حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: بين السطل والعلك والفراغ والشرير والفرعنة

حارث سليمان
يخص الناشط السياسي والأكاديمي الدكتور حارث سليمان "جنوبية" بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته الإلكترونية.

في أسبوع واحد مضى، ظهر وزير خارجية لبنان مشاركا في القمة العربية المنعقدة في جدة، وهو يلوك في فمه علكا يمضغه، في بلاد انتقلت من مرحلة السفر على الجمل الى بناء “نيوم”، كأحدث مدينة في العالم وفي التاريخ معا، ولم يكتمل المشهد المعيب هزلا، إلا بتدخل مراقب البروتوكول ليسحب العلك من العلّاك…

في موازاة ذلك، كانت تصدر مذكرة توقيف دولية يتم ابلاغها الى الانتربول ليُصدِرَ بطاقةُ حمراء، تقضي باعتقال حاكم مصرف لبنان السيد رياض سلامة، والادعاء عليه من قبل القضاء الفرنسي، بجرائم فساد مالي، وتنظيم “عصبة أشرار” لممارسة تبييض الأموال” وسرقة المال العام…

ولكي تستكمل المشهدية بؤسها، فقد حاول رئيس وزراء لبنان، الذي لم يحظ في كواليس القمة سوى بلقائين يتيمين بالرئيس المصري ورئيس وزراء العراق، مانح الفيول لشركة كهرباء لبنان الناهبة المنهوبة، حاول استدرار شفقة دول العرب من اجل مساعدة لبنان وحل ازماته المتفاقمة، فادلى بدلوٍ للتسول والاستجداء، بدل أن يدلي برأي أو يقترح سياسات، او يطالب باعتماد استراتيجيات و برامج للتعاون العربي، أو للتضامن في مواجهة التحديات.

بين علاك رأس الديبلوماسية اللبنانية، وسطل استجداء وتسول الرئاسة الثالثة، وفراغ الرئاسة الأولى، والبطاقة الحمراء لاعتقال عصبة اشرار أدارها رأس السلطة النقدية، و إمعان رئاسة السلطة التشريعية في انتهاك الدستور وإفساد كل آلية انتخاب ديموقراطية، بين السطل والعلك والفراغ والشرير والفرعنة، تتبدى صورة السلطة الحاكمة في لبنان، صادمة قاسية ومريعة… الصورة هذه يراقبها الخارج الإقليمي والدولي، كما يدفع أثمان تفاهتها شعب لبنان وأجياله، فهل هذه صورة لبنان الشعب والناس؟!

واذا لم تكن هذه صورتنا فكيف نستعيد جمال هويتنا، وألق عيوننا ورفعة جباهنا ومياه وجوهنا؟
كيف نعود لكرامتنا، لعنفواننا ولعزة انفسنا؟!
كيف نوقف عبث منظومة الفساد والفشل والارتهان للخارج، ونمنعها من استكمال ممارسة الخيانة الوطنية، بالتفريط بثروات لبنان الطبيعية خدمة لكيان العدو؟
كيف نستعيد آليات العدالة والمساءلة لجريمة المرفأ؟
كيف نستعيد نهوضنا الاقتصادي وعافيتنا المالية؟
وكيف نؤمن لأصحاب الأجور قدرة شرائية لرواتبهم، تحفظهم من بؤس الفقر وآلام المرض وظلامية الأمية والتسرب المدرسي؟!

تلك أسئلة وعشرات غيرها، تطرحها الأزمة ولا يتصدى لها، لا أحزاب التقليد، ولا فرسان التغيير، وهي الاسئلة الثاقبة التي تنتظر الاجابة!. وقد آن الاوان لتتصدى نخب سياسية ووطنية لهذه المهمة الواجبة والجليلة!

وأولى الاجابات تتبدى في العودة الى البديهيات، والطبيعي ان تكون البديهيات مسلمات، ويوم تحتاج البديهية الى برهان، سيكون يوما لبداية انحطاط قيمي وثقافي يتبعه انحطاط في كل المجالات.

