حوار «مستعاد» في ذكرى رحيله الثامنة.. شاعر لبنان الكبير سعيد عقل: لن أموت!

سعيد عقل

لم يكن الوصول إليه سهلاً، لانه فوق، يجلس ويرتاح هناك، في الأعالي ، في جبل لبنان ، بين الزهور الشاهقة والناطقة، بين الجبال الشامخة، والوديان العابقة بالنعيم.
سعيد عقل ، شاعر لبنان الكبير ، خرج من المدينة إلى الجبل، ليرتاح من عناء الجدران والأبنية المكدّسة بوجه البصر مثل قيود مُحكمة.
اختار العودة إلى الأصل، الى الصمت المشبع بالحيوية.اختار المكان الذي يمكنه من خلاله مواصلة العمر بعد أن قطع شوطاً كبيراً فيه.
“هالسعيد عقل” ، كما كان ينادي نفسه، شاعر عاش الدّهر كلّه،ولد سنة 1912وثمة من يقول انه من مواليد1902.وتوفى سنة2014 في شهر نوفمبر/تشرين الثاني.
بعد مرور ثماني سنوات على رحيله، أعود الى عرض حديث أجريته معه بعد جلسة طويلة معه استمرت لساعات،شرح فيها،وإن بصعوبة،تفاصيل الحياة التي عاشها وصنعها .

سعيد عقل شاعر لبنان الكبير خرج من المدينة إلى الجبل ليرتاح من عناء الجدران والأبنية المكدّسة بوجه البصر مثل قيود مُحكمة


سعيد عقل أمضى وعاش كل أيامه في حديقة الشعر، وبقي حتى يومه الأخير ،يقطف ورداً من هذه الحديقة.وكأن الحياة أمامه مسافة مفتوحة الى الأبد .
كان واثقاً من العيش والحياة، وعلى أمل كبير بأنه سيتحدث مع زواره بعد أكثر من ثلاثين سنة..وثقته بالشعر وبنفسه تتعدى كل ثقة.إنه من أعظم شعراء العالم،بشهادة نفسه،ولا يمكن لمن يستمع إليه إلا أن يوافق على هذا التصنيف !؟
التقيته كثيراً،وفي كل لقاء كان كما هو،الشاعر الواثق،القابض على الحياة والشعر،وحين كنت اسأله،في كل مرّة عن مصدر هذا الشعور،كان يسبقني،فوراً،الى الجواب:الشعر هو الآمان الداخلي لي .
سرد وشرح وقال سعيد عقل الكثير الكثير في حواري معه،نبش الذاكرة،وإن من دون تناسق زمني،لكنه استحضر ما كنّا نرغب بسماعه ومعرفته،أخذنا الى ملكوت الذاكرة وإلى فرح الماضي، بكل ما يعني هذا الفرح من حياة ساهمت بوجودنا الإنساني والثقالفي .
ذهبتُ الى سعيد عقل وبيدي قبلة!.. حملتها بيدي كي لا تفلت منّي في مكان ما، وحين التقيت به شعرت بأنني مُجدداً أمام ذلك الحضور الهائل،أمام سعيد عقل الجالس بنظرِه الآفل وجسده العملاق والذي بدأ يُعطي إشارات التعب والذي ينتظر بفرح وشغف من يحب اللقاء به دائماً.سلّمت عليه، قبّلته بيدي أولاً،ثم بنظراتي، ثم بفمي .
حاولتُ أن أعرف سرّ صموده الجسدي في الحياة من خلال أسئلة عن طبيعة أيامه،كيف يعيشها وماذا يأكل ويشرب ، فاكتشفت أن سعيد عقل لم يشرب المُنبهات ولا الكحول طيلة حياته.إنه يشرب الماء فقط وبغزارة ولكنه يتناول جميع أنواع الأطعمة .
وكالعادة ربطة العنق دائماً حمراء، وكذلك سترته فهي أيضاً حمراء، وحين سألته عن اللون الأحمر الذي يعشقه قال:اللون الأحمر هو لون التاريخ .
جلستُ معه طويلاً وكثيراً ، سألته وأجاب. وكان واثقاً، يحاول شحذ الذاكرة ـ ذاكرته التي أمست لا تجاريه كثيراً. وفي كلّ جواب ، كان قلبي يتسع، وذاكرتي تتسع وعمري يتسع. ولم يكن باستطاعتي إلا تدوين الكلام، كما قاله وكما لفظه ، بالنبرة الخاصة التي يتمتع بها شاعرنا الكبير.

