وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: عقدة ذنب اللبنانيين تجاه قادتهم

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.

يرى الكسي دي توكفيل، الذي كان من أوائل من نظَّر في الثورة، في النصف الأول من القرن التاسع عشر، أن الناس حين تعتاد على ظروف حياة متدنية،  فلا نتوقع منها أن تحتج على واقعها، أو تثور على حكامها أو تنقلب على قادتها. ذلك أن التعود الطويل على نمط عيش بائس وحريات غائبة وقمع مستدام، يجعل تطلعات الناس إلى حياة أفضل منتفية، وتوقعاتها لما تقدمه السلطة أو الجهة الراعية لهم متدنية. يقول توكفيل: “الفقر الدائم أبعد ما يكون عن دفع الناس إلى الثورة، بل إنه يدفع الناس لأن يهتم بأمنه الخاص وأمن عائلته، وفي افضل الأحوال إلى محاولة التكيف وفي أسوئها إلى اليأس الشامل”.

التعود الطويل على نمط عيش بائس وحريات غائبة وقمع مستدام يجعل تطلعات الناس إلى حياة أفضل منتفية وتوقعاتها لما تقدمه السلطة أو الجهة الراعية لهم متدنية


وقد أقام صامويل هننغتون علاقة توازي، بين ما يسميه خط الإشباع الواقعي للرغبة، وبين خط الإشباع المتوقع للرغبة. واعتبر أن الاستقرار الاجتماعي والسياسي يقوم على التوازن بين الخطين، أي بين ما تتوقعه من الإشباع وبين ما يتحقق فعلاً من هذا الإشباع. فطالما أن الناس يجدون قدرا معقولاً مما يتوقعون وجوده فإن احتمالات الثورة والاضطرابات تتضاءل. أما إذا بدأ خط الإشباع الواقعي بالهبوط واخذ بالمقابل خط الإشباع المتوقع بالارتفاع، فإن هذا يدل على وجود هوة عالية بين ما يريده الناس ويتوقعونه من جهة وما يحصلون عليه فعلاً من جهة أخرى، حينها سيهب الناس للقضاء على ما يتصورونه عقبة في سبيل ما يرغبون الحصول عليه.

هذا يعني أن مفتاح التغيير ليس ما يقدمه الواقع السياسي، ولكن ما نتوقع أن يقدمه هذا الواقع، أي ما يعتبره الناس حقاً لهم وواجباً على السلطة، لا يمكن المساومة عليهما أو التنازل عنهما، مهما كانت الاعتبارات والظروف. فدوافع التغيير ومحركاته القوية تبدأ حين تكون معطيات الواقع السياسي وما تقوم به الدولة، إزاء ما نتوقعه متدنيا أو محدودا أو منعدماً.

هنا يكمن الجدل والصراع الخفي بين المجتمع والسلطة، المستبدة والشمولية على وجه الخصوص. حيث تسعى السلطة إلى خفض سقف توقعات الناس، من خلال تعويدهم على شروط حياة متدنية، فتجدها تقصر في تقديم الخدمات المطلوبة أو وسائل الراحة والترفيه، بل تعمد إلى تضييق الخناق على الحريات وأدوات التعبير. تفعل ذلك كله لا لتؤكد هيمنتها وسلطتها وجبروتها فحسب، بل لتسلب الناس شعورهم وقناعتهم بأن الحرية والخدمات وسبل السعادة حقاً مكتسباً لهم، بل تعمد السلطة إلى ترويج أن ما هم فيه الناس، هو نعيم وتفضل ومنة من السلطة، أي زرع مديونية في ذمة الناس.

