وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: دستور الطائف والدستور الرديف

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.

مهما قيل في دستور اتفاق الطائف، لكنه بحده الأدنى حاسم في الطبيعة الديمقراطية للنظام اللبناني، وفي حرية المعتقد والتعبير، وفي سيادة الشعب حصراً، وفي مراعاة العملية الانتخابية لشروط الحرية والمساواة، وفي عمومية التمثيل النيابي. طبعاً هذا لا يعفي الدستور اللبناني، من هنات وثغرات تعكر صفو الحياة السياسية وتعرضها للتعطيل أحياناً، بخاصة حين يساء استعمالها وتفسيرها بطريقة مخالفة لروح الدستور وجوهره، لخدمة غايات أيديولوجية وشخصية وحزبية على حساب المشهد العام. فما يحصل في لبنان لم يعد مجرد مشكلة حول فهم الدستور أو تفسيره، بل أمام أزمة أخطر، وهي نشوء دستور مواز وبديل للدستور الحالي، يسعى إلى تقويض الديمقراطية بل قلعها من أساسها، وإلى تعويم منطق جديد أساها الوصاية المبطنة والأبوية المقنعة والرعوية (منطق الراعي والرعية) المباشرة.

اقرأ أيضاً: وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: عقدة ذنب اللبنانيين تجاه قادتهم    

الدستور اللبناني واضح وصريح في الحقيقة السياسية للنظام اللبناني بصفته نظاما ديمقراطياً

الدستور اللبناني واضح وصريح، في الحقيقة السياسية للنظام اللبناني بصفته نظاما ديمقراطياً. هذا التحديد ذكر في ديباجة الدستور، اي النص الذي لا يقبل التأويل ويعلو أي نص يليه داخل الدستور أو أي نص قانوني خارجه. فلبنان بنص الدستور “جمهورية ديمقراطية برلمانية”، والشعب فيه “مصدر السلطات وصاحب السيادة يمارسها عبر المؤسسات الدستورية الشرعية”، حيث لا شرعية خارج الشعب تملي عليه ولا شرعية تشاركه هذه السيادة أو تقاسمه إياه من قبيل ثلاثية “الشعب والجيش والمقاومة”، التي رُوِّجَ لها وتناقض الدستور نصاً وروحا. كما إن هذه السيادة متموضعة حصراً داخل المؤسسات الدستورية، ما يعني أنها المكان الوحيد الذي يؤخذ فيها القرار أو يتم تداوله، وكل إملاء أو توجيه أو ممارسة سلطة أو إكراه من خارجها، مثلما تمارسه بعض أحزاب لبنان السياسية التي تمارس وصاية مبطنة على الشعب والدولة معاً، هو انتهاك لهذه السيادة وتعدياً عليها بحسب ما ينص عليه الدستور.  

حرص الدستور على سلب أية صفة حزبية عن النائب أو حتى بأن يكون محصوراً بمن ينتخبه أو بالحزب الذي يرشحه ويمثله

وقد حرص الدستور على سلب أية صفة حزبية عن النائب، أو حتى بأن يكون محصوراً بمن ينتخبه أو بالحزب الذي يرشحه ويمثله. فانتخابه من قبل عدد معين من الناخبين، أي جزء من الشعب، موجب قانوني ليكون نائباً. أما صفته التمثيلية بعد أن يصبح نائباً فلا تنحصر بمن انتخبه، بل تتخذ صفة شاملة تطال كل أفراد المجتمع، أي يصبح ممثلا للأمة كلها بحسب نص الدستور: “عضو مجلس النواب يمثل الأمة جمعاء”، فلا تعود وكالته النيابية محصورة بجهة أو طائفة أو منطقة. فالدستور ينص على أنه: “لا يجوز أن تربط وكالته (النائب) بقيد أو شرط من قبل منتخبيه”. وهذه ميزة لافتة في الدستور اللبناني، الذي أعطى وكالة النائب التمثيلية صفة شمولية، غير قابلة للتجزئة والتبعيض أو التقسيم والتقطيع.

فتمثيل الأمة، مثلما السيادة، معنى واحد بسيط غير مركب، لا يكون بتجميع قطعاً وأجزاء تمثيلية ليتشكل الكل. أي ليس التمثيل بحسب الدستور مجموع أو اتحاد ممثليات، بل هو في أساسه وحقيقته، تمثيل واحد ومعنى واحد كلي لكل الشعب، يتجسد في كل نائب. وهذا يحدد طبيعة أداء النائب وسلوكه، فلا يعود نائب طائفة أو منطقة أو حزب، أي تنتفي مع النائب كل صفاته وخصوصياته، أو حتى انتماءاته الحزبية والدينية والطائفية، ليمارس دوراً كلياً عمومياً بإسم الشعب اللبناني كله لا جزء منه، وليكون الشعب مرجعه الحصري في المحاسبة والمطالبة.
وهنا نجد التفاتة مهمة في النص الدستوري، لا أعرف إذا كانت مقصودة من واضعي دستور الطائف أم لا، وهي الفصل بين التوزيع الطائفي لمقاعد المجلس النيابي، وبين الطبيعية التمثيلية للنائب ولدوره.