كتب الصديق د. محمد علي مقلد في “نداء الوطن” معلقا على مذكرة اعتقال رياض سلامة بتأكيد البديهية التالية: “المعيار الذي اعتمده هو ما قالته الثورة منذ يومها الأول. الوجع مالي والمرض سياسي. كل من هو في موقع المسؤولية في الدولة مسؤول عن الأزمة. لا أحد فوق الغربال. لا زعيم ولا رئيس ولا وزير ولا نائب ولا موظف كبير” ثم أضاف في مقطع آخر : ” أخطر ما في الأزمة ليس الانهيار المالي، بل تهرب المسؤولين عن الانهيار من تحمل مسؤوليتهم عنه. … منذ بداية الثورة حذرنا من التركيز على الثانوي وإغفال الأساسي، وقلنا لأهلها «لا تسددوا خارج المرمى». أما السلطة فكانت من خلال أدواتها وأجهزتها تضرم النار في هشيم قضايا وأحداث وظاهرات فساد ثانوية أو جزئية، وتمعن بتعطيل الحلول والتمادي في سرقة المال العام، حتى في ذروة الانهيار وتبديده على صفقات مشبوهة.

وفي حوار ثنائي مع صديقي اوضح د. مقلد فكرته، من أن استهداف سلامة هو ” خارج المرمى تماما، المرمى كما حدده في مقالة سابقة، “قائمتان من الشيعية السياسية وعارضة من التيار الوطني الحر”؛ يحاسب هؤلاء بداية محاسبة سياسية ويتولى القضاء المستقل محاسبة من تبقى محاسبة تقنية.
لا اعتراض على تشخيص د. مقلد في ترتيب المسؤوليات، بين أساسي وثانوي، لكن اعتراضي على رفضه محاسبة سلامة قبل محاسبة المستوى السياسي.

ولذلك أجبته بأنني لا أعتقد أنه تسديد خارج المرمى، والتسديد في زاوية المرمى لا في وسطه يحتسب هدفا، ومن المعروف انه لايهدم بنيان الا من نقاط ضعفه وفي أطرافه”. واضفت : لو فرضنا أنه دخل منزلَ احدهم ٤ سارقين، وبدأوا السرقة ونقلوا جزءا من اثاث المنزل ومقتنياته، ثم استفاق صاحب المنزل وهمَّ بملاحقة السارقين واعتقالهم حاملا سلاحه، لكن لم يتمكن من اعتقال الا واحد منهم، فيما تمكن الثلاثة الاخرون من الفرار في سيارة مليئة بالمسروقات، ثم وصلت الشرطة، فما العمل : هل يفرج عن السارق المعتقل بحجة فرار الثلاثة الآخرون وتمكنهم من السطو على المسروقات!؟

إقرأ أيضاً: حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: تصفية قيادة «سرايا القدس» في ظلال «وحدة الساحات»

في حين أن السارق الرابع الذي لم يجد صاحب البيت بحوزته، إلا ساعة ثمينة وهاتف خليوي و قارورتي عطور، وهي لا تشكل إلا نسبة ١٠ بالمائة من مجموع المسروقات.
ام انه يتمسك بالسارق الرابع ويسلمه للشرطة ويدعي عليه، ويحمله بقية قيمة المسروقات، التي كان متواطئا في سرقتها، ويتم التحقيق معه لكي يفضح شركائه ويحدد شخصياتهم وارتباطاتهم وسوابقهم وكل ارتكاباتهم السابقة.

