الامام شمس الدين في ذكراه: ابداع فكري و ثقافي..وعقل مؤسساتي أنتج صروحاً تربوية وصحية

في مثل هذا اليوم قبل 22 سنة، رحل الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين الى جوار ربه عن عمر 65 عاما، والامام الراحل لم يكن رئيسا روحيا للطائفة الشيعية فحسب، كونه شغل منصب رئيس المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى، إذ تعدّى تأثيره الفكري لبنان ليشمل العالم العربي والاسلامي أجمع، كونه حمل فكرا متقدّما متجددا، طال عمق المباني الفقهية والعقائدية باعثا الحداثة في الاسلام بعد طول سبات، فتعدى الساحة الشيعية ليصبح علما فكريا على مستوى العالم الاسلامي اجمع.

جملة من نظريات فقهية فريدة ومتقدمة، خرجت من الاطر المذهبية وطالت الفكر السياسي والاجتماعي الاسلامي قاطبة، أطلقها الامام الراحل محمد مهدي شمس الدين، كان اجتهدها وأفتى بها بوصفه فقيها مجتهدا واستاذا تخرج من حوزات النجف الاشرف في العراق ودرّس فيها، من هذه النظريات الخالدة التي اشتهرت واصبحت موضع جدل ديني وفكري كبير:  “ولاية الأمة على نفسها” (الديموقراطية)، والدعوة لقيام ”الدولة المدنية” (دولة غير عسكرية وغير دينية)، وأبحاثه في الاجتماع السياسي الاسلامي، والاجتهاد والتجديـد، وفقه المرأة ( من اجتهاداته في هذا المجال جواز تولّي المرأة للسلطة العُليا في الدولة الديمقراطيّة الحديثة)، وفقه العنف المسلّح في الإسلام، وقضايا الوحدة الإسلامية،الى وصيته للمسلمين الشيعة بوجوب “عدم التحاقهم بمشاريع طائفية مستقلة عن الأوطان” التي يجب أن تكون جامعة لكل الطوائف والأعراق.  

استمر في بث روح الوطنية في اوساط طائفته ومحيطه اينما ذهب فنجد تعبيراته في مجمل مواقفه وآرائه وكتاباته التي تؤرّخ لمسيرة النضال في سبيل السلم الأهلي الراسخ والوحدة الوطنية 

ومن شروحاته الفقهية الرائعة في جواز فصل الدين عن الدولة  بنظر الامام شمس الدين، “يعود لحقيقة أن الشريعة مكونة من فقه أفراد وفقه عام. فقه الأفراد، أو فقه العبادات يسود في المجتمع، بغض النظر عن شكل الدولة ومؤسساتها، ويحتل موقعاً رئيساً في الشريعة، إذ هو فقه وضَعَ أسسه الرسول صلى الله عليه وسلم خلال فترة المدينة، بينما لم يحدد وظائف مؤسسات الحكم، ولا الحكومة وأشكالها، والأمة من بعده هي التي حمت فقه الأفراد. أما الفقه العام فهو الفقه الذي يُعنى بالحكومة ووظائفها ومصدر شرعية الحكومة، والفقه العام أقل شأناً من فقه الأفراد، لأنه ليس نصياً، بل خاضع للاجتهاد، ويتسم بعموميته وتاريخيته، ولا يخوض بالتفاصيل، بالإضافة إلى أنه وضع لزمن غير الزمن المعاصر، بينما أحكام فقه الأفراد توقيفية، أي لا تتغير بتغير الزمان، و نصية، أي غير قابلة للاجتهاد”.  

العقل المؤسساتي للامام شمس الدين 

آمن الامام شمس الدين بضرورة العمل المؤسساتي، الذي كان قد بدأه سلفه الامام السيد موسى الصدر على الصعيدين التربوي والصحي، عندما شاد مهنية صور في برج الشمالي في سبعينات القرن الفائت، وكان اول معهد مهني يقام في جنوب لبنان، ثم استغل الامام الصدر  هبة مستشفى متنقل وهبته دولة أجنبية ليتسلمه، وليعمل على تثبيته كمستشفىً في موقعه الحالي وهو مستشفى الزهراء، كي يقوم بسد الفراغ في الجانب الصحي الذي كانت تعاني منه الطائفة الشيعية في لبنان وفي مؤسساتها، وبعد غياب الامام الصدر، عمل الامام شمس الدين على تحويل المستشفى التي تسلّم ادارتها امين عام المجلس الشيعي محمد شعيتو رحمه الله، الى صرح طبي بمبنى حديث وكبير يسع مئات الأسرة ويستقبل الاف المرضى سنويا، يعالجهم أكفأ الأطباء مع أحدث الأجهزة الطبية المتقدمة من أنحاء العالم، ولتتحول لاحقا الزهراء الى مستشفى جامعي يشمل كافة الاختصاصات ويضاهي احدث المستشفيات وأعرقها في لبنان.  

وكذلك أنشأ الامام شمس الدين “المعهد الفني الاسلامي” في الضاحية الجنوبيّة لبيروت، فحاز على المرتبة الاولى لأعوام عدة في عدد الخريجين الناجحين في الامتحانات الرسمية وقد بلغ عددهم الآلاف في كافة الاختصاصات bt و ts، وعلى صعيد الجمعيات الخيرية فقد انشأ الامام شمس الدين “مبرّة السيّدة زينب” للأيتام في بلدة جبشيت الجنوبيّة، كما شاد “معهد الشهيد الأوّل للدراسات الإسلاميّة”، وكان يشرف شخصيا على ادارته والتدريس فيه الى جانب علماء معروفين، فخرج عشرات رجال الدين الحائزين على الاهلية والفضيلة العلمية. 

