لغزة، وتخفيفاً للضغط عنها كما يقول حزب الله، من ضمن قواعد الإشتباك المعمول بها، والتي تصر أميركا منذ اليوم الأول للحرب على الإلتزام بها، وعدم توسيعها سواء عبر العصا المتمثلة بالتهديدات المتكررة، أو الجزرة عبر إيفاد آموي هوكشتاين إلى لبنان، وما تحمله زيارته من إشارات تتعلق بإعادة التنقيب عن الغاز من جهة، وبإستئناف الحديث عن تحديد للحدود البرية مع فلسطين المحتلة، علاوة على معرفة حزب الله ومن ورائه إيران دائماً الظروف القاسية التي يمر بها لبنان حالياً، وهو ما يدفع حزب الله للتروي وعدم دخول الحرب من أوسع أبوابها، وهو ما تجلى في الخطابين اللذين ألقاهما السيد نصر الله مؤخراً رغم “الغموض”، الذي قد يكون غموضاً لدى اللبنانيين، وليس بالضرورة لدى الأميركيين والإسرائيليين، وهو ما ترك إرتياحاً لدى فئات واسعة من الشعب اللبناني، الذي لا ينكر سوى مكابر، بأن ما يجري على الحدود الجنوبية قد أصابها بالهلع والقلق من مقبل الأيام، خاصة مع التهجير الواسع والدمار الذي لحق بالقرى الحدودية، وتوقف دورة الحياة العادية فيها، علاوة على الهجمة التي شهدتها سوق العقارات للإيجار في مختلف مناطق لبنان، والتي رافقها للأسف ظواهر سلبية عديدة، تؤكد بأن الإنهيار اللبناني وصل أبعد من السياسة والإقتصاد والأمن، وهي ظواهر مسؤول عنها بالدرجة الأولى، سلطة العصابة الحاكمة التي أوصلت البلد والناس إلى هذا الدرك. 

تبدو الأمور حتى الآن على الأقل مضبوطة بسقف محدد بين اسرائيل و”حزب الله” في الجنوب وقد يكون ذلك نتاج إتصالات ما بين أميركا وإيران وإجتماعات على المستوى الأمني بين الطرفين في جنيف

هكذا تبدو الأمور – حتى الآن على الأقل – مضبوطة بسقف محدد، قد يكون نتاج إتصالات ما بين أميركا وإيران، وهو ما تسرب من عدة مصادر، عن إجتماعات على المستوى الأمني بين الطرفين في جنيف، كذلك ما تسرب عن إستعداد واشنطن للسماح للعراق، بدفع عشرة مليارات دولار لإيران هي مستحقات لها، ما يدعو للتساؤل هل أن إستجابة حزب الله لطلب أميركا بعدم توسيع الحرب، قد يكون له ثمن داخلي لبناني بعد إنتهاء الحرب في غزة، كتسهيل إنتخاب مرشح الحزب للرئاسة سليمان فرنجية مثلاً، وتسليمه إدارة البلد بالوكالة، مقابل تهدئة الحدود مع إسرائيل على طريقة حافظ الأسد وإبنه في الجولان، ليعيد التاريخ نفسه عندما أوكلت أميركا للأسد الأب حكم لبنان مقابل إشتراكه في حرب تحرير الكويت؟ لا شيء يمنع ما دامت السياسة، كما أسلفنا، هي فن الممكن وإستثمار مصالح ، وهكذا يكون حزب الله وكما إستثمر في الحرب عام 2006، يستثمر اليوم في “السلم” عبر المشاغلة المحسوبة للعدو من ضمن قواعد الإشتباك، ليقطف ثمرة هذا الإستثمار إنتصار مشروعه السياسي، ولو إلى حين. أسئلة ووقائع ستكون أجوبتها رهن التطورات المقبلة، خاصة في الميدان كما لمَّح لذلك السيد نصر الله في خطابه الأخير، وهي تطورات قد ترسم صورة المنطقة لسنين طويلة مقبلة، ومن يعش يرَ.

السابق
«ماراثون التصعيد الجنوبي» من الكفور الى الجليل..قصف صاروخي ومدفعي وجوي بين اسرائيل و«حزب الله»!
التالي
200 ضحية في مجزرة اسرائيلية مروعة تستهدف مدرسة تأوي نازحين فلسطينيين في جباليا!