الحداثة المتوحِّشة تلتهم منطقتنا

حرب السودان

بعد الحرب العالمية الأولى جرى تباعاً رسم حدود عدد كبير من الدول الجديدة في ما اصطُلِح على تسميته أميركياً: الشرق الأوسط. وحدها كما تبيّن لاحقاً بقيت خارطة فلسطين التي تقع في قلب هذا الشرق الأوسط مفتوحةً على لاحدود نهائية، ولاتزال مفتوحة. حتى تأسيس إسرائيل عام 1948 لم يستطع تكريس هذه الحدود مع فشل مشروع التقسيم الدولي لفلسطين إلى دولتين يهودية وإسرائيلية و منطقة تحت إشراف دولي هي القدس. والملف مفتوح طالما لم تستقر نهائيا حدود فلسطين بين إسرائيل وجيرانها الفلسطينيين.

بقيت الحدود مفتوحة إلى اليوم، وارتسمت مع الوقت معادلة تجعل كل الشرق الأوسط مهدداً. مصر رغم حربين خاضتهما انتزعت بالتفاوض السلمي استقرار حدودها، سوريا لا يُعرف إلى الآن مصير الجولان في الجزء الغربي من جنوبها، والأردن قَبِل من جانب واحد الاكتفاء بحدود شرق الأردن “متخلياً” عن الضفة الغربية التي أصبحت مع قطاع غزة إطار طموح الفلسطينيين إلى دولة مستقلة في حدود ما هو عشرون بالمائة فقط من مساحة فلسطين تحت الانتداب البريطاني بينما عاد الاتجاه الأكثري في المجتمع الإسرائيلي يميل إلى نشر الاستيطان اليهودي على كامل مساحة الضفة الغربية.

اقرأ أيضاً: «العلمانية المؤمنة» جسر عبور المسلمين نحو الحداثة

هذه المساحة الصغيرة التي إِسمها فلسطين وإسرائيل والمحاطة بملايين الكيلومترات المربعة من مراكش مرورا بالجزائر وتونس وليبيا ومصر والسودان ثم العراق والسعودية وبقية دول مجلس التعاون الخليجي و إيران وأفغانستان وباكستان وتركيا وسوريا ولبنان والأردن تبدو على الخارطة وكأنها العقدة التي تتوسط كل الشرق الأوسط المكشوف طالما هي مكشوفة. ليس هذا مجرد مخيلة جيوسياسية بل هو واقع انتقل في القرن العشرين مع انفجار القضية الفلسطينية وتأسيس إسرائيل إلى قنبلة موقوتة إنسانية وسياسية وأمنية أضيف عليها تفاقم ما أسميته “الحداثة المتوحشة” في كتابي “المهنة الآثمة” كلما أوغل الكيان الإسرائيلي على طريق التقدم الحضاري والعنصرية غير الحضارية.
منذ ما بعد الحرب العالمية الأولى هجمت الحداثة السياسية على المنطقة عبر تقسيم الخرائط وإنشاء الدول الجديدة. كانت هذه الحداثة قد هجمت على نفسها ففكّكت إمبراطوريات عريقة في أوروبا وآسيا وأعادت تنظيم شعوبها على أساس مادة جديدة هي النفط.

في كل من هذه الدول التي انهارت في العراق وسوريا ولبنان والسودان كانت هناك مشاريع واعدة لليبرالية السياسية والاجتماعية في النصف الأول من القرن العشرين. السودان الذي تفتك به اليوم وحوش جائعة للسلطة والقتل كان في ستينات القرن المنصرم بيئة لإنتاج نخبة ثقافية وعلمية مميزة. لماذا نجحت الحداثة في الهند البريطانية ولم تنجح في السودان البريطاني؟ عطل ما عميق أو أعطال تبرر الفارق الحضاري حتى لو أن الهند لا تزال تكافح الفقر والقومية الدينية ولكن في سياق من التقدم العلمي والاقتصادي المتواصل.
أتعجّب إلى اليوم كيف لم تبادر مراكز تفكير في المنطقة سواء بين الجامعات أو الصحافة أو مراكز الدراسات إلى تنظيم مؤتمرات دراسة لظاهرة الانهيار المتواصل لبعض دول المنطقة. ما يحول دون ذلك عائد في بعض أسبابه إلى استمرار تحكّم الأيديولوجيا المقيت والمستند إلى إرهاب سلطوي وأمني مُمَأْسَس.

ماذا تفعل الدياسبورا(ت) الشرق أوسطية المفترض أن تحمل نظرة شاملة لأوضاع منطقتنا بدل الهروب الدائم إلى البدائل الأقل صعوبة؟
لا نضال حقيقيا ومنتجا إلا على أرض الأزمة، وها هي مثلاً المعارضة العلمانية السورية وقد هربت من الحرب إلى الخارج الأوروبي والأميركي تستفيق الآن على خسارتها المدوِّية؟ أما المعارضة السابقة العراقية التي توفرت لها فرصة لم تتوفر لمعارضات أخرى، فعادت لاستلام السلطة ولكنها تقدِّم نموذجا لفساد متوحش ووضع سياسي بلا أفق. اللائحة تطول… بينما الدياسبورا اليهودية التي صنعت إسرائيل تعود اليوم لتمارس ضغطاً نقديا ضد تشددات اليمين الديني والقومي العنصرية واللاديموقراطية وانتهاكاته للشعب الفلسطيني. علينا أن ندرس العلاقة القائمة اليوم بين الدياسبورا اليهودية وإسرائيل واحتمالاتها. هل ستتمكّن أقوى دياسبورا في العالم من تغيير داخلي إيجابي في إسرائيل لصالح صيغة أكثر احتراما للشعب الفلسطيني أو أقل عنصرية ضد الشعب الفلسطيني وبالنتيجة لصالح صيغة أكثر قدرة على الاستقرار والتقدم لكلا المكوِّنَيْن اليهودي و الفلسطيني؟