لم يكن باستطاعتي إلا تدوين الكلام كما قاله وكما لفظه بالنبرة الخاصة التي يتمتع بها شاعرنا الكبير.


من ينسى سعيد عقل صاحب ومطلق النظريات الكبيرة؟
غاب سعيد عقل ، لكنه ما زال بيننا.
قبل وفاته ببضعة أشهر ، كانت صحته جيدة وأفكاره نابضة. ذهبتُ الى سعيد عقل ، فاستقبلني خير استقبال، ولم أصدق أن الذي يستقبلني هو سعيد عقل أو ابن السنوات الكثيرة. شعرت بأنني مع شاعر شاب ، فروحه المرحة كانت كافية لإدخال البهجة الى روحي .
تحدثت الى الشاعر بحذر ثم زال هذا الحذر ودخلنا في نقاش حميم .
سألته كثيراً وحاولتُ امتلاك الوقت كلّه في ذلك المساء الهاديء، في صالونه الجميل،على يمينه “البيانو”وعلى شماله اللوحات الفنية المميزة.جلستُ الى جانبه، نَظَرَ إليّ فشدّني إليه أكثر وبدأنا الكلام:
ـــ من تذكر الآن من شعراء الماضي، من يُعجبك من الشعراء بدءاً من العصر الجاهلي مروراً بالعصور الأخرى وتحديداً العصر العباسي وصولاً الى حاضرنا؟
ــــــــ تحدث سعيد عقل بثقة كبيرة واعتزاز وقال: يوجد في الشعر العربي كلّه حوالي 200بيت من الشعر يمكن أن نجد فيها الشعر والشاعرية واللغة الشيقة والمشوقة والرشيقة. وخارج هذا الإطار لا يمكن أن نتحدث أكثر…هناك شعراء كبار ولكن لا يمكن وصفهم بأنهم من الكبار الكبار. هذا ما عرفته واقتنعت به بعد اطلاع واسع على كل الشعر العربي ، وما كتبه كبار شعراء العرب الذين تقصدهم يا اسماعيل يا فقيه، وأنا أعرف من تقصد وأنت تعرف من أقصد أنا بجوابي.
لم أعثر في الشعر العربي على قصيدة كاملة متكاملة.هناك كلام كثير أو قصائد طويلة لكنها أقرب الى الحشو الكلامي والإيقاعي ، ولا يخلو الأمر من التماعات شعرية قد تبرز في بيت أو بيتين، أما باقي الكلام فهو زوائد لا تفي بغرض الشعر والشاعرية وتجعل القصيدة مخترقة وغير قابلة للفعل الشعري وغير فاعلة أبداً وأحياناً تبدو هزيلة وفاشلة ومربكة وعشوائية.
ـــ هل ينطبق هذا الرأي على أبي الطيب المتنبي؟
ــــــــ المتنبي شاعر كبير ومُهم ولكن عنده هفوات وكان يسعى الى السلطة على حساب الشعر .
ـــ كيف تشرح ذلك؟
ــــــــ يكفي أنه كان يمدح سيف الدولة. والشاعرالمهم لا يحتاج الى السلطة والسلطان. والعكس هو الصحيح. الشاعر يرفع قيمة السلطة لأنه هو صانع المجد والخلود للإنسان والحياة نفسها.
ـــ أُكرر سؤالي هل ينطبق رأيك هذا على كل الشعراء،ألا يوجد استثناء؟
