حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: انتهاك الدستور خطيئة.. لا يصح التربح منها

حارث سليمان
يخص الناشط السياسي والأكاديمي الدكتور حارث سليمان "جنوبية" بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع و منصاته الإلكترونية.

بعد ٣٣ سنة على توقيع وثيقة الوفاق الوطني، وبعد ان اصبحت هذه الوثيقة في صلب الدستور اللبناني، من خلال التعديلات الدستورية التي اقرها مجلس النواب اللبناني، بموجب القانون الدستوري رقم ١٨ بتاريخ ٢١/ ٩/ ١٩٩٠ بعد هذه الحقبة الزمنية الطويلة، يصح القول ان الصراع على اتفاق الطائف والدستور المنبثق عنه، مازال قائما محتدما ومستمرا، كان قبل اقرار الطائف، و مازال بعد اقراره وتحوله الى دستور يلزم جميع الاطراف بتطبيقه والاحتكام الى بنوده، ولذلك فبدل ان تكون وثيقة الطائف مرجعا تنتظم الحياة السياسية والمؤسسات الدستورية طبقا لمندرجاتها، وقاعدة معيارية يقاس عليها اي سلوك سياسي، اوممارسة ديموقراطية، اصبح الدستور طابة يتقاذفها السياسيون ويجاهدون في كل مناسبة، تارة لاجتزائه، فيقبلون بنص يجري تطبيقه ويرفضون نصا آخرا، يتم تأجيله والتهرب من تطبيقه، بذريعة التوافق او اللجوء الى آليات التعطيل، وتارة لتشويهه فيحملونه ما ليس فيه، او يُعفون انفسهم من الالتزام به بحجة السعي لتطويره.

الصراع على اتفاق الطائف والدستور المنبثق عنه مازال قائما محتدما ومستمرا، كان قبل اقرار الطائف و مازال بعد اقراره وتحوله الى دستور


وقد فات كل هؤلاء ان لا شرعية لاي سلطة، ولا طاعة لشعب لقرارات حكامه، خارج التزامهم، اي الحكام، بسيادة الدستور وتسليمهم الطوعي باحترام القانون، كل قانون.
واتفاق الطائف لم يكن نصا دبرت ديباجته على عجل، كما يحلو للبعض ان يزعم، بل هو ثمرة جهد متراكم، ومحطات تم فيها بناء تفاهمات، من الوثيقة الدستورية التي اعلنها سليمان فرنجية الجد في شباط ١٩٧٦، الى ورقة الثوابت الوطنية والاسلامية التي صدرت من دار الفتوى، الى ورقة ابريل غلاسبي السفيرة الاميركية في حينها، الى الاتفاق الثلاثي الذي وقعته القوات اللبنانية -حبيقة، مع امل وجنبلاط، الى ورقة صاغها الرئيس حسين الحسيني مع الفاتيكان وبكركي، لتتوج هذه الاوراق جميعها في الطائف.

لا شرعية لاي سلطة ولا طاعة لشعب لقرارات حكامه، خارج التزامهم اي الحكام بسيادة الدستور وتسليمهم الطوعي باحترام القانون كل قانون


فالى جانب المقدمة الميثاقية التي اضافتها الوثيقة، حول نهائية الوطن اللبناني وهويته العربية، فالتغييرات التي ادخلت من خلاله، تتلخص بتعديلات جوهرية على توازن السلطة وتسيير عمل مؤسساتها، وباهداف تم السعي الى تحقيقها وانجازها. فقد رمى الطائف الى:
١) استعادة الدولة لسيادتها الوطنية ووظائفها كافة، عبر تحرير لبنان من الوصاية السورية والاحتلال الاسرائيل، ونزع سلاح الميليشيات كافة، بعد خروج قوات منظمة التحرير من لبنان، وتطبيق قرارات مجلس الامن الدولي على الحدود الجنوبية.
٢) نقل السلطة الاجرائية من رئيس الجمهورية الى مجلس الوزراء، ومنح المسلمين نسبة المناصفة في البرلمان ومواقع السلطة وادارتها.
٣) وضع مسار تدريجي لتجاوز الطائفية على مراحل تبدأ ب :
أ) الغاء الطائفية الادارية بشكل فوري، واعتماد الكفاءة في بناء هياكلها. اي لامناصفة في الادارة في وظائف ما دون الفئة الاولى.
ب) الغاء الطائفية السياسية عبر نظام المجلسين مجلس نواب خارج القيد الطائفي، واعتماد المحافظة في قانون الانتخاب بعد زيادة عدد المحافظات الخمس. ومجلس للشيوخ يعتمد فيه التوزيع الطائفي
ج) تشكيل هيئة وطنية تعنى بالغاء الطائفية من النفوس بعد الغائها من النصوص والانتقال الى دولة مدنية حديثة.
٤) اقرار اللامركزية الادارية والانمائية الموسعة، واعتماد الانماء المتوازن بين االمناطق والعاصمة.