التوزيع الطائفي أو المناطقي للنواب غرضه التأكد من مطابقة تمثيل المجلس النيابي لكل مكونات الشعب اللبناني

فالتوزيع الطائفي أو المناطقي للنواب، غرضه التأكد من مطابقة تمثيل المجلس النيابي لكل مكونات الشعب اللبناني، أما الطبيعة التمثيلية للنائب، حال صيرورته نائباً، لا تنحصر بالجهة أو الطرف الذي انتخبه، بل تسقط صفة التمثيل الطائفي عنه، لتصبح تمثيلا للأمة أي لكل الشعب اللبناني، ما يعني أنه يتحدث ويطالب ويحاسب بإسم الشعب كله، وليس لجهة أو طرف خاصين. فإذا كان توزيع مقاعد المجلس النيابي على قاعدة طائفية، فإن حقيقة التمثيل النيابي ليس طائفياً بل عمومياً وكلياً، ما يجعل نشاط النائب في عملية التشريع، قائمة على قاعدة عمومية Public تشمل كل أفراد الشعب اللبناني، لا على قاعدة خصوصية أو طائفية.

أما انتخاب رئيس الجمهورية، فقد نص الدستور على انه يحصل بالاقتراع السري. والاقتراع السري غرضه: أولاً أن يقترع النائب بإملاء من ضميره ووازعه الوطني والأخلاقي، خارج أي ضغط أو إملاء أو ترهيب، وبعيدا عن أي اصطفاف. ثانياً أن لا يُستنتطق النائب حول صوته ولا يقيد بأي التزام أو تعهد مسبق بتصويته خارج عملية الاقتراع، بالتالي يبقى ما سيدلي به نائب معين قبل الاقتراع مجهولاً، بل يبقى مجهولاً بعد الاقتراع، كي يكون بمنأى عن أية ضغط خارجي قبل الاقتراع، وأي نوع من العقاب والعواقب الشخصية والذاتية بعد معرفة نتائج الإقتراع. ثالثاً وهو الأهم، أن لا يكون بالإمكان معرفة نتائج الاقتراع إلا بعد فرزها، ما يعني أن معرفة الرئيس، لا يمكن أن تحدد أو تعرف، إلا بعد فرز أصوات المقترعين لا قبلها. لتكون انتخاب الرئيس نتيجة حصرية لعملية الاقتراع السري فقط لا غير، ولا يحدده أي توافق أو تفاهم مسبقين.

اقرأ أيضاً: وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: اللاجىء السوري..الضحية لا الجلاد

هذا ينافي بالكامل ما يجري حالياً في لبنان، من تحديد رئيس الجمهورية عبر التفاهم والتوافق المسبقين بين القوى والتيارات السياسية. ما يجعل تسمية الرئيس من صلاحية الأحزاب وقوى الأمر الواقع، لا عملية الاقتراع السري داخل المجلس النيابي. ويجعل تمثيل المجلس النيابي صوريا وشكلياً وليس جوهرياً، أي يتحول من ممثل لسيادة الشعب إلى منبر للأحزاب والقوى التي تضع برنامجه وتقرر مساره. والأخطر من ذلك كله، أن يكون اسم الرئيس قد تحدد وحسم قبل أن تحصل عملية الإقتراع، فبدلاً من أن يكون الاقتراع السري هو الحاسم وكلمة الفصل في تسمية الرئيس، يكون الاقتراع عملية صورية خالية من أي مضمون سيادي أو ديمقراطي، لتنحصر وظيفته بإسباغ شرعية قانونية على الرئيس الذي تم التوافق عليه قبل الاقتراع، بالتالي يكون الإقتراع لا سبباً مباشراً لتعيين الرئيس، بل شهادة زور على عملية لا ديمقراطية، وخيانة يمارسها النواب المقترعون بحق الدستور الحالي وجوهره.

ما يحصل في لبنان ليس اختلافاً في تفسير الدستور وتأويله بل هو تلاعب بنصوصه وتفريغها من مضمونها وحقيقتها تمهيدا لتعطيلها بالكامل رغم بقائها نصوصاً رسمية

هذه المعطيات، تشي بأن ما يحصل في لبنان ليس اختلافاً في تفسير الدستور وتأويله، بل هو تلاعب بنصوصه، وتفريغها من مضمونها وحقيقتها تمهيدا لتعطيلها بالكامل رغم بقائها نصوصاً رسمية. لتكون العملية السياسية وصنع القرار، خاضعان لدستور آخر رديف غير مكتوب وغير منصوص، لكن قائم على عرف سياسي، تقرر قواعده ومبادئه موازين القوى وسلطات الأمر الواقع.  

السابق
نواب تغييريون طعنوا بالتمديد للبلديات أمام المجلس الدستوري
التالي
الحداثة المتوحِّشة تلتهم منطقتنا