وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: اللاجىء السوري..الضحية لا الجلاد

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.

نعترف بأن تضخم أعداد السوريين في لبنان، سواء أكانوا من النازحين أو اللاجئين أو المهربين، بات مشكلة حقيقية للبنان، وفي طريقها لتصبح أزمة وجودية، بالقياس إلى مساحة لبنان الصغيرة نسبياً وعدد سكان اللبنانيين الأصليين. بخاصة مع التجاهل الدولي للملف، والوضع الحدودي المتفلت بين سوريا ولبنان، إضافة إلى ضعف الدولة وعجزها عن ضبط هذا التواجد، أو تقنينه أو إدارته بطريقة سيادية، وبات يفوق قدرات الدولة المالية واللوجستية على التحكم به.   

هو وضع صار، بفوضويته ومناحي فشل السياسات المحلية والخارجية، يختزن طاقة تفجير مدمّرة لكيانه، ومدمّرة لأمن لبنان الاجتماعي.بيد أن التوتير الحاصل في ملف اللاجئين السوريين، سواء أكان لجهة الخطابات العنصرية التي تصدر عن الشخصيات والجهات السياسية، أم القرارات الارتجالية والصبيانية من مسؤولي السلطة، لا يقدم حلولاً ولن يحل المشكلة، بل يزيدها تعقيداً وتوتّراً، ويسهم في دفعها إلى التفجر في وجوه الجميع.اللاجىء هو الحلقة الأضعف في المشهد، هو الضحية التي لا ذنب لها، سوى أنه بحث عن ملاذ آمن له ولأسرته، على الرغم من الوضع المعيشي المهين والمذل في بلد اللجوء. لم يكن لجوءً اختيارياً وطوعياً، بل قسّرياً وإكراهياً. ولبنان لم يكن مقصوداً بذاته، سوى أن جغرافيته الملاصقة لسوريا، فرضت لجوء سكان المناطق المجاورة إليه. فاللجوء فرضته أحداث ومعطيات موضوعية خارج اختيار اللاجىء وإرادته.

عدم إغفال الجانب الإنساني لقضية اللاجئين ليذكرنا بأنهم الضحية لا الجلاد المعتدى عليه لا المعتدي المظلوم لا الظالم

عودة اللاجئين إلى سوريا لا يقرّرها اللاجىء نفسه. وموانع عودته لم يخلقها هو، بل هي نابعة من وضع سياسي، إقليمي ودولي، شديد التعقيد والتداخل، جعل من ملف اللاجئين مادة توظيف سياسي لدى النظام السوري، الذي غايته القصوى الاستمرار والبقاء مهما كانت أثمان البشر والحجر. بالتالي بات الملف لدى هذا النظام موضوعاً أمنياً، لعقاب اللاجئين وحتى إذلالهم، وورقة ابتزاز ضد الأسرة الدولية، للخروج من عزلته وانتزاع الاعتراف به، ومدخلاً لإحداث اختراق داخلي في الواقع اللبناني، كوسيلة لاستعادة شكل جديد من النفوذ والهيمنة، حتى لو كانا مبطنين وغير مباشرين.

أما بخصوص الاسرة الدولية، فالملف مرجأ، وخرج عن كونه ملفاً إنسانياً، وبات جزءً من وضعية انسداد، بين القوى المتورطة والمتصارعة في الداخل السوري. ولن تظهر انفراجات أو حلولاً إلاّ مع حدوث متغيرات ميدانية في موازين القوى، وهذا أمر مستبعد بعد استقرار الداخل السوري، على توازن فرض نفسه لفترة طويلة، وإما تسوية شاملة للقضية السورية بين جميع الأطراف، وهذه عملية معقدة وطويلة الأمد، بحكم أنها أصبحت وثيقة الصلة بمعطيات وترتيبات لا تقتصر على الداخل السوري فحسب، بل بمصير ووضع المنطقة بأسرها، تتحدد على ضوئها أدوار الدول الكبرى الفاعلة فيها، بالأخص السعودية وإيران وتركيا، إضافة إلى روسيا والولايات المتحدة.