يجب التوقف عند ظاهرة المناعة القوية التي سجّلتها دول مجلس التعاون في حماية حدودها وتمكنها من استيعاب الضغط الإيراني الأيديولوجي والسياسي والطائفي الذي لم يستطع بلد مثل العراق التماسك أمامه بأشكال مختلفة. كذلك نسجّل بإعجاب تمكّنَ دول مجلس التعاون اليوم من الانتقال إلى تكيف متوازن مع الحداثة حتى ذهب بعض المحللين الأميركيين إلى اعتبار أن مدينة كدبي أصبحت أقرب إلى سنغافورة وهونغ كونغ مما هي إلى بغداد أو بيروت كما “كانت” في الشرق الأوسط “القديم”.
لكن مقولة “نهاية الشرق الأوسط الذي نعرفه” هي سيفٌ ذو حدّين ومن أجدر من المملكة العربية السعودية بقيادة ولي العهد محمد بن سلمان من التصدي لحدها المؤذي الذي يتجلّى بانهيارات متتابعة لعدد من دولها لاسيما، كما ذكرتُ في مقالي الأسبق، أن ولي العهد استطاع إنقاذ النظام الملكي السعودي من الترهّل عبر الدينامية الليبرالية الاجتماعية التي أطلقها مقرونةً برؤية اقتصادية حداثية تنسجم مع تحولات القرن الحادي والعشرين.

كل ما سبق يعني أن مبادرات سياسية جديدة لا بد أن تُطلَق لبحث مسألة وقف انهيارات بعض الدول التي تتتابع بشكل مقلق. مبادرات تفاعل تجمع بين النخب الحاكمة و النخب السياسية والثقافية والاقتصادية. وفي مقدمها مؤتمر إقليمي بصيغة دولية يبحث مسألة الانهيارات المتتابعة من منظور نظام إقليمي جديد لتحقيق الاستقرار والتحديث بمفاهيم القرن الحادي والعشرين. ولا يجب أن يفوت المراقب هنا تسجيل أهمية الحركة الإقليمية الرسمية البادئة لمحاولة ترتيب الوضع في سوريا في اتجاه إنهاء كل مظاهر الحرب. فهل سيعني ذلك بدء العد العكسي لنمط استقراري أو أكثر استقراراً في المنطقة في ظل الاتفاق السعودي الإيراني وهل يستطيع هذا الاتفاق أن يحمل ويتحمّل بداية علاقات إقليمية مختلفة دون انعطافة داعمة في الجو الدولي؟

السودان دولة ذات مساحة كبيرة، حتى بعد تقسيمها دوليا وخروجِ جنوبِها الذي تعادل مساحتُه مساحةَ فرنسا، وتحولِّهِ بقرار من مجلس الأمن إلى دولة قائمة بذاتها. ولكن السودان دولة صغيرة وضعيفة من حيث الإمكانات الاقتصادية والبنية التحتية قبل تقسيمها. ها هو الضعف السياسي والعسكري والدولتي ينفجر أخيرا مع تحول الميليشيا إلى قوة قادرة على مقاتلة الجيش الشرعي الذي يكتشف الآن فداحة اعتماده عليها في فترة حرب دارفور المرشحة كإقليم للانفصال ربما مستقبلا. وللتذكير كان ملك مصر يُسمّى قبل قبول مجلس قيادة الثورة المصرية التخلي عن السودان بالاتفاق مع بريطانيا.. كان يُسمّى ملك مصر والسودان ودارفور. وستعطي بريطانيا السودان استقلاله عام 1956. وعدد سكان السودان يبلغ حوالي أربعة وأربعين مليون نسمة.

الانهيار السوداني هو الآن الوليمة الكارثية الجديدة التي تستحق استنفار نخب وسلطات المنطقة. وفي التاريخ الحديث للسودان كلما اعتقدت قيادتُه العسكرية أن التسوية مع الغرب على مشاكله الكبرى، وكانت انفصال جنوب السودان، من شأنها أن تضمن استقراره وبقاءها في السلطة، كلما ظهر لها أن الأمر مجرد هروب إلى الأمام، وحتى القبول بإسرائيل والاعتراف بها وبناء علاقات تطبيع معها لم ينقذ السلطة العسكرية السودانية من المزيد من تردّي أوضاع البلد، فذهبت إلى تناحر فضائحي وسافِر.

هناك نظام إقليمي ضعيف لم يعد يستطيع حماية دوله بالحد الأدنى من الاستقرار، أو الانهيار. ونحن في المشرق بتنا نفهم ذلك بعمق ولذلك نحن في خضم البحث عن نظام إقليمي ربما يكون باستطاعة الجيل الجديد من النخب العربية، سلطاتٍ وشباباً وشاباتٍ، كما في السعودية والخليج والمشرق، أن يساهم في البحث عن هذا النظام وتوازناته الدولية والإقليمية التي لا يمكن إلا أن تكون جديدة مع التغيّرات العميقة الحاصلة.
هذه ورشة تاريخية للباقين في المنطقة وللدياسبورات أيضا. والفكرة هنا هي مواكبة النخب للسلطات الشرعية في البحث والتصدي الديناميكي لمسألة الانهيارات المتتابعة و الكارثية التي تجعل لا خرائط المنطقة هشة فحسب بل مجتمعاتها “سائلة” أيضاً وأساساً.

السابق
وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: دستور الطائف والدستور الرديف
التالي
قدم له عباءة الصلح.. بري امام وفد شيوخ العشائر العربية: كتفا الى كتف في مواجهة الفتنة