هل تستطيع إيران أن تكون قوة بنّاءة في المنطقة؟ قَشْرُ الجِلْد الإيديولوجي والنموذج الصيني

ايران احتجاجات 2022

مع الأسف لم يتمكّن العالم من اختبار ما إذا كانت إيران تستطيع أن تنتقل من حالة سلبية (تغيير بُنى الدول كجزء من مشروعها الثوري للتغيير في المنطقة ولو عن طريق الحروب الأهلية) إلى حالة إيجابية (بناء الدول وتنميتها واستقرارها) بسبب أن الاتفاق النووي الذي وقّعَتْه مع إدارة الرئيس باراك أوباما لم يأخذ فرصته الزمنية للتطبيق، فسارع الرئيس دونالد ترامب إلى إلغائه.
كان العالم والمنطقة و “نحن” شعوبها بما فينا الملايين من شباب وشابات الجيل الإيراني الجديد الذي نزل إلى شوارع طهران والمدن الإيرانية الأخرى احتفالا بالاتفاق النووي. كانت تلك الاحتفالية في الشارع الإيراني تعني بالضبط إمكان انتهاء النظام الإيراني من الإنفاق المغامر وغير المجدي على مشاريع سياسية وأمنية خارج إيران والانتقال للتركيز أخيرا على الإنفاق التنموي الذي يحسِّن حالة الشعب الإيراني الصعبة.

اقرأ أيضاً: الإتفاق الإيراني_ السعودي.. «زنار نار» يرفع الراية الحمراء»!

الآن مع التفاهم – الاتفاق السعودي الإيراني نحن أمام اختبار جديد ولعله الأهم لأنه بين القوتَيْن الإقليميّتَيْن الكبيرتين، مما يعني أن النظام الإسلاموي الإيراني سيكون تحت المرايا الإقليمية ًوحدها الحساسة والكاشفة لاستمرار أي خلل.
في الأساس التجربة الصينية الرائدة نفسها في الانتقال من الثورية إلى الاقتصاد استلزمت انتقال القيادة التاريخية للدولة من ماوتسي تونغ إلى دينغ هيسياو بينغ. وهناك عدد من الأسئلة:

  • هل إيران جاهزة لتحول مماثل؟
  • هل يستطيع النظام تحمل الانتقال على الطريقة الفييتنامية أي يحدث الانتقال ويبقى النظام السياسي؟ كذلك على الطريقة الصينية؟
  • الحرس الثوري المهيمن على مفاصل الاقتصاد هل يستطيع أن يدير اللعبة الكبيرة الجديدة؟
  • كيف سيأخذ الصينيون بيد الإيرانيين لتحقيق عبورهم الصعب من أولوية الأيديولوجيا إلى أولوية الاستثمار؟
  • التحدي الكبير هو طبيعة النظام. فانتشار النفوذ استلزم سعي إيران لإدخال تشكيلات جديدة على كيانات المنطقة. العراق، سوريا، لبنان، اليمن، ووحدها فلسطين بسبب طبيعة الصراع مع إسرائيل، وُلدت القوى التي دعمتها إيران من رحم تفاعل الإسلام السياسي الأصولي في المنطقة مع الصراع العام الفلسطيني الإسرائيلي باستثناء حركة الجهاد الإسلامي ذات العلاقة الخاصة جدا بإيران.
  • جاءت الموافقة الإيرانية الضمنية على التفاهم اللبناني الإسرائيلي على الحدود البحرية الغازية كأول مؤشر على استعداد النظام الإيراني إلى الانضمام لشبكة المنظومة الاقتصادية الغازية في المنطقة والتي تضم إسرائيل مصر وقبرص واليونان، ولاحقا تركيا التي تحت أعين شريكها الإيراني قامت بتحسين نوعي لعلاقاتها مع إسرائيل. إذن هذه اختبارات دخلها النظام الإيراني شديدة الأهميّة ولو بشكل غير مباشر حيناً، ومحدود أحيانا أخرى.
  • مقابل الاختبار اللبناني الممثَّل بترسيم الحدود البحريةمع إسرائيل والقريب من ميناء حيفا الذي تديره شركة صينية تتواصل القبضة الإيرانية المتعددة المستويات من ميليشيات وأحزاب وسياسيين على الوضع العراقي الغني بالنفط والفساد وكلاهما ميغا – فساد وميغا- نفط.