لكن انتهاك الدستور وممارسة الحكم من خارج المؤسسات وخلافا للقانون، والسعي الحثيث لتعميم وتوسيع الانقسامات الطائفية وتسعير الصراعات المذهبية، طبعت الحياة السياسية اللبنانية منذ ثلاثة عقود وتفاقمت اخطارها بعد اتفاق الدوحة وتداعياته.
فالسلطة الفعلية في لبنان منذ اتفاق الدوحة تمارس من خارج المؤسسات الدستورية، والمراسيم والسياسات تصدر من خارج الحكومة، حتى لو نالت تواقيعَ الوزراء وأختامهم، والتشريعاتُ الأساسية، يُتَخّذُ أمرُ صياغتِها خارج مجلس النواب، حتى لو شَهِدْنا نقاشاً حاميا حولها في الندوة البرلمانية…

انتهاك الدستور وممارسة الحكم من خارج المؤسسات وخلافا للقانون والسعي الحثيث لتعميم وتوسيع الانقسامات الطائفية وتسعير الصراعات المذهبية طبعت الحياة السياسية اللبنانية منذ ثلاثة عقود


لا يطبق حزب الله القانون اللبناني لحل النزاعات في مناطق سطوته، وللقيام بالتسويات والتحكيم بين المتنازعين واجراء المصالحات فيما بينهم، بل يلجأ الى تطبيق الشريعة الاسلامية، حتى في خلافات الايجارات او تعويض الضحايا في حوادث السيارات!
في عقيدة حزب الله الشعب ليس مصدر السلطات، كما ينص الدستور اللبناني، وشرعية الحاكم لديه تأتي من تكليف الهي عبر نيابة صاحب الزمان والولي الفقيه، ولذلك، فالانتخابات بمفهوم حزب الله ليست امتحانا للنواب ولسياساتهم وادائهم، وليست مراجعة لإنجازاتهم واخفاقاتهم، لكنها احتفال لتجديد البيعة واظهار الولاء والوفاء للقائد والمرشد، فيها يُبرئُ الناخبُ ذمته امام ربه، ويعلن طاعة غير مشروطة للولي الفقيه، تمنحه الثواب ومرضاة الله وحزبه…

لا يطبق حزب الله القانون اللبناني لحل النزاعات في مناطق سطوته وللقيام بالتسويات والتحكيم بين المتنازعين واجراء المصالحات فيما بينهم بل يلجأ الى تطبيق الشريعة الاسلامية


فالحزبَ لا يتنافسُ مع خصومٍ على مقاعد نيابية، ولا يَحتكِمُ لأصوات ناخبين، يفاضلون بين مرشحيه ” الأوفياء لمقاومته ” ولبنانيين آخرين، لديهم برامجَ أخرى وتوجهات سياسية مختلفة، بل هي مواجهة بين رجال أخيار أبرار، هم مرشحي الحزب من جهة اولى… وجواسيس أرسلتهم ومَوَّلَتهم سفارات دول الشر والاستكبار العالمي من جهة ثانية… وعليه، اي نقاش دستوري مع حزب الله سيكون عبثيا او سيكون في جوهره نفاقا وتقية. الولي الفقيه له من السلطات كل ما لدى النبي والامام كما افتى الامام الخميني، والحزب ينفذ ما يرغب به الفقيه، ارضى ذلك او أغضب شعب لبنان … فعن اي عقد دستوري جديد او اجتماعي نناقش حزب الله، فيما لو ذهبنا الى دستور جديد كما تروج بعض الدوائر الاستشراقية التابعة لدول اوروبية؟
لا جدوى من اي سجال دستوري او قانوني مع حزب الله، فلبنان بالنسبة اليه ليس وطنا، بل ساحة مواجهة او طاولة تفاوض مع اعداء ايران، واداؤه تجاه السلطة اللبنانية يتراوح بين حدين، حد ادنى يعنى امساكه بحق الفيتو على اي اجراء او قرار، وبين حد اقصى هو امساكه بمفاصل الدولة وقراراتها كافة، ولايهمه ابدا ان كان تحقيق هذه الغايات قد جرى طبقا للدستور والقانون وقواعد الحياة الديموقراطية او خلافا لكل ذلك.