ــــــــ أغلبهم ينطبق عليهم هذا الرأي. لقد قرأتهم ولا يمكنني العودة الى قراءتهم اليوم ، ذلك أن الذي قرأته سابقاً كان على علاقة لا تُشبه لحظة الوعي الحاضرة اليوم في عصرنا.
ـــ ألا ترى معي أن هناك بعض الشعراء الكبار الذين استمر حضورهم الى اليوم لا يمكن تجاوزهم وما زالت قصائدهم في ذاكرة الأجيال؟
ـــــــــ من تقصد يا إسماعيل يا فقيه ــ يضحك كثيراً ــ ؟
ـــ أقصد أبو الطيّب المتنبي، أبو العلاء المعري، أبو نواس، عمر بن ربيعة، الكندي،، امرؤ القيس،ابن الفارض، السموأل، طرفة بن العبد…وهناك الكثير الكثير من الأسماء الأخرى لا أستطيع تذكّرها الآن ؟
ـــــــ أُكرر لك ما أسلفته بكلامي السابق وإذا أردت بشكل آخر أقول:أغلب هؤلاء ذاع صيتهم وشهرتهم من خلال بعض الأبيات الشعرية المكتوبة والمرددة في مناسبات معينة.هناك بعض أبيات توفقوا بنظمها فذاع صيتها. وكل جميل في الكلام لا ينام، يبقى في الساحة النابضة.
ـــ ماذا يخبرنا سعيد عقل عن بداياته، وأترك لك سرد المرحلة التي تريد؟
ــــــــ يتأمل كثيراً ويتذكر ويقول :في بداية عهدي مع الحياة والوجود لم أكن أعتقد أنني سأكون شاعراً كبيراً. وكل من عرفني أيام الدراسة لم يتوقع لي ذلك. كانوا يتوقعون لي أن أكون مهندساً أو مخترعاً، ولا أزال حتى اليوم أقرأ العلوم وأتابعها بشغف. صحيح انني أكتب الشعر ولكني أتابع العلم عن كثب .
ـــ كيف تحولت الى الشعر؟
ــــــــ في طفولتي وأثناء الدراسة كنت أذهب الى النهر بصحبة جمهرة من الأولاد وكنا نحضر الحفلات التي تقام في المنشية في مدينة زحلة. لم أكن يومها على معرفة بما يجول في تخوم ذاتي. لم أحلم يوماً انني ساصبح مثل أولئك الخطباء الذين استمع إليهم بإصغاء. كنت أرغب أن أصبح عالماً .
ــــ أفهم من كلامك أن العلم والعلوم تحتل المرتبة الأساسية في تفكيرك وثقافتك وحياتك؟
ــــــــ كل ما كتبته و ما أكتبه نابع من العلم والعلوم. كل قصيدة كتبتها كانت محاطة بعلوم ضخمة . العلم هو اللغة التي يمكن من خلالها التبحّر والتعمّق بمفهوم الحياة والوجود.
ـــ هل للشعر علاقة بالعلوم،هل تتفق العلوم مع الشعر؟
ــــــــ نعم هناك علاقة وثيقة بين الشعر والعلوم. ثمة علاقة وثيقة بين الشعر والعلوم، وأتوقف كثيراً عند الرياضيات. هذا النوع الساحر والفاتن من العلوم هو الأساس في تركيز اللغة وبسطها وترتيبها في إطار القصيدة. إنني أتصور بل أوكد أن كل شاعر يجب أن يكون عالماً .