عودة اللاجئين إلى سوريا لا يقرّرها اللاجىء نفسه وموانع عودته لم يخلقها هو بل هي نابعة من وضع سياسي إقليمي ودولي، شديد التعقيد والتداخل

بهذا المعنى، ومثلما أن اللاجئين ضحية وبقاؤهم في لبنان مستمر حتى إشعار آخر، فإن اللبنانيين أيضاً ضحية هذا اللجوء لم يكونوا سبباً فيه، وتم تحميلهم أكثر مما يحتملون. ومع الانهيار الاقتصادي الحاصل في لبنان، فإن وضع اللاجئين في لبنان، بات شديد الحرج والضيق، إلى حدّ الاختناق، بحكم العدد الضخم للسوريين وانتشارهم الواسع في أكثر المناطق اللبنانية، فإن هذا الوضع الخانق ينتج بذاته في الداخل اللبناني، احتكاكات وتجاوزات وانتهاكات وردات فعل سلبية من جميع الأطراف، بعضها مقصود البعض الآخر غير مقصود.

لكنها جميعاً لا تقدم حلولاً أو انفراجات، لكنها تثمر أحقاداً وضغائن وتباعداً بين شعبين يحملان مشتركات ثقافية وتاريخية وجغرافية وحتى مصيرية، أكثر مما يوجد بين أي شعبين في العالم.

ما نحن فيه، تحدٍّ للبنانيين، دولة وشعباً، لا في رفع المناحات والشكوى، لكن في إدارة المشكلة. في استيعاب التوترات وامتصاصها لا توتيرها، في ضبطها والتحكم بها لا الإسهام في فوضويتها وعبثيتها. والأهم من ذلك كله، أن لا يدفعنا الخوف على مصير لبنان وخطر الخلل في التعداد السكاني، إلى الانزلاق إلى مواقف حقد ومسلكيات عنصرية وممارسات اضطهاد وظلم، ذات طابع فاشي. فهذا لا يمثل انتهاكاً إنسانياً بحق اللاجىء السوري فحسب، بل انتهاكاً لحقيقة لبنان وسمته وهويته، وقيّم التعددية التي تميّز بها لبنان واللبنانيون عن غيرهم في المنطقة.

إقرأ ايضاً: وجيه قانصو يكتب ل«جنوبية».. العلامة الأمين: أثر يمكث في الأرض

أمران يشكلان مدخلاً، لا للحل الشامل بحكم أن مفاتيح الحلّ ليست بيد اللبنانيين وحدهم، بل مدخلاً للضبط والتحكم والاستيعاب لمنع الأمور من التصعيد والتفلت الخطيرين: أولهما، أن تستعيد الدولة زمام المبادرة، بإنشاء سياسة صارمة لطريقة وجود السوريين وطبيعة انتشارهم، وتعدادهم وأسرهم وزيجاتهم وتوالدهم، وإنشاء نظام مالي وضريبي خاص بهم، كي يكون نشاطهم الاقتصادي جزء من النظام الاقتصادي العام، فلا يكونوا حالة إنتاجية واقتصادية على هامش الدولة، ومنفصل عن موارد الدولة ونفقاتها.

المطلوب استعادة الدولة لزمام المبادرة بإنشاء سياسة صارمة لطريقة وجود السوريين وطبيعة انتشارهم وتعدادهم وأسرهم وزيجاتهم وتوالدهم وإنشاء نظام مالي وضريبي خاص بهم

أي إنشاء نظام حقوق وواجبات خاصة بهم ليكون بالإمكان معالجة الأمور وإدارتها وفق القانون والنظام العامين، لا وفق الانفعالات وردود الافعال الشخصية والفردية. هو تدبير وإجراء ينقل الدولة من حال العجز إلى حال القدرة، لتؤكد كونها المرجعية النهائية، وصاحبة السيادة العليا فوق كل ما يحصل على أراضيها.

ثانيهما، عدم إغفال الجانب الإنساني لقضية اللاجئين، ليذكرنا بأنهم الضحية لا الجلاد، المعتدى عليه لا المعتدي، المظلوم لا الظالم. لبنان الذي ندافع عنه ونحرص على بقائه، هو لبنان الحرية وقيّم التسامح والتعدد، وحين ينسى أبناؤه هذه القيّم أو يتجاهلوها، فلا يعود وطنهم لبناناً، بل يصير شيئاً آخر، يتحول إلى وطن لا تمايز فيه، بل نسخة باهتة وبشعة من تكوينات عنصرية وعصبوية وفاشية متفشية ومنتشرة.

ملف اللاجئين السوريين يختبر الدولة في سيادتها، ويختبر اللبنانيين في قيمهم الأخلاقية.

السابق
اغتيال عضو في مجلس خبراء القيادة الايراني شمال البلاد
التالي
الوفد الاوروبي يغادر قصر العدل «خائباً»..لكنه لن يسافر قبل إستجواب سلامة!