اما على الصعيد التربوي فقد بنى الامام شمس الدين “مدرسة الضحى” في بيروت المنبثقة عن الجمعية الخيرية الثقافية، فيها كافة المراحل الدراسية وخرجت الالاف من الطلاب، و كذلك في البقاع فقد انشأ “مجمّع الغدير التربوي”. اما الانجاز الاكبر فكان تأسيس “الجامعة الإسلاميّة” على مدخل بيروت الجنوبي في منطقة خلدة.  

 “الجامعة الإسلاميّة” أولاها الامام عناية خاصّة، فقد أرادهـا وعمل على أن تكون “جامعة لبنانيّة وطنيّة عامّة، على صعيد قياداتها الإداريّة والعلميّة، كما على صعيد جسمها الطالبي”. ومن الناحية العلميّة أراد لها أن تأخـذ بأعلى المقاييس الأكاديميّة في اختصاصاتها المختلفة النظريّة والتطبيقيّة. وفي الجانب الديني الإسلامي،  تمّ التركيز على كليّة الاجتهاد والعلوم الاسلاميّة لتكون معنيّة بالفقه المقارن وقضايا الوحدة الإسلاميّة، بعدما لاحظ الإمام أن معظم علماء الدين المسلمين يجهلون مذاهب بعضهم بعضاً، بالإضافة إلى اختلافهم حول السنّة النبويّة المشرّفة. وفي هذا السبيل وضع الإمام شمس الدين أساساً نظريّاً لتوحيد السنّة النبويّة.

ومن مقاصد هذه الكليّة في الجامعة الإسلامية، تحديث علم الكلام الإسلامي الذي مضى عليه قرابة ألف عام، وهو لا يزال يدور حول قضايا ومواضيع لم يعد لها أيّة علاقة بالحياة اليوميّة والعامّة للإنسان في هذا العصر. إلى ذلك أراد أن تكون هذه الجامعة مركزاً أساسيًّا لتدريس علم الأديان المقارن، وللحوار الإسلامي – المسيحي في لبنان والمنطقة العربيّة والعالم.”

ويقول الإمام : “وصيّتي المؤكّدة لمن يتولى زمام هذه المؤسّسة، أن يكون حريصاً على هذه الأهداف التي تقتضي أن تكون الجامعة محصّنة من تأثير وأهواء وهيمنة السلطة السياسيّة، وألا تكون مجالاً للتعيينات النفعيّة، وألاّ يؤدّي بها ذلك إلى انحطاط مستواها العلمي. وهو مع الاسف ما ما تم تجاوزه، خصوصا ما حدث قبل عامين، مع شيوع فضيحة بيع شهادات الى العراق تورطت فيه عدد من الجامعات اللبنانية، منها الجامعة الاسلامية، (عُرضنا التفاصيل في موقعنا حينها)، فشكل ذلك وصمة عار، ادت الى تغيير كبير في جهازها الاداري وعزل عدد من المدراء والموظفين فيها. 

مؤسسات الحوار 

كانت رؤية الامام شمس الدين هي التي أعطت الانطلاقة الكبرى للحوار الاسلامي – المسيحي في لبنان والمنطقة العربيّة، من خلال رعايته ” اللجنـة الوطنيـّة اللبنانيـّة للحوار” و “الفريق العربي للحوار”، ومن خلال مساهماته الفكريّة والسياسيّة في هذا السبيل، بدءاً من رسالته الشهيرة إلى مؤتمر الحوار الاسلامي المسيحي في طرابلس الغرب(شباط 1976)، وصولاً إلى رسالته للسينودس العام للأساقفة الكاثوليك حول لبنان الذي انعقد في الفاتيكان أواخر العام 1995، فضلاً عن علاقاته الوطيدة مع رؤساء الكنائس المسيحيّة في العالم ولا سيّما الكنائس الشرقيّة.

“الجامعة الإسلاميّة” التي أولاها عناية خاصّة فقد أرادهـا وعمل على أن تكون “جامعة لبنانيّة وطنيّة عامّة، على صعيد قياداتها الإداريّة والعلميّة كما على صعيد جسمها الطالبي”

وفي هذا الإطار قام الإمام شمس الدين بدور مشهود في تحقيق الحوار البنّاء والمنتج، بين المسلمين في مصر والسعوديّة والكويت والبحرين والعراق وباكستان، كما في الحوار الإيجابي بين الإسلام والمسيحيّة، عبر الفاتيكان ومجلس الكنائس العالمي ومجلس كنائس الشرق الأوسط وسائر المجالس الوطنيّة للكنائس في العالم، التي تعتزّ بروابطها مع المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى، وتقدّر دور رئيسه في التفاهم والتعاون بين البشر. 

لقد كان للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى بقيادة الإمام شمس الدين، دورٌ مشهود في المحافظة على وحدة لبنان ومستقبله، خلال مرحلة الفتنة والحروب الداخلية. فقد أرسى دعائم خـط الاعتدال والحوار الدائـم، والبحث عن مفاصل ينعقد عليها الوفاق الوطني، وسط أجواء التطرّف والتعصّب والتناحر، فأشرف على إصدار مجلّة “الغدير” الفكريّة الاسلاميّة، ومجلّة “القرار” السياسيّة الثقافيّة لمواكبة هذا الخط، واستمر في بث روح الوطنية في اوساط طائفته ومحيطه اينما ذهب، فتجد تعبيراته في مجمل مواقفه وآرائه وكتاباته، التي تؤرّخ لمسيرة النضال، في سبيل السلم الأهلي الراسخ والوحدة الوطنية المتينة. 

السابق
الشيخ كاظم محمد عياد في ذمة الله..سيرة عالم فاضل
التالي
خاص «جنوبية»: «صيرفة» للأغنياء فقط..الإستفادة من 100 مليون للأرصدة فوق الـ50 الف دولار!