كل ما كتبته و ما أكتبه نابع من العلم والعلوم كل قصيدة كتبتها كانت محاطة بعلوم ضخمة العلم هو اللغة التي يمكن من خلالها التبحّر والتعمّق بمفهوم الحياة والوجود


ـــ كيف ذلك ، ماذا تقصد؟
ــــــــ إسمع يا إسماعيل يا فقيه ماذا سأقول لك في جوابي هذا ولا تشرد بومضة واحدة عن جوابي: ولو كنت حاكماً لفرضت على كل الصفوف الدراسية تعلّم مادة الرياضيات بشكل مُضاعف ومُكثّف ومستمر. حتى في صفوف الأدب، لا أعتبر أن متفوقاً في أي فرع من فروع المعرفة يتحقق له ذلك إلا إذا كان متفوقاً في العلوم وخاصة علوم الرياضيات. وأنا أقول ان العلم هو الرئة النظيفة للقصيدة، يجعلها أكثر قدرة على تفسير المعنى والوجود.العلوم هي قصيدة العصر وهي الحماية الوافية للغة والضمانة لها في سلوك التطور الزمني بكل ما يحمل هذا التطور من تحولات .
ـــ ماذا تخبرنا عن الخطوات الأولى لسعيد عقل في الحياة والدراسة؟
ــــــــ كانت في مدينة زحلة مدرسة ” الفرير مارست ” وكنت فيها متفوقاً في مادة الرياضيات، وكان مقرراً حينها أن أكون مُهندساً . كان والدي من الأغنياء الكبار، وقد ورث عن أبيه الكثير من الأراضي. كان كريماً وحين يسأله أحدهم ويطلب منه مساعدة لم يكن يتردد بمنحه قطعة أرض من أراضيه الشاسعة التي يمتلكها، ويدفع له ثمن تسجيلها،الى أن خسر أملاكه. وهذا ما جعلني أعيش في حالة غير مرضية لي إذ لم يكن باستطاعتي النزول الى العاصمة بيروت لدراسة الهندسة. وهكذا لم أستطع التخصص في مجال الهندسة .
ـــ ماذا تذكر من شخصية والدك؟
ــــــــ كانت الأخلاق بالنسبة له هي الأهم والأساس الذي ينطلق منه الى الحياة.كان عنيف الشخصية، صادقاً مع نفسه ومع الناس. تأثرت بوالدي كثيراً وتعلّمت منه الأخلاق والشهامة .
ـــ لم تذكر والدتك؟
ــــــــ القيم العليا أخذتها من والدتي. تاثرت بها كثيراً وتعلّمت منها الكثير ولا أنسى الحكايات التي كانت تقصّها عليّ بشكل دائم ويومي.
ـــ ماذا تُخبرنا عن بداياتك،هل من حادثة مُعينة ما زالت ماثلة في ذهنك؟
ــــــــ أذكر من طفولتي، وكنت في الرابعة من العمر. كنت في مدرسة لا تستقبل سوى أولاد الأغنياء. في إحدى الأيام اعترضت أمام مُعلِّمة اللغة الفرنسية على لفظة من حرفين، ولم تستطع المُعلمة إقناعي وقلت لها بأنني سأخبر أبي كي يضغط على المُعلمة الكبيرة لحذف هذه اللفظة من القاموس..اجتمعت يومها بالمعلمة التي حاولت اقناعي بضرورة هذه اللفظة فلم أقنع…منذ ذلك التاريخ القديم قررت في داخلي بأن أصحح كل الحروف والمصطلحات التي تحتوي الغلط…هذا الأمر قادني فيما بعد الى صرامة مع اللغة، فصارت عادتي ترتكز الى تصحيح كتبي بين طبعة وأخرى …عندي مرض اسمه التصحيح..أذكر أن الشاعر شفيق المعلوف رأى مجموعتي “رندلى”مطبوعة فقرأها وحفظها. وحين شاهد طبعتها الثانية مُصححة لامني بعد عودته من البرازيل محتجاً. فقلت له انها أشعاري وأنا أغيّر فيها كما أشاء .