عن اي عقد دستوري جديد او اجتماعي نناقش حزب الله فيما لو ذهبنا الى دستور جديد كما تروج بعض الدوائر الاستشراقية التابعة لدول اوروبية؟


العونية السياسية وهوسها السلطوي، هي الوجه الاخر لثقافة الخروج عن الدستور والانفلات من الاحتكام للقانون والالتزام باصول القواعد الديموقراطية، وعلى الرغم من ان السهر على تطبيق الدستور هي مهمة جلى، من صلاحيات رئيس الجمهورية حسب المادة ٤٩، فقد امعن الجنرال ميشال عون في انتهاك الدستور وخرقه عبر:

1) تجاوز مبدأ المساواة في الوظيفة العامة بين اللبنانيين وبين المسلمين والمسيحين . و قام بمخالفة المادتين ١٢ و ٩٥ من الدستور، التي تفرض اعتماد الكفاءة والامتحان في الوظيفة العامة،كما تعمد مخالفة الدستور، بالتراجع عن الغاء الطائفية الادارية فلا مناصفة حسب الطائف في وظائف الفئات الثالثة والرابعة والخامسة، فيما أصر على مناصفة في كل توقيع او قبول حاجب في الادارة.
2) اضافة لذلك، سعى لتوزيع تعيينات الموظفين من الفئة الاولى في الادارة وما يعادلها من مواقع في المؤسسات العامة، وقادة الاجهزة الامنية على الاحزاب الكبرى في مختلف الطوائف اللبنانية. حيث اعتمدت المحاصصات الحزبية والطائفية، بديلا لبناء هياكل دولتية على اساس الكفاءة والاقدمية، والمهنية والمناقبية وعدم التبعية السياسية او الاستزلام الطائفي والحزبي.
3) كما قام الجنرال بمحاولة الغاء الطائف بالممارسة؛ والأمثلة كثيرة على ذلك :
أ) أقر الطائف بأن السلطة الاجرائية تناط بمجلس الوزراء، المادة ١٧ من الدستور، لكن بالممارسة حاول ان يصبح رئيس الجمهورية شريكا اساسيا في السلطة الاجرائية، ان يسترجع صلاحيات ما قبل الطائف.
ب‌) في موضوع تسمية رئيس الوزراء بناءً على ” استشارات نيابية ملزمة” ؛ اعتبر ان لرئيس الجمهورية حق الاستنساب والاستمهال لضرورات يستطيع تقديرها، بحيث يمكن له في هذه الحالة تحديد موعد الاستشارات بعد أسابيع او مدة، قد تتعدى اكثر من شهر من استقالة الحكومة.
ت) الاكثرية النيابية هي التي تقرر اسم رئيس الحكومة العتيدة، لكن عون عرقل تاليف الحكومة لرئيسين ودفعهما للاعتذار فيما بقي الثالث ممنوعا من التأليف.
ث) حاول ابتزاز الرئيس المفترض تكليفه بالحكومة، بمفاوضته حول تاليف الوزارة قبل تكليفه برئاسة الحكومة.
ج) حاول ان يكون فريقا يأخذ حصة من التشكيلة ويترك للكتل البرلمانية حصصا أخرى!

لا يفاجئ عون عارفيه ومعه باسيل، بادعائهما اليوم، حرصا مستجدا على دستور لم يترك فرصة لانتهاكه الا واستعملها


ح) اعتبر بالممارسة المضمرة ان الثقة للحكومة العتيدة، يجب ان يتم نيلها على مرحلتين؛ ثقة رئيس الجمهورية أولاً ثم ثقة المجلس النيابي؟ وهو امر مستهجن.
خ) إعتبر ومارس ان مجلس الدفاع الاعلى له سلطات تنفيذية، يمكن ان تسد غياب مجلس الوزراء، فيما هذا المجلس هو استشاري الوظيفة ويرفع توصياته الى مجلس الوزراء فيتبناها، لكي تأخذ طريقها للتنفيذ؟!
4) تعمد عدم اجراء انتخابات نيابية فرعية بعد استقالة ثمانية نواب بعد انفجار المرفأ.
لا يفاجئ عون عارفيه ومعه باسيل، بادعائهما اليوم، حرصا مستجدا على دستور لم يترك فرصة لانتهاكه الا واستعملها، لكن ثمة مفاجأتان؛ الاولى هو عدم قيام احد بتذكيره، ان ماتقوم به حكومة ميقاتي اليوم، من ممارسة لصلاحيات محددة في ظل فراغ رئاسة الجمهورية، اقل بكثير ولا يقارن بما قامت به حكومته العسكرية البتراء، خلال الفراغ الرئاسي بعد نهاية عهد الرئيس الجميل سنة ١٩٨٨. المفاجأة الثانية هو عدم تذكيره بان منع تشكيل الحكومة بعد انتخابات ٢٠٢٢ النيابية، كان خطيئة وطنية كبرى، وان مرتكب الخطيئة لا يصح ان يتربح منها.

السابق
جنبلاط يدعي على القاضية عون.. ما القصة؟
التالي
«طحين مشبوه».. تجمع «الأفران الصغيرة» يرفع الصوت ويُناشد القضاء!