وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: انتفاضة 17 تشرين.. الإمكانات والإخفاقات

ندوة كتاب وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.

انتفاضة 17 تشرين، تجربة تستحق وقفة مطولة وقراءة معمقة.  هي ظاهرة لا يصح الحكم عليها بالفشل أو بالنجاح، لأن هذا من نوع الأحكام المعيارية، التي تُسقط نماذج مسبقة للنجاح أو الفشل عليها، وتأسرنا في منطقة ما، يجب أن تكون لا ما يمكن أن تكون، الأمر الذي يحول دون فهم هذه الظاهرة، ودون استكشاف ديناميتها وإمكاناتها.  والفهم هنا يعني التعرف إليها بذاتها، والجديد الذي أحدثته أو كان يمكن أن تحدثه في إحداث نقلة نوعية في دائرة الانتظام العام. 

اقرأ أيضا: وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: علاقة السعودية مع الصين.. مخاطرة أم أفق جديد


يُسجَّل للانتفاضة الاستجابة الشعبية العارمة لها، من كل المناطق وداخل كل الهويات الخاصة. ما يدل على وجود تململ ورفض كامن، لدى جزء كبير من المجتمع اللبناني لمنظومة السلطة وأدائها، إضافة إلى رغبة قوية بمحاسبة الفاسدين، والجرأة اللافتة على انتقادهم واتهامهم. صحيح أن بعض حالات الاتهام كانت عشوائية، وكانت مصحوبة بشتائم غير لائقة. إلا أن هذا يدل على كسر حاجز الخوف والتردد، ونزوع إلى القطيعة مع أهل السلطة، ورغبة في محاكمة جميع رموزهم. يسجل للانتفاضة أيضاً ضمور الهويات الخاصة، من طائفية أو مناطقية، وظهور شكل تضامن عابر للطوائف. كانت الانتفاضة مشهدا لبنانياً خالصاً وهوية جامعة، ضمت بداخلها ألواناً وتعبيرات متعددة. بالتالي انتعشت فكرة الكيان اللبناني الواحد، الذي هو ليس مجرد مجموعة مكونات أو إطار تنضوي بداخله طوائف متعددة، بل هو كيان قائم بذاته، ذو حقيقة ثقافية واجتماعية وسياسية، يتميز بها عن  مكوناته المتعددة من أصحاب دين أو مذهب أو عرق. 

يُسجَّل للانتفاضة الاستجابة الشعبية العارمة لها من كل المناطق وداخل كل الهويات الخاصة


كان شعار الدولة ومرجعيتها وحصرية سلاحها مطلباً جليّاً. بل كان بديهة من بديهيات الانتفاضة ومسلماتها، ولا تحتاج إلى نقاش أو تأكيد أو برهان.  بالتالي كان هنالك تمييز واضح بين السلطة من جهة، التي يمسك بزمامها قوى الأمر الواقع، ويخلقون مساراً منافياً لحقيقة الدولة ووظائفها، وبين الدولة من جهة أخرى بصفتها صاحبة السيادة العليا، ومؤسسة معنوية ذات ركائز معقلنة وغير مشخصنة، وتتقيد بالقانون المنصف للجميع.

كان شعار الدولة ومرجعيتها وحصرية سلاحها مطلباً جليّاً.


لعل أهم ما في الانتفاضة، هو ظهور رغبة قوية من الجميع بالتحرر من الطائفية، وضرورة العبور إلى عقد اجتماعي يقوم على قواعد مدنية، وتمثيل سياسي لمواطنين لبنانيين فقط لا لأفراد الطوائف، وتشريع موحد للجميع، يشمل الأحوال الشخصية، يساوي بين الجميع بما فيه المساواة بين الرجل والمرأة.    هذا يعني أن الانتفاضة بروحيتها وحيويتها وأفقها، كانت تختزن طاقة دفع مجتمعية للتغيير النوعي أو الإصلاح الجذري، وكانت تحمل تطلعات إلى حياة سياسية لاطائفية، ونظم علاقات مدنية. ما يدل على أن الانتفاضة كانت تمتلك إمكانات فعلية، لا للإطاحة بقوى السلطة فحسب، بل بتغيير قواعد اللعبة بأسرها.الذي حصل أن الإمكانات شيء والتحقق الفعلي شيء آخر. الإمكانات تحتاج إلى عزيمة دفع (Momentum) وقابلية مجتمعية وجهوزية شعبية، وهو أمر كان متوفراً. أما التحقق الفعلي فيحتاج إلى استثمار ذكي لهذه الإمكانات، من خلال العمل على وضع برنامج عمل وخطة مواجهة واستراتيجية تغيير، تتوفر جميعها على أمور ثلاثة: خطاب موحد حول الأهداف الكلية، خطة عمل أو برنامج تنفيذي تترتب بداخله الأولويات، ويراعى فيها الممكن من المستحيل، وهيئة تنسيق لضبط الإيقاع وتناغم الجهود. وهي أمور لم تكن متوفرة، أو فشلت النخب الفاعلة في تحقيقها، لنقل الانتفاضة من مستوى الاحتجاج والتعبير الغاضب، الذي هو مستوى السلب، إلى مستوى التأسيس وفرض معطيات واقع جديد، الذي هو مستوى الإيجاب. عدم توفر هذه الأمور تسبب بإحداث تشتت وتفرقة، تضارب في الأداء، تناقض في الرؤى، بالتالي فقدت الانتفاضة رسالتها وغرضها، وخسرت جاذبية استقطابها وتعبئتها، وتحول التأييد الشعبي إلى تردد ثم إلى استياء وتراجع ومراجعة حسابات، الأمر الذي حول الانتفاضة من مشروع تغيير، إلى ممارسة هوايات موسمية للتنفيس عن غضب أو التعبير عن رفض.

فقدت الانتفاضة رسالتها وغرضها وخسرت جاذبية استقطابها وتعبئتها وتحول التأييد الشعبي إلى تردد ثم إلى استياء وتراجع ومراجعة حسابات الأمر الذي حول الانتفاضة من مشروع تغيير، إلى ممارسة هوايات موسمية


ما أظهرته الانتفاضة من إمكانات، وما فشلت نخبه في تحقيقه، يكشفان عن صورة الواقع الفعلي الذي نسعى إلى تغييره لا الواقع المتخيل.  ويدفعان لا إلى نعي الانتفاضة، والتعامل معها حدثاً مضى ولن يتكرر، بل بتوفير الشروط التي افتقدتها لتكون في أفقها وتطلعاتها حقيقة فعلية.  ما حصل كان مجرد بداية.

السابق
للمرة الأولى منذ نهاية عهده.. عون يترأس كتلة «لبنان القوي»: «أمامنا 4 سنوات لنتنفس»!
التالي
ما جديد إصابات الكورونا والكوليرا في لبنان؟