ـــ ذكرت كتابك”رندلى”وهو من الكتب الهامة في تجربتك، ماذا تخبرنا عن هذا الكتاب تحديداً؟
ــــــــ لكل شيء كمال وجمال وبهاء. للكتابة للحب، للقصيدة للإنسان..الكمال للتفاصيل،الجمال للكل..وعندما أنشر كتاباً أتعمّد فيه الجمال ثم أعود للتصحيح فيه لأتعمد الكمال وألتقطه بكل تفاصيله، و”رندلى” هو من الكتب التي ينطبق عليها هذا النظام .
ـــ كتابك “لبنان ان حكى” له خصوصية في حياتك ،أليس كذلك؟
ــــــــ يمثل لي هذا الكتاب الكثير الكثير. ونصف مدخولي من هذا الكتاب، فقد تم طبعه عدة مرات ويُعلّم في المدارس لأنه يصوّر شخصيات شهمة، وهذا كلّه نابع من تأثير شخصية والدي علي. كذلك نابع من تأثير شخصية أمي وشهامتها ونظافتها وطهارتها .
ـــ “بنت يفتاح”كتابك الأول،أليس كذلك؟
ــــــــ نعم انه باكورة أعمالي .
ـــ كيف ومتى تكوّنت فكرة إخراج هذا الكتاب الى النور؟
ــــــــ هذا الكتاب له قصة…كتبتها أول أيام نزولي الى بيروت.كانت هناك جمعية اسمها”الجامعة الأدبية” ومقر الجمعية تحول اليوم الى قصر وزارة الخارجية، وأقيمت في وقتها مسابقة لأفضل عمل روائي جائزتها 50ليرة.ووقتها الخمسون ليرة تكفي الإنسان للعيش عاماً كاملاً..تقدمت شخصيات أدبية كبيرة الى المسابقة فرفضت الجمعية نصوصهم، وانتهت مدة التقديم. بالصدفة تعرّفت على الأديب صلاح لبكي في مدينة زحلة، فحدثني عن المسابقة وطلب مني الإشتراك وكنت قد كتبت من “بنت يفتاح” فصلاً واحداً قرأه وفرح به، وأتممت الفصل الثاني خلال أسبوعين..فازت الرواية وضوعف مبلغ الجائزة الى مئة ليرة،هذا المبلغ جمعوه وقتها من الأغنياء. والرواية أخذتها الجامعة اليسوعية وطبعتها وقبضت ثمنها سلفاً.
لعلني أتفرد بانني حين أطبع كتاباً أو مجموعة أقبض من دار النشر حقوقي سلفا.

