حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: الجلسة ١٢ وظاهرة العنوسة السياسية

حارث سليمان
يخص الناشط السياسي والأكاديمي الدكتور حارث سليمان "جنوبية" بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته الإلكترونية.

كان انعقاد الجلسة النيابية لانتخاب رئيس للجمهورية، التي حملت الرقم ١٢، انجازا بحد ذاته، فرئيس المجلس النيابي في تجواله المتعدد المحطات لانتهاك الدستور، وفي ممارسة هوايته المستمرة في الخروج عن اصول الحياة البرلمانية الديموقراطية، كان قد اضاف الى سلطاته الناشئة من مزاجه واهوائه، سلطة تصنيف المرشحين بين مرشح جدي وغير جدي، كما اضاف الى سلطاته حقا لم يرد في اي نص، بالامتناع عن الدعوة لجلسات انتخاب رئيس الجمهورية، في وقت بلغ الشغور الرئاسي شهره السابع، فيما ينص الدستور ويلزم رئيسه في اعتبار مجلس النواب، في حالة انعقاد، قائمة طبقا للقانون وملتئم حكما، ويحق له الاجتماع، دون الحاجة الى دعوة من رئيسه، وفي انتهاك آخر للدستور في مادته ال ٧٤، في إهمال اعتبار المجلس هيئة ناخبة لا تقوم باي عمل اخر، قبل انهاء حالة الشغور وانتخاب رئيس الجمهوية. ان تعقد هذه الجلسة بعد كل ما اوضحنا كان انجازا بحد ذاته.

امَّا الإنجاز الثاني، فهو إستعراض وتبيان حساب الاوزان والاحجام وتبلور صراع الارادات، فالمخضرمون في السياسة اللبنانية يعلمون انه منذ سنة ١٩٧٠، لم تجر انتخابات رئاسة جمهورية في لبنان، الا تحت ضغط نار اقليمية او قرار وصاية او احتلال اجنبي، آخر انتخابات رئاسة جمهورية حافظت على بعض المظاهر الديموقراطية السيادية، وكانت انتخابات بكل معنى الكلمة، هي انتخابات الرئيس سليمان فرنجية الجد التي خاضها بمنافسة مع الرئيس الياس سركيس.بعد ذلك التاريخ، كانت كل انتخابات رئاسية جرت، هي نتيجة هيمنة دولة اجنبية او اكثر من دولة، مارست سطوتها ووصايتها وقررت من يكون الرئيس، ليكون دور مجلس النواب، اخراج القرار الاجنبي وتلبية شكلياته القانونية، وتقديمه على شكل انتخاب ديموقراطي؛ كان العامل الاسرائيلي والاميركي حاسما في ايصال الرئيسين بشير وامين الجميل، وانتج اتفاق الطائف إنتخاب الرئيس رينيه معوض، ثم كانت مرحلة انتخاب الرئيس الياس الهراوي، وحتى الانسحاب السوري سنة ٢٠٠٥،  اضافة للتمديد للرئيس اميل لحود، حيث  انفردت سورية في تسمية رئيس الجمهورية في لبنان، ثم انتج مؤتمر الدوحة رئاسة الرئيس ميشال سليمان، فيما أوصلت بندقية حزب الله الرئيس عون الى سدة رئاسته، كما اعلنها بالفم الملآن نائب الحزب الإلهي السيد نواف الموسوي من على منبر البرلمان اللبناني.

خلال كل هذه الحقبة، لم يكن البرلمان اللبناني مكان تتصنع فيه الرئاسة اللبنانية، ولم تكن اصوات النواب سوى ترجمة لتأثير الخارج وترجيع لأصدائه

خلال كل هذه الحقبة، لم يكن البرلمان اللبناني مكان تتصنع فيه الرئاسة اللبنانية، ولم تكن اصوات النواب سوى ترجمة لتأثير الخارج وترجيع لأصدائه، ولذلك  كانت الجلسة ال ١٢ هي خطوة بارزة في طريق طويل يتوجب تعبيده لكي يتمكن البرلمان اللبناني من ممارسة وظيفته ودوره.

منذ اتفاق الدوحة واحداث ٧ ايار، لم يحدث ان تظهر وتبين ميزان قوى برلماني وسياسي، يضع حزب الله وشريكه في الثنائية المذهبية حركة امل، في موقع مأزوم وفاقد لخيارات بديلة!. ولم تتجمع منذ تاريخه، ارادات سياسية، تناهض املاءات الحزب وخياراته وسلوك الاستعلاء والغطرسة الذي يمارسه… وعلى الرغم من تمكن الوزير سليمان فرنجية من الحصول على ٥١ صوتا، وهو رقم فاق التقدير الذي كان يعطيه ٤٥ صوتا في احسن حال، والزيادة نتجت عن اصوات نواب الارمن وتمرد بعض من نواب التيار العوني، فان النتيجة الشاملة اظهرت رفض ٧٧ نائبا لخيار فرنجية، ليس لشخصه فقط، بل مناهضة لسطوة حزب الله ورفضا لهيمنته.والنتيجة هذه تظهر كم كانت واهمة وزائفة ادعاءات الرئيس نبيه بري بان فرنجية يستطيع الفوز باكثرية ٦٥ صوتا مضمونة، كما فاز هو نفسه في رئاسة مجلس النواب.

