وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: المواجهة في إيران.. مرحلة اللاعودة

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع.

بات الحراك في إيران، أبعد من قضية مقتل مهسا أميني. فلم يعد مجرد مطالبة بمعاقبة ومحاسبة المسؤولين عن هذا الفعل المشين. فالحراك حوَّل قضية أميني إلى حالة عامة، لقابلية الجريمة أن تتكرر باستمرار، وإمكانية حصولها لكل فرد، امرأة كان أم رجلاً، ولأن الأسباب العميقة للجريمة ليست سوء تصرف شرطة الأخلاق فحسب، بل سياسات وذهنيات واستراتيجيات وبنية أجهزة الدولة نفسها.  لذلك لم تكن قضية أميني هي التي أطلقت الحراك، بل كانت لحظة زمنية لتفجير تراكمات، لم يعد بالإمكان كبتها أو الصبر عليها أو تحملها، ومناسبة درامية للكشف عن الأسباب البعيدة لمقتل أميني، وإظهار الصورة الحقيقية والمخفية والباطنية للواقع الإيراني كله. 
تحول الحدث من واقعة جزئية وعابرة إلى قضية كلّية وشاملة، أي قضية تمس كل إمرأة وكل رجل على حد سواء. فالقاتل استحال من عناصر في شعبة الأمن ليصبح النظام كله بجميع أجهزته ومؤسساته ورموزه، والمقتول أو الضحية استحالت إمرأة أية إمرأة، كل إمرأة، بل كل فرد من أفراد المجتمع. بالتالي اتخذ مقتل أميني دلالة رمزية مكثفة تختزن مأساة، لا شخص بعينه، بل مأساة مجتمع بأسره، وتكشف لا عن خطأ فردي بل عن حقيقة نظام ومنطق سلطة. ليكون الحراك بذلك تعبيراً مجتمعياً، لا يقتصر على ما حصل لمهسا أميني، بل تعبيراً عما يحصل لكل فرد في إيران.  باختصار باتت قضية علاقة مأزومة بين دولة ومجتمع، وشكلا مبكرا من صور مواجهة دائمة بينهما.

الحراك حوَّل قضية أميني إلى حالة عامة لقابلية الجريمة أن تتكرر باستمرار وإمكانية حصولها لكل فرد، امرأة كان أم رجلاً


لم يعد عمق المشهد ورمزيته، يسمحان بالاكتفاء بتوصيف ظاهره وتحليل مؤدياته السياسية. أي لا يكفي فيه التحليل الكمّي، الذي يُقدِّر حجم الحراك واتساعه وطاقته، على الاستمرار وقدرته على التغيير الفعلي.  ولا يكفي فيه ايضاً تحليل قدرة النظام على قمع الظاهرة أو الصمود بوجهها، أو إمكانية الوصول إلى تسوية بين المتصارعين.  فهذا كله يُوَصِّف لعبة الصراع وقواعدها، يحدد القوى الفاعلة فيها، يقيم إمكانيات كل طرف الذاتية في التغيير والحسم. لكن ذلك كله لا يكشف عن ارضية الصراع ومقعد الجدل المركزي بين الطرفين. ما يتطلب الكشف عن المفاهيم والمعاني الشغالة، إضافة إلى البديهيات والضرورات والمسلمات، والمنطلقات والرسائل التي يعتمدها كل طرف، بالتالي الكشف عن حقيقة الحدث بوصفه حدثاً عاماً أو عمومياً، وإظهار معناه الكلي ودلالاته العامة والشاملة. لا نعود نتحدث عن زمن المشهد في حاضره ومستقبله، بل عن تاريخيته المقوّمة لذاته أي إيقاع تاريخه الخاص، وعن زمانيته التي يخلق بها زمانه الشخصي، وعن ما ورائياته التي هي صلب الأزمة وباعث الحراك ودافعه، جديته وأصالته، طاقته الكامنة على الاستمرار والثبات، الاقتحام والتغيير.  عندها تنتقل الدلالات والابعاد، وحتى الرسائل والمطالب، من خصوص حدث أو شخص، إلى عمومات الواقع وكليات المعنى وشمول الدلالة، لنكون أمام إشكالية علاقة بين مجتمع ونظام، قضية سلطة وحرية، شرعية نظام، معضلة أيديولوجيا، هوية وحقيقة وطن، حداثة وتقليد، تراث وحاضر، أزمة علاقة بين دين ودنيا، صراع تأويلات داخل الدين نفسه، بل تطال حقيقة الإسلام نفسه وكيفية حضوره في زماننا. هي جميعها عناوين وكليات يفيض بها المشهد الإيراني. ما يعني أنه ليس مشهداً سياسياً فحسب، بل يتفرع ويتشعب ليكون مشهدا فكرياً واجتهاديا وفقهياً وتأويلياً ونمط حياة. إلا أن نقطة ارتكاز كل هذه العناوين، ومحور جدلها هو الشرعية السياسية، التي تمنح جهة أو شخصاً حق الأمر والإكراه الشرعيين. هذه الشرعية لا تقتصر على شرعية من في السلطة، أو مطابقة سلوك الحاكمين لقواعد مشروعية معتمدة ومتعاقد عليها بنحو مسبق، بل بتنا أمام الأشكلة على مبادىء الشرعية نفسها، أي التشكيك بشرعية الشرعية. وبتعبير المناطقة، لم تعد الشرعية بالحمل الشايع، هي محل النقاش والتحدي، أي ماصدق الشرعية وصحة تحققها في شخص أو جهة، بل الشرعية بالحمل الأولي، أي أصل مبادىء الشرعية ومصادرها وأساس إلزامها. وهو ما يجعل عمق الأزمة مسألة مصير وبقاء واستمرار بالنسبة للنظام، ومسألة حياة وكرامة وحرية بالنسبة للمجتمع.

