وجيه قانصو يكتب ل«جنوبية».. العلامة الأمين: أثر يمكث في الأرض

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.

نستحضر هذه الايام، ذكرى مرور السنة الثانية على رحيل العلامة والمفكر السيد محمد حسن الأمين. هي ذكرى تبدأ تتركز مع امتداد الزمن، حول أثر ومعنى صاحبها على حساب السمات الشخصية والأحداث التفصيلية حوله. أي تتحول الذكرى إلى حدث عمومي يعني كل فرد، لا لجهة منجزات السيد الخاصة أو الذاتية، وإنما مساحة الحقيقة ومنطقة المعنى اللتان ابتكرهما وكشف عنهما، وتطال وجود وكينونة كل إنسان. بالتالي تكون أهمية الذكرى، لا فيما أنجزه السيد لنفسه، وإنما لما قدمه وبذله لغيره وللعالم، من أجل مستوى حياة لائق ووعي خصب.

هي ذكرى تبدأ تتركز مع امتداد الزمن حول أثر ومعنى صاحبها على حساب السمات الشخصية والأحداث التفصيلية حوله

يستوقفك في السيد رحمه الله، الطبيعة التركيبية في تكوينه الفكري والثقافي: لجهة إحاطته بالعلوم الدينية، مع توليد ذوق فهم خاص به لحقيقة الدين، ومعنى أن تكون متدنياً في الزمن المعاصر. ولجهة اطلاعه على المنجز الحداثوي، لا في ظهوراته المتعددة والمتنوعة فحسب، وإنما في أصوله الفلسفية ومرتكزاته الفكرية. ولجهة الملكة الأدبية الرفيعة، التي تطلق العنان للخيال، لا لتبعدك عن الواقع، وإنما لتوسع عالمك الضيق، بأن تخلق لك عوالم جديدة وتستشرف إمكانات الوجود المغيبة والمغفول عنها.

يستوقفك في السيد رحمه الله، الطبيعة التركيبية في تكوينه الفكري والثقافي: لجهة إحاطته بالعلوم الدينية مع توليد ذوق فهم خاص به لحقيقة الدين ومعنى أن تكون متدنياً في الزمن المعاصر

كانت إحدى أهم المشكلات، التي أكثر السيد، رحمه الله، من التفكير والبحث والحديث حولها، هي: الدين من زاوية حضوره في الزمن المعاصر وعلاقته بالعالم من جهة، والحداثة من زاوية فهمنا لها، وكيفية تموضعها في عالمنا، أو تموضعنا في مجالها الجديد من جهة أخرى. وقد كان السيد يملك ملكة اجتهادية فذة وقريحة فكرية نافذة، للخوض في تعقيدات كلتا المشكلتين وكشف خفاياهما ورفع التباساتهما.

جديد السيد، أن الإسلام لم يكن يوما شيئاً جاهزاً ومنجزاً، بقدر ما هو منطقة استكشاف دائم. بالتالي هو ليس مشروع تبشير، أو نظام مكتمل وكتلة صلبة لا تأبه بالأزمنة والأمكنة، بل هو قابلية مستمرة للتشكل وإعادة التشكل، تبعاً للمتغيرات التي تطرأ عليه وتحيط به. ما يعني توفر دينامية داخل الدين نفسه، تعطيه قدرة وطاقة لهضم ما يأتيه ويدخل عليه، وفي الوقت نفسه يحدث في داخله تكيفاً تلقائيا وتعديلاً ذاتياً، ليكون الإسلام في قلب المشهد لا خارجه، وتكون مشكلات ومنجزات العالم وتحولاته أساس محركاته ودوافعه.

جديد السيد أن الإسلام لم يكن يوما شيئاً جاهزاً ومنجزاً بقدر ما هو منطقة استكشاف دائم

لهذا السبب وقف السيد، على مسافة من كل الأطروحات الدينية ذات الطابع الايديولوجي، التي جاءت لتقدم الإسلام في سياق مواجهة وصراع مع كل ما يحيط به. ولتدعي أن الإسلام هو البديل أو الحل. وهي شعارات رأى السيد أنها ذات طابع إلغائي، وتستبطن عزلة قاتلة للدين وللمجتمع المسلم، وتعبر عن ضحالة معرفية وكسل فكري، ليس في استيعاب المتغيرات التي تحصل في العالم فحسب، وإنما في فهم الإسلام نفسه، بتحميله أكثر مما يحمل، أو زجه في صراعات وطموحات سلطة، لا تنسجم مع حقيقته ومقصده.

