الحياة بوصفها عبئاً على الأحياء!

حازم صاغية

بطرق شتّى قال فلاسفة ومفكّرون كُثر إنّ الحياة ضرب من العبث واللاجدوى، وإنّ تتويجها بالموت برهان على ذاك العبث وتكريس للاجدوى تلك.

لكنْ ماذا حين لا يكون الموت مجرّد حدث تُختتم به الحياة، بل يكون هو نفسه الحياة؟

كلام كهذا ليس هذياناً يزعم لنفسه التأمّل. إنّه محاولة في وصف أحوال هذه المنطقة الغارقة في الحروب، بالأهليّ منها وغير الأهليّ، والتي إن لم تغرق في حرب استولت عليها حالة ووعي حربيّان يُعدّانها لحرب ما. وفي واحدة من هاتين الخانتين تندرج اليوم ليبيا والسودان واليمن والعراق وسوريّا ولبنان، أي ما يقرب من 160 مليون إنسان. ومن يدري أيّة مفاجأة حربيّة قد تنفجر غداً في وجوهنا، في هذا البلد العربيّ أو ذاك؟

مَن يمضي في قتال عدوّه ما استمرّت الحياة فإنّه إنّما يمضي في قتل شعبه ما استمرّت الحياة

والشعوب قد تحارب لسنة أو سنتين أو ثلاث، وهذا غالباً ما حصل في التاريخ ولا يزال يحصل. أمّا العيش في الحرب أو في الحالة الحربيّة، سنةً بعد سنة وجيلاً بعد جيل، فهذا ما قد يغدو احتكارنا الحصريّ و”الحضاريّ”. فـ”حرب المئة عام” و”حرب الأربعين عاماً” صارتا لسوانا ماضياً، أمّا لنا فتتراوحان بين كونهما حاضراً وكونهما مستقبلاً.

والحال أنّ مَن يمضي في قتال عدوّه ما استمرّت الحياة فإنّه إنّما يمضي في قتل شعبه ما استمرّت الحياة. والقتل هذا يتّخذ أشكالاً كثيرة: من تجرّع الموت المتواصل، إلى تحمّل النظام القهريّ بسجونه وتجبّره، إلى الفقر والمرض والإعاقة، إلى التهجير داخل البلد أو اللجوء إلى خارجه وما يصحب الأمرين من معاناة فرديّة وجماعيّة. أمّا الذين يُصَنَّفون عائشين من هؤلاء ففضلاً عن بؤس عيشهم تكون قد سُلبت منهم قدرتهم على تقرير غدهم والسيطرة على مجريات حياتهم، فانتهى بهم الأمر أنصاف أحياء. وللضحايا الكثيرين هؤلاء لن تكون حياة سوى تلك التي وصفتها عبارة توماس هوبز الشهيرة: “منعزلة وفقيرة ولعينة ووحشيّة وقصيرة”.

لكنْ من بين مصادر عدّة تقف وراء هذا الجحيم المُعمَّم، يبقى العاملان الأشدّ تسبّباً به وجود سلطة بلا شرعيّة تسعى لأن تستقي شرعيّتها من قتال ما، ووجود مجتمع يأبى أن يكون مجتمعاً، مؤثراً أن يبقى جماعات متناحرة ومتكارهة. وفي الحالتين تتضخّم “القضايا” التي توصف بالمصيريّة ولا تقود إلاّ إلى قضم المصائر وإيلام أصحابها. والسببان هذان، وهما في الغالب يتبادلان التأثّر والتأثير، متوافران لدينا بإفراط وكثرة.

فالحياة بوصفها قتلاً وقتالاً تطوي، بل تسخّف، المطالبة بنظام شرعيّ، وبدل أن يُرسم اقتتال الجماعات جنوناً وفوضى، يجعله القتال نزوعاً خلاصيّاً أو مجداً تحرّريّاً.