لكل جريمة طرف خيط لكشفها والتوسع في التحقيق فيها، وقد يكون رياض سلامة هو أول الخيط في شبكة المافيا

لكل جريمة طرف خيط لكشفها والتوسع في التحقيق فيها، وقد يكون رياض سلامة هو أول الخيط في شبكة المافيا المتكونة من سياسيين ورجال دين وضباط امنيين، وقضاة، ورجال اعمال، وقادة أحزاب ورعاة اقليميين، وبنكرجية وأصحاب مصارف، وتفكيك هذه البنية ومحاسبتها من اية جهة وكيفما كانت البداية مفيد وايجابي، وطبعا لا يبدأ تفكيك هذه المافيا السياسية المالية الطائفية الا بحلقاتها الضعيفة او باضعف حلقاتها، أضعف الحلقات السياسية الطائفية كانت الحريرية، التي خرجت مبكرا من المعادلة، نتيجة ضغط سعودي، واضعف حلقة في نظام البنكرجية رياض سلامة، ولذلك يتوجب النظر الى المسألة كعملية تفكيك مستمرة، وليس انتقاء لمحاسبة طرف وترك الآخرين في مكانهم.

وقد تناول الصديق جهاد الزين من ناحية اخرى الموضوع نفسه، فنشر في النهار مقالة أورد فيها: ” لم أحمِّل رياض سلامة يوما وحده مسؤولية الانهيار المالي. لم يكن عندي شك بأنه “مدير خزانة” المنظومة السياسية الحاكمة وأنها هي، أي المنظومة، بإدارتها للدولة، المسؤولة الكبرى مع قطاع المصارف عن الانهيار…

الكلام الفارغ الذي نسمعه في التشكيك بالقضاء الفرنسي وبالقاضية أود بوريسي التي أصدرت مذكرة توقيفه، هو تأكيد على حقيقة المتداوَل

الكلام الفارغ الذي نسمعه في التشكيك بالقضاء الفرنسي وبالقاضية أود بوريسي التي أصدرت مذكرة توقيفه، هو تأكيد على حقيقة المتداوَل كما على درجة وقاحة بَلَغَتْها الحياة السياسية في لبنان….

قرار بوريسي يفتح نار جهنم على الطبقة السياسية اللبنانية بكامل. وهي الطبقة المتعددة الطبقات التي تُصبح مع الوقت موحدة المصالح الأمنية والسياسية….
…. الفرنسيون يعيدون تأسيس النظام السياسي بل يعيدون “تأسيس” الجمهورية كنظام حوكمة ومحاسبة في درس عملي لكل المنظومة السياسية النافذة لن يكون بعده مثل ما قبله…..يكفي أن عدد الذين “يتحسّسون رؤوسهم” في لبنان قد تضاعف مرات . إنها صدمة قرار التوقيف في نظام قضائي محترم كالنظام القضائي الفرنسي وهو اليوم يسجِّل مأثرة جديدة بالحكم الصادر بسجن الرئيس الفرنسي السابق نيقولا ساركوزي بتهمة فساد مالي ومحاولة التأثير على القضاء.

هذه لحظة تاريخية فعلا في لبنان وينبغي لفعاليات ما تبقى من ثورة 17 تشرين أن تجتمع وتنشط لاستثمار حدث طلب توقيف حاكم البنك المركزي اللبناني في سياق إعادة تجديد الثورة الشبابية، لأن هذا التوقيف كجزء من الإسقاط الأخلاقي للمنظومة الحاكمة والذي قامت به الثورة، من شأنه أن يمثّل الحدث الأهم منذ عام 2019 تاريخ اندلاعها.

إذا كان لهذا القرار (طلب توقيف الحاكم) أن يذهب في مسار تغييري، فيجب التعامل معه كإشارة انطلاق ثورية بعده ليس مثل ما قبله كما أشرنا، لأنه الحدث التأسيسي الذي يجب أن يُثبِت اللبنانيون أنهم جديرون به كمكافأة دولية غير مسبوقة ضد كل من أذلّوهم ليس فقط على أبواب المصارف المجرمة بل أيضاً في مرفأ بيروت وفي كل مكان عجزوا عن دفع أسعاره بعملة وطنية منهارة”.‏

قد لا اشارك جهاد الزين درجتي حماسته وتفاؤله لكنها لحظة مفصلية وتاريخية لا يصح اهمالها او تجاوزها.

السابق
دولة تكشف عوراتها.. «بلا مايوه»!
التالي
بالفيديو.. أبو شقرا: «دولرة» المحروقات تحمي من التلاعب!