ـــ كيف تشرح لنا مسيرة تكوّن شخصيتك الثقافية؟
ــــــــ ثقافتي تنطلق من معرفة تقول ان على الأديب أن يكون مطلعاً على الثقافة العالمية كلها. وهذه القناعة قادتني الى ضابط فرنسي يمتلك مكتبة مكتظة بالكتب،كُتب من اليونان والصين والهند فقررت أن أخلد الى هذه المكتبة قبل نزولي من زحلة الى بيروت. قررت دراسة الأدب في العالم، فبدأت بالأدب الصيني ،أقدم الآداب، ثم بالأدب السنسكريتي،ثم بالأدب الزندي ، أدب الفرس قبل الإسلام،الأدب الذي أخرج زرادشت، ثم تابعت بالأدب الفينيقي والمصري ثم انتقلت الى آداب أوروبا التي ألهبت عقلي والتي أعتبرها من الآداب الحقيقية.أدب اليونان العظيم والأدب الفرنسي .قرأت كل الآداب عدا الأدب الروسي الذي لا أعرف منه سوى عملاقين كبيرين هما تولستوي وديستوفسكي، وكنت أحب شولوخوف وقد كتبت عنه قصيدة ألقيتها في بيروت في حفل لمناسبة نيل جائزة نوبل .
ـــ كيف تعيش اليوم، كيف يتحرك سعيد عقل، كيف يتحرك الوقت في مساحة حضورك. حياتك اليوم كيف ترسم معالمها،أما زال سعيد عقل هو هو؟
ــــــــ بالتأكيد سعيد عقل هو هو.انه الشاعر الذي ما زال في عهدة الشعر، ولغته نابضة بالفرح العظيم.أما كيف أعيش، فإنني أقول،أعيش كما أريد، ان حياتي ما زالت على حالها.الحياة أنصفتني والله أعطاني كل الحب، وسيعطيني بعد، وأنا على ثقة كبيرة بأن الحياة ما زالت واسعة أمامي .
ـــ شارفت على إتمام القرن من العمر وما زلت تعيش ثقة الشباب بمستقبلهم، كيف تُفسّر هذا الشعور المتعاظم في نفسك وكيانك الوجودي؟
ــــــــ إن الله أمدني بالحياة، أحبني كثيراً، وهو كريم عزيز وسيعطيني المزيد .
ـــ أقول لك،انشاالله سنزورك بعد خمس سنوات…؟
ــــــــ أجاب بثقة عالية ونبرة رصينة: ستزورني كثيراً أكثر من مئة مرة، ستزورني بعد أكثر من ثلاثين سنة .
ـــ هذا اذا عشت أنا الى ذلك الوقت.. ولا أعتقد أنني سأعيش أكثر مما عشت.؟
ــــــــ الشعراء أصدقاء الله .
ـــ تحمل في جعبة حياتك قرناً من الحياة. كأن الدهر كله معك ولك، وأرى فيك الآن شعور الشباب الطامح الى تحقيق المزيد من الحياة والعمل؟
ــــــــ نعم انك تقول كلاماً حقيقياً يا اسماعيل يا فقيه.
ـــ هل للشعر كل هذا الفضل في بناء هذه الإشراقات في حياتك وأيامك؟
ــــــــ أنا سعيد عقل ولست سواي، وعندما أقول سعيد عقل يعني ذلك أن الحياة معي ولي. نعم الشعر هو مجد وخلود .الشاعر الكبير الذي يجسّده سعيد عقل هو الثقة الكبيرة وهو الطاقة الهائلة التي تبث الحياة دائماً وبلغة متجددة، عابقة، تساهم في توليد النبض الذي يغذي مفهوم الجمال .الشعر وسعيد عقل هما العظمة والجمال، فهل تنتهي العظمة؟ وهل ينتهي الجمال؟؟ لقد أعطتني الحياة ما اعطيتها، أعطتني العمر المديد ، وأعطيتها الجمال والشعر والعظمة .
ـــ أنت أعظم الشعراء؟
ــــــــ كثيرون اعترفوا بهذه العظمة؟
ـــ من قال أنك أعظم الشعراء، طبعاً غير سعيد عقل؟
ــــــــ الشاعر السوري سليمان العيسى قال:إذا العرب أعطوا كل مائة سنة سعيد عقل يعيشون مليار سنة .
ـــ المتنبي ، طاغور، لوركا، شكسبير،..وكثر هم من العظماء؟
ــــــــ سؤالك الطويل العريض أرد عليه كالآتي:المتنبي شاعر كبير ولكن كان عليه أن يشعر أكثر، ويتعمّق أكثر مما تعمق،كان عليه أن يستعمل اللغة أكثر مما استعملها!؟أنا هالسعيد عقل كتبت وشعرت واستعملت اللغة أكثر من المتنبي.إن أشعاري تتفوق على شعر المتنبي وهي أعمق منه بكثير..أما العظماء الذين ذكرتهم في سؤالك، فإنني أقول مثلما تقول يا فقيه يا إسماعيل انهم من الكبار أيضاً ، ولكن وفق موازاة هذا الكلام أقول:في أشعاري جمال متفوق وغير موجود في الشعر العربي الأوروبي .
ـــ وباقي الشعر العالمي؟
ــــــــ ليس في العالم شعراء كبار سوى قلّة .
ـــ وأنت منهم؟
ــــــــ أنا أولهم .
ـــ هل كتبت وصيتك؟
ــــــــ شعري هو وصيتي، فيه كل الكلام وكل الأسئلة وكل الأجوبة. قلت في شعري كل شيء، حاورت الجمال وابتدعته وابتكرته.أليست هذه وصية؟ رسمت معنى الإنسان وحددت له مفهوم الإقامة في الوجود،أليست هذه وصية؟؟ علّمت الشعراء الكبار الشعر،أليست هذه وصية؟؟؟ كلهم ساروا على خطى سعيد عقل، من كل الأجيال،أليست هذه وصية كافية؟
ـــ هل من زيادة على هذه الوصية أو الوصايا؟
ـــــــــ وصيتي أن يبقى الجمال في مأمن،أن يحافظ الإنسان على مرتبته الإنسانية.

