قصة قصيرة: رَجُلٌ كلُّ ما يلمسه يصبح جيفةً

رجل بلا مأوى يمشي أمام المتاجر المغلقة بفعل التعبئة العامة بوجه كورونا في بيروت (رويترز)

ستأذنُ القراءَ اليوم أن أستبدل مقالي السياسي بقصة قصيرة يمكنها أن تكون جزءاً من كتاب قصص للأطفال.

هي قصة ليست عن الملك الذي صار كل ما يلمسه ذهباً، بل عن رجل في بلدٍ ناءٍ امتلك ذهبا كثيرا وصار مسيطرا على مقاطعات عدة في ذلك البلد. لم تعاقبه الأقدار بأن جعلت كل ما حوله وبين يديه حتى الطعام يتحوّل إلى ذهب. فهذا الرجل الذي كان لديه جوع عتيق إلى النفوذ والسلطة عاقبه الدهر بطريقة مختلفة حين اكتشف ولم يصدِّق أن كل ما يمسه من ثروات أو يمارسه من نفوذ يتحوّل إلى جيفة. العروش التي أقامها في مقاطعاته، الإمارات التي استلمها، تحوّلت إلى جِيَف ذوات رائحة نتنة.

اقرأ أيضاً: بشتاشان «خلف الطواحين»… وثمة ذاكرة

ما قيمة السلطة التي أقبلتُ عليها معظم عمري باندفاع وشراسة وشراهة إذا كانت أصبحت جيفة مهترئة؟ سأل الرجل في البلد النائي أحد المقرّبين إليه وفي عينيه خيبة عميقة جعلتهما صفراوَيْن.
السلطة التي تتجيّف لا تعود سلطة، قال المقرّب الذي بدأ يستعد لمغادرة البلد وهو يبتسم ابتسامة خبيثة.
تابع الرجل وهو يجلس على العرش:
كنتُ ألتهم خرافاً صرتُ ألتهم جِيَفاً، لقد أصبحتُ ضبعا بعدما كنتُ ذئباً.

سأله المقرّب:
كان المعروف عنك أنك تستمتع بممارسة السلطة، هل ما زلت كذلك؟
لو كان الأمر كما كان، أي لا زالت السلطة ممتعة، لما كنتَ ستجرؤ أنتَ على طرح هذا السؤال عليّ!
كان هذا الرجل قادرا على فهم ما ومن يحيط به وهو الذي اختارهم أصلا. كان تقييمه معقّدا، فهو يحسن فهم من هو الموالي المنضبط، ونادرا ما أخطأ في ذلك ، أما فهمه للكفاءة، أي من هو الكفؤ وغير الكفؤ، فهناك “سقف” لقدرته على ذلك.
ما قيمة السلطة على شعب جائع أو مفلس؟

كان في محيط الرجل من يعرف أن شعورا جديدا أخذ يدغدغ أحاسيسه وهو أنه صار يحسد الذين سبقوه طويلا في التواجد في مواقع الثروة والسلطة بعدما كان مهتما فقط بالزهو أنه انتصر عليهم وأبعدهم…
تعجّب من نفسه كيف صار هذا الشعور يسيطر عليه ويجعله حزينا وغير قادر على الاستمتاع لا بموقعه السلطوي ولا بثروته الشخصية الضخمة.
قلقه، إذا جاز التعبير، مُركّب. فهو قلق لأنه يخشى على ثروته الموجودة في الخارج في خزائن محمية في بلاد بعيدة. وهو حزين لأنه قلق. فبالنسبة إليه الثروة والسلطة لكي تكتملا يجب أن لا يساورهما أي حزن.
انتقم من جميع من يكره. وماذا بعد؟

الْتهم كل الولائم التي طلبها ولم يشبع، وعندما ظهر أن باستطاعته الاستقرار حصلت العقوبة: كل شيء يمسه يصبح جيفة ذات رائحة نتنة. حتى الأموال التي وضعها آخرون في المصارف تحولت إلى جيف بمجرد أن تعامل الرجل مع أصحاب مصارف، كان الرجل يقترض منهم فيعطونه من أموال الناس وليس من أموالهم الخاصة التي أصبحت جميعها، كأموال الرجل – الضبع الكبير في الخارج.

كان لا يؤمن بالعقوبة. خصوصا الإلهية ولكنه طبعا لم يكن ليصرّح بذلك لأن الظهور بمظهر ديني، حتى بعد أن أصبح ضبعاً، كان من ضرورات النفوذ. الآلهة لا تعاقب الشاطرين في العالم المتوحش. كان الضبع يرى أن لديه فرصة للخلاص. ويحوِّلها الإحساس، الفرصة، إلى مبرر للمزيد من التشبث بالسلطة.
فكّرَ مرةً: هل يستطيع أن يصبح زاهدا؟

كان هذا تفكيرا شجاعا مع نفسه وعليها. ولكنه اكتشف أنه من الناحية العملية لم يكن ذلك باستطاعته فجاء بغراب من الغابة المجاورة لقصره وطلب استشارته. ثم أخذه معه إلى الصيد ولكنه جاع بعدالظهر فقتله مع أن الغراب كان جائعاً أكثر. . قال الرجل لنفسه: الغربان مهيأة لاستشراف الأقدار السيئة وبارعة فيه بالفطرة. لذلك خاف أن يلتهمه الغراب بطريقة ما فصمّم على قتله. لكن الغراب تعجّب أنه يريد قتله فسأله: طالما أنك تستطيع أن تحوّلني إلى جيفة بلمسة منك فلماذا تذبحني؟

هل تستطيع الجيف أن تكون مفيدة لغير الضباع؟ صار الرجل يسأل … ولم يصل إلى جواب. المعضلة، معضلته، أنه لم يقبل فكرة أن الحكمة القدَرية مما يحصل معه هي أن زمنه انتهى وأنه لا دواء يُشفيه من لعنة تحوّل كل شيء يلمسه إلى جيفة.
لاحظ الضبع الكبير وهو يخرج مرةً إلى حديقة منزله أن عددا من الضباع الصغيرة تلهو في الحديقة. فسأل: هل كل معاونيّ أصبحوا ضباعًا؟ فقيل له ليس الكل بل الفئة التي تتعامل منهم بالشؤون المالية. هؤلاء أيضا كل ما يلمسونه يصبح جِيَفاً….
صمت الضبع الكبير ودخل إلى غرفة نومه واستغرق في بكاء أشبه بالضحك.

السابق
«شيطنة» اللاجئين السوريين في لبنان لعبة محفوفة بالمخاطر و«خطاب العنصرية» ليس فعلاً وطنياً
التالي
دعوة لمؤسسة لتعارفوا.. في معرض الكتاب بطرابلس