الذوق الفكرى الدقيق لدى السيد، مكنه من فض الاشتباك بين ثلاث مشكلات أساسية، كانت مثار جدل عقيم في المجال العربي:

أولها مشكلة التعارض بين الهوية الدينية والهوية القومية. هو تعارض سببه الالتباس في حدود مناطق اشتغال كل منهما، وغياب أي فهم للعلاقة التكاملية التي تجمعهما. وقد عمد السيد إلى تبيان أن الهويتين متداخلتان، وفي الوقت نفسه، لا يغيب أحدهما الآخر. فالهوية القومية تجسيد لسياق تاريخي للجماعات وعصارة تجاربها المادية والثقافية، والهوية الدينية هي دافع باطني ومصدر معنى كلي لمعنى الحياة وحقائق الغيب. بهذا المعنى فإن الهوية القومية ضرورة تاريخية لتطور المجتمعات، وإلا تفقد تمايزها وخصوصيتها، والهوية الدينية قوة دفع باطني ووازع أخلاقي لكل نشاط إنساني. يقع التعارض هنا حين نصور الدين هوية حصرية لاغية لكل الهويات التاريخية، بل هوية ترفض التحين داخل الإطار الزمكاني، وحين نصور الهوية القومية مجرد تضامنات قسرية وروابط لا روح فيها.

ثانيها: مشكلة العلمانية، أو فصل الدين عن الدولة. حيث قاربها السيد من منظور أن الدين ليس مشروع سلطة، بل مشروع الإنسان في معنى وجوده وقيمه وبواعثه الباطنية. وقارب العلمانية من منظور عميق، بصفته ضامن للتعددية الثقافية والدينية داخل المجتمع الواحد، واعتبار العلمانية إطار إجرائي، يقوم على وضع الضوابط الدقيقة بين مساحات النشاط الإنسانية. بالتالي لا تعود السياسة ذات أصول غيبية، أو مستمدة من نصوص الوحي، بل سلوك تحكمه ضوابط عقلانية وحسابية لضمان الصالح العام.

مشكلة العلمانية أو فصل الدين عن الدولة حيث قاربها السيد من منظور أن الدين ليس مشروع سلطة بل مشروع الإنسان

هذا الفصل أو التمايز، لا يعود بنظر السيد لاغياً للإسلام أو الدين، بل هو إطار صحي ليمارس الدين وظيفته، بعيدا عن إملاءات السلطة ووصايتها، وتمارس السياسة نشاطها كفعل بشري، قابل للنقد والمراجعة، بعيدا عن مساعي القداسة وتأييدات الغيب التي تدعيها لنفسها. بالتالي تكون العلمانية تعرية للسياسة من ادعاءاتها، وتصويباً وترشيداً لنشاط الدين في الحياة العامة.

ثالثها: معضلة الديمقراطية. فالسيد يرى أن الديمقراطية من صلب الإسلام، لا بوصف الديمقراطية نموذج حكم مستورد، بل بوصفها، وفق أصولها الفلسفية العميقة، الشروط الضرورية للحرية والمساواة الإنسانيين من جهة، ولأنها تردم الهوة بين الدولة والمجتمع من جهة أخرى، بأن يكون المجتمع مصدر كل شرعية سياسية، وتكون السلطة محل تداول مستمر، لتأكيد المرجعية الدائمة للمجتمع في كل فعل سياسي، لا أن تكون لمرة واحدة فقط.

فالسيد يرى أن الديمقراطية من صلب الإسلام لا بوصف الديمقراطية نموذج حكم مستورد

وهي مرتكزات يختزنها الإسلام في مبدأ الشورى، الذي نص عليه القرآن الكريم بقوله: “وأمرهم شورى بينهم” حيث إن كلمة الأمر هنا مطلقة، وتطال كل شأن تدبيري وتنظيمي للمجتمع، وهو ما يعبر عنه في زماننا بالدولة. وتوصيف الأمر بالشورى بين الناس، يعني أن الشورى داخلة في حقيقة الأمر التدبيري نفسه، فلا يمكن أن يكون الأمر إلا شورويا، وحين تنتفي الشوروية في داخله يستحيل طغيانا وتعسفاً.

مهما يكن من أمر، فقد قدم سماحة السيد، نموذج سلوك يحتذى، وطرائق تفكير تحثك على رؤية الاشياء وتبصرها، في ضوابطها الدقيقة وحقائقها العميقة، بعيدا عن البطولات الزائفة والأمجاد النضالية التي تملأ فضاءنا وتسمم هواءنا، ولا تنتج إلا ضحالة تفكير وسذاجة فهم وغوغائية سلوك. وهذا هو الفرق بين الزبد الذي يذهب جُفاء، وبين ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.

السابق
اليكم سعر دولار السوق السوداء صباح اليوم
التالي
في البقاع.. يدخل إلى محال تجارية ويسرقها بعد أن يبيت داخلها!