شعري هو وصيتي فيه كل الكلام وكل الأسئلة وكل الأجوبة قلت في شعري كل شيء حاورت الجمال وابتدعته وابتكرته


ـــ هل أنت خائف على لبنان؟
ــــــــــ لبنان مثل سعيد عقل،لا خوف عليه.إنه تاريخ العالم.أنا سعيد جداً اليوم وربما أكثر من الماضي،لأن لبنان قوي جداً .
ـــ ما سبب هذا التفاؤل؟
ــــــــ أنت صغير في العمر ولا تعرف ما هو لبنان، وإذا عرفت ستشعر بالعظمة لأنك لبناني. يقول بول موران، وهو مؤرخ فرنسي كبير: “صور وصيدون كانتا ذات يوم تاريخ العالم”!هل تعرف معنى هذا الكلام؟ مدينتان صغيرتان من لبنان تختصران العالم.
ـــ ولكن هذا الكلام ينتمي الى الماضي،أين نحن منه اليوم؟
ــــــــ إنه كلام مستمر ويسري على كل العصور .
ـــ حتى العصور القادمة؟
ــــــــ بالتأكيد وبثقة وعنفوان أقول:نعم كبيرة.
ــــ ألا ترى في كلامك ما يوحي بالإنتقاص من بقية العالم؟
ــــــــ أُحيلك الى ما قاله المؤرخ الفرنسي الآخر أنتون .
ـــ ماذا قال؟
ــــــــ لا يجوز أن لا تعرف ماذا قال.
ـــ أعتذر منك لأنني لا أعرف وأريد أن أعرف، ماذا قال؟
ــــــــ قال أنتون: لبنان أعلى قمة في التاريخ.هل قيل عن بلاد أخرى مثل هذا الكلام!؟
ـــ لكن الحاضر مختلف، السياسة اليوم في لبنان غيّرت مجرى هذا الكلام؟
ــــــــ أنا اليوم مرتاح وقلبي مطمئن على لبنان..السياسة اليوم لا تهمني كثيراً وأسيادها الى زوال،لا يهمني إذا كان هذا السياسي أو ذاك يغتصب مال الخزينة، هذه تفاصيل يمكن حذفها.أنا دائماً مستقو بلبنان. ومهما كانت الحروب حوله، فهو أكبر من كل شيء، ولا يمكن لأحد زعزعة مكانته. أهل السياسة يشوهون الحياة والفضل أن لا نتحدث عن هذا القبح.

لبنان مثل سعيد عقل لا خوف عليه إنه تاريخ العالم أنا سعيد جداً اليوم وربما أكثر من الماضي لأن لبنان قوي جداً