ما من قضيّة مهما سمت يمكن أن تبرّر تحويل الحياة إلى عبء على أصحابها هذه جريمة موصوفة ومتمادية

ويبقى المدهش، والحال هذه، ذاك الاقتران بين ما تشهده بلداننا من اتّساع في نطاق الحرب، أي نطاق الموت، وضمور نطاق التأمّل في الحرب. فلا يزال من النادر أن نقرأ نصّاً في فضائل السلم أو في رذائل العنف، ومن النادر أن يُبذل جهد أو يُعقد مؤتمر أو تُنظّم ندوة بحثيّة لتناول المسألة الحارقة هذه.

إقرأ ايضاً: إمرأة وحيدة رافقت بريغوجين وعطل تقني أخّر الطائرة..هيئة الطيران الروسية تكشف أسرار رحلة الموت!

أمّا مراجعة تاريخ هذا العنف وجذوره وتعيين المسؤوليّات عنه والتفكير في طرق أو مخارج لمغادرته فليست على جدول أعمال أحد منّا. ذاك أنّ العنوان الذي يتسيّد على باقي العناوين هو ما تقوله الأطراف المتنازعة وما تماحك فيه: “هم بدأوا”، بل “هم بدأوا”. وإذ يضاعف كلّ من الأطراف سُمّيّة الأطراف الأخرى تطرّفاً وتحجّراً، فإنّ التنازع السجاليّ على البداية لا يلغي التوافق العمليّ على النهاية التي هي بؤس الجميع الشامل.

وطبعاً، وكما في الحروب كلّها، هناك قاموس لإسناد القتل وتبريره، يرجع إلى التاريخ ليؤكّد حتميّتها، ويستعين بالمصالح والجغرافيا السياسيّة، فضلاً عن الشرف والكرامة، لتكريس تلك الحتميّة. فإذا ظهرت جهة، غالباً ما تكون أجنبيّة، تسعى إلى وقف القتال أرجعنا سعيها إلى “نفس يعقوب” ومضينا في سبيلنا نقتل ونُقتل.

والراهن أنّ السلم ضعيف أصلاً في ثقافتنا، نحن الذين لم نعرف حركة سلميّة ومناهضة للحرب واحدة وقويّة. ولا يزال المثل الأبرز على علاقتنا به إنشاء الشيوعيّين “حركة أنصار السلم” جرياً على عادة سوفياتيّة إبّان الحرب الباردة. لكنّ أهمّ ما قام به “أنصار السلم” في العراق كان المذبحة التي تبادلوها مع القوميّين العرب في الموصل عام 1959. ومع اتّفاق أوسلو في 1993 لم يظهر إلاّ الحدّ الأدنى من الأدبيّات الجدّيّة دفاعاً عن ذاك السلم أو اعتراضاً عليه.

السلم ضعيف أصلاً في ثقافتنا نحن الذين لم نعرف حركة سلميّة ومناهضة للحرب واحدة وقويّة

أمّا الذين يؤيّدون الحياة بوصفها قتالاً، بتأثير ولاءٍ أعمى أو غفلةٍ أو خفّةٍ أو منفعةٍ، فيفوتهم أنّهم بهذا يخسرون شيئاً أساسيّاً من إنسانيّتهم، يُفترض أن يكون بديهيّاً، هو تفضيل الحياة على الموت. وهم حين يدافعون عن خيارهم بذريعة أنّهم يرون الموت طريقاً إلى الحياة، فإنّهم لا يفعلون سوى إضافة فصل سقيم إلى تاريخ الميثولوجيا.

فما من قضيّة، مهما سمت، يمكن أن تبرّر تحويل الحياة إلى عبء على أصحابها. هذه جريمة موصوفة ومتمادية، جريمةٌ تكرهها كلّ ذرّة في أجساد مَن يحبّون الحياة والحرّيّة، لأنفسهم ولسواهم.

السابق
إمرأة وحيدة رافقت بريغوجين وعطل تقني أخّر الطائرة..هيئة الطيران الروسية تكشف أسرار رحلة الموت!
التالي
الصفقة «ماشية»..تحرير ارصدة مجمدة لإيران في كوريا الجنوبية وتركيا والعراق!