هذا يفسر لنا حالة النكران التي يعيشها النظام الإيراني ورفضه الاعتراف بجدية وأصالة الاحتجاج وبكون المحتجين ظاهرة اجتماعية فعلية لا مصطنعة أو مضخمة


هذا يفسر لنا، حالة النكران التي يعيشها النظام الإيراني، ورفضه الاعتراف بجدية وأصالة الاحتجاج وبكون المحتجين ظاهرة اجتماعية فعلية لا مصطنعة أو مضخمة. كان الخيار الحصري للنظام هو سحق هذه الظاهرة وإنهائها ورفض التواصل معها. مع إسقاط شتى نعوت التخوين والعمالة عليها، مثلما ورد على لسان مرشد الدولة، من قبيل: العملاء، الأغبياء، المغرر بهم، المأجورين، الجهلة. هذا الرفض لا يعكس سوى خوف وارتباك من النظام، عجز منه عن التواصل، الذهاب في الأمور حتى نهايتها، مهما كانت عواقب الأمور، لأن القضية وصلت بالنسبة إليه إلى منعطف أن يوجد أو لا يوجد. نحن أمام معركة مصير بين النظام من جهة، والمجتمع الإيراني من جهة أخرى.  حيث لم يعد من مجال لتراجع أي من الطرفين. فتراجع النظام يعني هزيمة معنوية أمام خصوم الخارج، وتدحرج كرة التنازلات التي تعرض النظام لسقوط هيبته، وتقليص مساحة هيمنته.  ولم يعد بإمكان المحتجين الانسحاب والانكفاء والخضوع، لأن ذلك يشجع النظام، لا على التحكم بكل المساحات العمومية فحسب، بل التحكم بالمساحة الشخصية والحيز الخاص للفرد.

هذا الرفض لا يعكس سوى خوف وارتباك من النظام عجز منه عن التواصل، الذهاب في الأمور حتى نهايتها مهما كانت عواقب الأمور


باتت المواجهة الآن في مرحلة اللاعودة، إما تطويع لكامل المجتمع وتعطيل قواه الذاتية، ليضمن النظام لنفسه ديمومة سلطة وتسلط، وإما كسر حلقة الإكراه والقمع التي تمارس بإسم الدين، ليبزغ فجر حرية جديد، ومعنى مختلف لحقيقة الدين، لا يعوّل على سلطة الإكراه والقمع، بل على الباعث الذاتي والإقبال الطوعي والحر.

السابق
موسم اعياد واعد في لبنان.. الطائرات «مفولة»!
التالي
عن «مونديال» قطر.. والنفاق الغربي!