حسابات بري في هذه الواقعة، كانت تراهن على تدخلات خارجية من فرنسا متعددة الاتجاهات

وان كنا لا نستبعد عن بري خبرته في بيع الاوهام وتزييف الوقائع، فإن حسابات بري في هذه الواقعة، كانت تراهن على تدخلات خارجية من فرنسا متعددة الاتجاهات، الاتجاه الاول لدى المملكة العربية السعودية، بحيث تقوم المملكة بالضغط على نواب التقدمي الاشتراكي  وكتلة الاعتدال، من اجل انتخاب فرنجية وعلى نواب القوات والكتائب، وتجدد من اجل استكمال وتأمين  نصاب ٨٦ نائبا، اما الهدف الثاني للتدخل الفرنسي، فهو استدامة المتاهة السياسية التي كان  نواب التغيير يدورون فيها، لمنع قيام تقاطع سياسي، يصل الى تأييد بديل، ينافس الوزير فرنجية ويتغلب عليه.كما كانت حسابات بري تعتمد على دور مفصلي لجيلبير الشاغوري، في تأمين اصوات مترددة او راجفة يوم الاقتراع.ويتضح من كل ما تقدم، ان رهانات الممانعة الحقيقية، كانت معقودة على دور حاسم لسفارات الدول الخارجية، ولمال سياسي يستعمل حيث تدعو الحاجة… ليس في تبيان هذه الوقائع من غرابة، سوى ان الممانعة، التي دأبت منذ نشأتها على وصم خصومها بعملاء السفارات والدول الخارجية، قد ضبطت بالجرم المشهود، متلبسة بجريمة الرهان على محورين  خارجين اثنين وليس واحدا فقط، الأول يمتد من دمشق الى طهران والثاني يمتد من نيجيريا الى باريس.

اصل حسابات الثنائية المذهبية، فهو انها اعتبرت الاتفاق الايراني السعودي، محطة تهدئة عابرة، سرعان ما يستعيد الطرفان بعدها الخصومة واليات الصراع المعتمدة

أما اصل حسابات الثنائية المذهبية، فهو انها اعتبرت الاتفاق الايراني السعودي، محطة تهدئة عابرة، سرعان ما يستعيد الطرفان بعدها الخصومة واليات الصراع المعتمدة، فيما اعتبر بعض آخر اشد ممانعة وحماسة، ان الاتفاق يعني خضوع السعودية لايران، وهي قراءة خاطئة تبنتها بعض الاقلام الصحفية الجادة، في حين ان الحقيقة التي تتكشف يوما بعد يوم، ان الاتفاق هو تعهد مشترك من الطرفين، بالتخلي عن خيارات المواجهة والصدام في مختلف ازمات المنطقة، وان هذا التعهد يلزم ايران باسقاط فكرة تصدير الثورة الايرانية، ووقف سياسة زعزعة المجتمعات العربية عبر ميليشياتها واذرعتها.

ولذلك لم يترجم هذا الاتفاق تقدما لحلف الممانعة في لبنان، ولا تسهيلا لوصول مرشحه لسدة الرئاسة.وقد أظهرت خارطة التصويت ان السعودية لم تتدخل، لا لمواجهة فرنجية و لا لدعم جهاد ازعور، كما اظهرت النتائج والتطورات، ان فرنسا تخلت عن تسويق تسوية تتضمن وصول وانتخاب فرنجية.

اخيرا ماذا عن نواب التغيير؟! ومن الواضح انه لا يصح بهم هذا الوصف، بل ان الصفة الاصدق هي “نواب ١٧ تشرين”، ولذلك فان عددهم اكبر من ١٢ نائبا. هؤلاء لم يستطيعوا ان يتوصلوا الى خارطة طريق للتغيير، ولا الى اعلان أجندة سياسة مفاتيحها ثلاثة كلمات: “سيادة” ، “مساءلة”، “تعافي”. في معركة الرئاسة كان عليهم منذ اليوم الاول، ان يتبنوا  ترشيحا جديا واحدا ويثبتوا عليه، ويمكن له استقطاب الكتل النيابية، ويراكموا حوله دعوات سياسية ومبادرات وتقاطعات وتحالفات، لكنهم تأرجحوا بين الاستعراض الفردي المبتذل، والانصات للموقف الفرنسي والتفاعل الايجابي معه، علما ان فرنسا، حتى زيارة البطريرك بشارة الراعي الى باريس، كانت تسوق لفرنجية، ومارس اغلبهم صبيانية سياسية، على طريقة “شوفيني يا منيرة”!!

عقلية التطهر الثوري، التي اودت بهم للعنوسة السياسية، وضعتهم على رصيف الحدث

فيوم كان نبيه بري يهمدر انه قادر على انتخاب فرنجية ب ٦٥ صوتا، كانت فرصة لنواب التغيير، لكي يطرحوا مرشحا واحد جديا ومؤهلا عربيا ودوليا، ويستدرجوا باقي القوى للتقاطع في تأييده، لكن عقلية التطهر الثوري، التي اودت بهم للعنوسة السياسية، وضعتهم على رصيف الحدث، فوصلنا الى التقاطع على الوزير ازعور، واصبح الاختيار محصورا بين ازعور وفرنجية.. الخيار الثالث في هذا الوقت كان مطلبا لحزب الله ولمصلحة فرنجية، جدتي كانت تروي على طريقة لافونتين؛ النملة سألت الصرصور، شو كنت تعمل بموسم  الحصايد؟ اجابها كنت اغني قصايد، أجابته، ابقى جائعا ومارس الرقص، ليس  قدرا ان نرقص مع الصراصير!

السابق
بعدسة «جنوبية».. «جميزتنا الحبيبة»!
التالي
جنبلاط يُعلّق على تصريح لمرشح رئاسي أميركي.. ماذا قال؟