لا شك أن إيران، إذا كانت قررت انعطافة استراتيجية في اتفاقها مع السعودية، ستسعى لطمأنة القوى “الجديدة” تاريخياً التي اعتمدت عليها لتكريس نفوذها في بعض دول المنطقة، يجب إعطاء وقت للوقت كما يُقال في الغرب لنرى كيف ستتجه علاقات إيران ب”زبائنها” أو الدائرين في فلكها ومعظمهم من الجماعات الشيعية العربية. الصينيون بحكم خبراتهم وإمكانياتهم سيساعدون النظام الإيراني على تحمّل التغيير الذاتي.
إذا كان هذا التفاهم سيعيش، علينا أيضا أن نرصد متغيرات المسرح السياسي في عدد من دول المنطقة. فمن المفترض أن وجوها جديدة ستظهر ووجوها قديمة س”تختفي” أو تتراجع إلى المقاعد الخلفية. عديدون “يتحسّسون رؤوسهم” الآن بعدما تغيّرت الوظائف ولاحقا تتغيّر الأدوار القابلة للتكيف والأدوار غير القابلة للتكيف.
المهم هو أن تنتقل المنطقة إلى علاقات سلمية فلا تطرح على شعوبها مهماتٍ تتجاوز طاقاتها.
في هذا الانتقال وحده الشعب الفلسطيني يبدو محمولا على أجنحة مواجهة نظام التمييز العنصري الإسرائيلي ضده ولا يملك خيارات جوهرية خارج لحمه الحي.

قشر الجِلد الأيديولوجي الذي تحاول أن تقوم به إيران، أو قَشْر طبقة منه، قد يقتل إذا أثار اضطرابات في المجتمع والدولة كما حصل في الاتحاد السوفياتي، ولكنه قد يقوّي هذا الجسم كما حدث في الصين، مع أن الصين لم تذهب إلى أيديولوجية أخرى بل قامت بعملية ضخمة وعميقة بل ومدهشة من التوفيق بين مركزية الدولةتحت حكم الحزب الواحد وبين اقتصاد السوق.
لا تزال عدوى الكليشيهات الماركسية الموروثة عن الاتحاد السوفياتي تصيب أدبيات الدولة والحزب الصينيَّيْن ولكن مع ذلك سيكون علينا أن ننتبه لمصطلحات الثقافة السياسية الصينية المستجدة علينا. فالعصر الصيني البادئ مع القرن الحادي والعشرين، قبل التفاهم السعودي الإيراني بل قبل محاولة الاتفاق النووي الإيراني الأميركي وخلاله وبعده يستلزم فهم مصطلحات مفتاحية في السياسة والاستراتيجيا.

في الحقيقة تغيّر النظام السياسي في السعودية مع وصول الأمير محمد بن سلمان إلى السلطة، ولم يتغيّر النظام السياسي من داخله فحسب، التغيير الذي تجاوز مجرد الاختلاف بين جيلين بل في الانتقال إلى مركزية ديناميكية مكان التعددية السابقة، ولكن الأهم هو أن النظام الاجتماعي في المملكة تغيّر أيضا نحو نوع من الليبرالية الاجتماعية التي تحظى بتأييد ملايين الشباب والشابات السعودين الذين كانوا ينتظرونها بتلهف. بينما النظام السياسي في إيران لا زال جامدا ويواجه التغيير في الداخل، وفي المحيط يرسل إشارات عن استعداده لقشر جلده الأيديولوجي ولكنه، كأي نظام توتاليتاري يحاول أن يحصر التكيف في الخارج دون الداخل.
بهذا المعنى غير المباشر يمثّل الجيل الشاب والمتنور في كل من السعودية وإيران المحرِّك العميق للتغيير، في السعودية وصل إلى السلطة على الطريقة السعودية من لبّى هذا الطموح، وفي إيران لا زالت المواجهة محتدمة بين الجيلين، الشباب في المجتمع و”الشيوخ” في السلطة.
لاشك بصحة القول أن الطرفين بحاجة إلى التوافق الذي أحدثه تفاهم بكين. المملكة لكي تنصرف تماما إلى مشاريع التكيف مع متطلبات القرن الحادي والعشرين والجمهورية الإسلامية لكي تخفف الضغوط الفائقة عليها التي تعيش في ظل رهابها.

السابق
وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: عقدة ذنب اللبنانيين تجاه قادتهم
التالي
جلسة للجان المشتركة في مجلس النواب.. لمساءلة الحكومة