مفتاح التغيير ليس ما يقدمه الواقع السياسي ولكن ما نتوقع أن يقدمه هذا الواقع اي ما يعتبره الناس حقاً لهم وواجباً على السلطة

كل ذلك لغرض تآلف الناس مع الواقع الموجود والتكيف فيه، وتصور أنه ليس بالإمكان أحسن ما كان، وأن ما يحصل أمر طبيعي واعتيادي بحكم تكرره الثابت واستمراره الدائم. بالتالي تأخذ توقعات الناس بشروط حياة أفضل تنخفض تدريجياً لتتناسب وتتساوى مع معطيات الواقع الراهن والقائم، بل تصير المطالبة بشيء أفضل سلوكاً شاذاً أو مستهجناً أو حتى مجنوناً، لأنها ببساطة خارج المألوف ويصعب تصورها وأعلى بكثير من المتوقع. عندها تضمن السلطة بقاءها مهما كان تقصيرها أو عجزها أو فسادها أو فشلها.

لو نقلنا هذا التصور وحاولنا إيجاد حالات تطابقه أو تؤيده، فإن العالم العربي يمثل النموذج الواضح لهذا التصور، ويكون لبنان النموذج الأمثل له. فما يحصل في لبنان من تدهور اقتصادي وسوء حال معيشي وانعدام أمان على جميع المستويات، وموت بطيء لكل مظاهر الحياة الإنسانية، كل ذلك يحصل كأنه أمر طبيعي، يكرر نفسه كل يوم كشيء مألوف واعتيادي.

وحين نتململ ونضجر، فغاية ما نفعله هو الشكوى إلى الله والدعاء بأن يغير سوء حالنا إلى حسن حال. وحين لا يشبع الدعاء والصلاة اضطرابنا ويسكن وجعنا، نبدأ بتصوير الواقع ابتلاء وامتحان إلهيين، أو ربما عقاب إلهي على كثرة المعاصي والذنوب، أي نلقي اللوم على أنفسنا، وحين لا ينفع ذلك كله، قد نُقدم على الانتحار أو نتمنى الموت بصبر واحتساب عند الله.لكن آخر ما يجول في خاطر أكثر مكونات المجتمع اللبناني، هو الرغبة في تغيير الواقع السياسي القائم في لبنان، بقواه ورموزه وشخصياته، وزعزعة ركائزه. بحكم تدني مستوى التوقع عند أغلب اللبنانيين من المنظومة الحاكمة إلى الحضيض، ورسوخ الشعور بالمدنيوية تجاه أكثر القوى والقادة الموجودين. فكأن ما يحصل في لبنان قدر غيبي لا يد لنا في رده، أو كأنه أثر من آثار تغير المناخ، أو بفعل يد خفية تفعل فعلها المدمر  من دون القدرة على معرفة مصدرها وسرها. هذه التفاسير نجد سهولة في قبولها وتداولها لدى أغلب الناس، بل هي أكثر معقولية عندهم.

فكأن ما يحصل في لبنان قدر غيبي لا يد لنا في رده أو كأنه أثر من آثار تغير المناخ او بفعل يد خفية تفعل فعلها المدمر من دون القدرة على معرفة مصدرها وسرها

أما أن نوجه الإتهام الصريح، والمطالبة الجريئة، والتمرد الصارخ، ونزع الاعتراف والشرعية عن صناع القرار الفعلي، والممسكين بخيوط الحياة السياسية، فهذا فعل غريب وغير متوقع ومناقض للطبيعة، بل يكاد في بعض صوره، خيانة للقضية الكبرى ومعصية موجبة للعذاب الابدي.حين يقابل اللبنانيون القهر بالصبر، ويواجهون الفساد بحسن الظن، ويتعاملون مع سفاهة وعفن وعبث، وحتى جنون القادة السياسيين الحاليين، بفتور وتسامح وخضوع مذل، وحين يستشعرون الرهبة والوجل وحتى عقدة الذنب في انتقاد قادتهم أو اتهامهم أو المسعى لإسقاطهم، فهذا النوع من السلوك لا يعود إيماناً أو خلقاً رفيعاً، بل هو نمط عيش وطريقة حياة نابعان من تكوين باطني باتت العبوديةٌ أحد أهم سماته.

السابق
الغلاء يكوي اللبنانيين.. 4 ملايين لتأمين سفرة رمضانية، وأطباق تغيب عن موائد الصائمين!
التالي
هل تستطيع إيران أن تكون قوة بنّاءة في المنطقة؟ قَشْرُ الجِلْد الإيديولوجي والنموذج الصيني