ـــ كيفك أنت والقراءة والكتابة اليوم؟
ــــــــ لا أخفي عليك انني لا أتمتع اليوم بنظر فعّال كما في السابق،هناك من يقرأ لي وأملي عليه ليكتب ما أبتكره .
ـــ ماذا تشعر عندما تسمع أشعارك اليوم؟
ــــــــ عندما أستمع الى أشعاري يقف شعر راسي، أطرب لها يجتاحني الأمل وأتساءل:من هو هالسعيد عقل الذي كتب كل هذا الجمال والعظمة .
ـــ كلامك عن تفوق أشعارك على أعظم شعراء العالم، أليس فيه شيء من الإعتداد بالنفس، وقد يلقى ردوداً عليه؟
ــــــــ صحيح ما تقوله، لكنه حتماً وبالتأكيد إنه كلام صحيح وله خصوصيته الملزمة والفاعلة.
ـــ هل تعرف شعر علي أحمد سعيد؟
ـــــــــ طبعاً أعرف شعره، ولكن لماذا سألتني عنه؟
ـــ سألتك لأن علي أحمد سعيد هو أدونيس وهو الحاضر الأكبر اليوم على الساحة الشعرية .ما رأيك بأدونيس وأشعاره؟
ــــــــ لا أحب شعره ، ولا طريقة حضوره في الساحة الشعرية. وأدونيس خرج من اسمه الى إسم مستعار وهذا يتنافى مع رسالة الشعر الخالدة .
ـــ يبدو أنك صاحب نظرية معينة حول هوية الشاعر؟
ــــــــ نظريتي تقول، أكتب الشعر ولا “تحرتق”على الشعراء .
ـــ تقصد أدونيس بهذا الكلام؟
ــــــــ أدونيس وسواه، أدونيس حرتقجي كبير وهذا ما يتنافى مع الشعر والشعراء.
ـــ هل تعجبك أشعار محمد مهدي الجواهري؟
ــــــــ كيف لا تعجبني وهي تقاطعت مع أشعاري.أشعاره مرت في أشعاري .
ـــ نزار قباني؟
ــــــــ شاعر خفيف الظل، شهرته نابعة من تغزله بالمرأة .
ـــ سليمان العيسى؟
ــــــــ أكبر شاعر في سوريا .
ـــ ميشال طراد؟
ــــــــ شاعر كبير .
ـــ من يعجبك من الشعراء العرب؟
ــــــــ قلّة.
ـــ مثل من؟
ــــــــ لا أذكر الأسماء .
ـــ تتهرّب من الجواب؟
ــــــــ يضحك بغزارة: لا أُحب ذكر من يقلّدني.
ـــ من يعجبك من الشعراء المحدثين؟
ـــــــــ أقل من القلّه . يضحك بغزارة .
ـــ نعود الى شعرك، سعيد عقل مُتهم بأن أدواته الشعرية محصورة بأقل من ستماية كلمة، كيف ترد على هذا الكلام؟
ـــــــــ ست مئة كلمة كافية لإنتاج وقول كل الجمال.هذه الأدوات الشعرية كانت كافية في شعري لتفي بغرض الشعر كله، ولتؤكد أن الثرثرة الشعرية لا قيمة لها، وهذا حال أغلب شعراء كل العصور..كانط استعمل أسلوبي، قدم كل فلسفته بخمس مئة كلمة .
ـــ ما الذي ذكّرك بكانط؟
ــــــــ أنا قاريء للعلم والفلسفة والرياضيات .
ـــ كيف تقرأ صيحات العلم المدوية اليوم؟
ــــــــ العلم هو القصيدة الجديدة للبشرية، وسوف يأتي اليوم الذي يصير فيه العلم هو الجواب على كل سؤال في الحياة .
ـــ هل تعرّفت على الكومبيتر؟
ــــــــ حسب قدرة نظري وصحتي .
ـــ المرأة في حياة سعيد عقل كيف كانت وما تأثيرها عليه ؟
ــــــــ كانت وما زالت كما هي، المرأة الشريفة التي تتمتع بالنبل والأخلاق، وهذه المرأة توحي بالشعر العظيم .
ـــ تغزّلت بالمرأة، من هي المرأة التي تغزّلت بها؟
ــــــــ إنها المرأة النبيلة التي تحافظ على جمالها وروحها، المرأة التي تستحق الشعر، تغزلت بالمرأة الشريفة التي تحترم زوجها وعائلتها.الغزل الذي لا ينطلق من القداسة هو كلام خارج الغزل والشعر .
ـــ بالنهاية دعني أصارحك بأنك تبدو معجب بشخص واحد اسمه سعيد عقل؟
ــــــــ أنا معجب بالإمام علي ودانتي ونوفالس وفاليري وسواهم من الشعراء والفلاسفة الذين أغنوا التاريخ بأفكارهم.لكني بالمقابل أجاهر بعدم إعجابي بافلاطون وسقراط.
ـــ هل أنت فيلسوف؟
ـــــــ قلت لك أنا ابن العلم والعلوم والفلسفة هي في صلب أشعاري، ولكن أقول :أنا شاعر والشاعر هو الفيلسوف وهو المُفكّر وهو القدوة للحياة.

السابق
تراجع بأسعار المحروقات.. كيف أصبحت؟
التالي
عن المخيمات الفلسطينية ومشكلة الكهرباء في لبنان