الطريق إلى رئاسة الجمهورية(4): شارل حلو .. «الراهب في غير مكانه»!

أعد الكاتب السياسي ياسين شبلي، على أبواب نهاية العهد، سلسلة مقالات خاصة ينشرها "جنوبية" على حلقات، عبارة عن بروفايل للرؤساء السابقين منذ الإستقلال وحتى اليوم، مع الظروف السياسية التي رافقت وصول كل منهم إلى الحكم، وطريقة ممارستهم لمهامهم وظروف مغادرتهم الموقع.

“الراهب في غير مكانه”.. هو اللقب الذي أطلقه الراحل غسان تويني على الرئيس الرابع للجمهورية اللبنانية شارل حلو، نسبة لطبعه الهادئ وأسلوبه في العمل، في وقت كانت المرحلة ربما  تتطلب شدة أكثر من الليونة”. 

ولد شارل حلو في بيروت العام 1913، لأسرة مارونية معروفة ومتوسطة الحال، وكغالبية أبناء جيله من الشخصيات اللبنانية في تلك الفترة، درس القانون وحاز على إجازة في الحقوق من جامعة القديس يوسف عام 1934، عمل بعدها في المحاماة، كما عمل في الصحافة خاصة تلك الناطقة باللغة الفرنسية. 

ساهم في تأسيس حزب الكتائب اللبنانية عام 1936، لكنه ما لبث أن إنسحب منه بعد فترة وجيزة. عين سفيراً للبنان في الفاتيكان بين عامي 1946 و 1949، ومن ثم أنتخب نائباً عن بيروت عام 1951، وشارك في حكومات عدة أولها في العام 1949 في حكومة الرئيس رياض الصلح، وآخرها في العام 1979 في حكومة الرئيس سليم الحص، في عهد الرئيس إلياس سركيس وكانت خاتمة حياته السياسية. 

أنتخب في 18 آب 1964 ليكون الرئيس الرابع للجمهورية خلفاً للرئيس فؤاد شهاب، وبمباركة منه، بعد رفضه تعديل الدستور وتجديد ولايته.

جاء إنتخابه في ذروة الأستقطاب الدولي والحرب الباردة وكذلك في جو أقليمي وعربي متحرك

جاء إنتخابه في ذروة الأستقطاب الدولي والحرب الباردة، وكذلك في جو أقليمي وعربي متحرك، تمثل بإستلام الجناح العسكري في حزب البعث الحكم في سوريا قبل ذلك بعام، والخلافات ما بين البعث وعبد الناصر،  ترافق ذلك مع إنطلاق الثورة الفلسطينية بداية عام 1965. 

وسط هذه الظروف تسلم شارل حلو الحكم وهو القادم من عالم الدبلوماسية والصحافة، الإنسان المثقف الهادئ والدمث، الذي يجمع في شخصيته ما بين الفلسفة والإيمان العميق، أراد سياسته إستمراراً لسياسة سلفه القائمة على الإصلاح، وتطهير الإدارة والقضاء على الفساد، تميز عهده بالحكمة والإعتدال والديمقراطية، وساهم في تعزيز مفهوم حرية الصحافة التي إستغلت هذه الحرية – للأسف – لتصبح بمعظمها صوتاً للأنظمة العربية المختلفة، ما حدا بالرئيس حلو للقول مُرحِّباً في جملة ذات مغزى عميق لدى إستقباله وفداً من نقابة الصحافة ” أهلاً بكم في بلدكم الثاني لبنان”. 

شهد عهده إزدهاراً فأصبحت بيروت رمزاً للثقافة والفن الراقي والحرية والتسامح وملجأً للكثيرين من الأدباء والكتاب والسياسيين العرب، المطاردين من الأنظمة العسكرية

كما شهد عهده إزدهاراً فأصبحت بيروت رمزاً للثقافة والفن الراقي والحرية والتسامح، وملجأً للكثيرين من الأدباء والكتاب والسياسيين العرب، المطاردين من الأنظمة العسكرية التي سيطرت على الحكم في البلدان العربية، ومن إنجازاته إقرار مشروع الكابل البحري وتشييد محطة العربانية للأقمار الإصطناعية، وكذلك تطوير خطوط شبكات المياه والكهرباء، ساعده على ذلك إحتفاظه بمعظم الموظفين والمستشارين الذين كان الرئيس فؤاد شهاب قد إختارهم لمساعدته. كما إعتمد من ناحية أخرى على “المكتب الثاني” الذي ما لبث أن “تغول” – كعادة العسكر – وحاول البعض من رجاله بالتعاون مع بعض رجال فؤاد شهاب في الدولة، أن يحكموا ويتحكموا من خلاله، لكن شارل حلو لم يستسغ الأمر فأختار التحرر من هذه التجاوزات عبر التقرب من الزعماء السياسيين التقليديين، فكان كمن وقع بين مطرقة المكتب الثاني وسندان الطبقة السياسية التقليدية، وكانت البداية دعمه لإنتخاب ريمون إده في جبيل عام 1965، في الإنتخابات الفرعية خلافاً لإرادة المكتب الثاني، وصولاً حد مباركته – كما يؤكد البعض – للحلف الثلاثي الذي ضم زعماء الموارنة كميل شمعون وريمون إده وبيار الجميل، الذي كسب إنتخابات عام 1968 التي مثلت شبه إنقلاب على نتائج إنتخابات 1964 التي أعطت الأكثرية للموالين للنهج الشهابي، وكانت بالتالي بداية النهاية لحكم النهج الذي خسر الرئاسة بإنتخابات العام 1970 بفارق صوت واحد، لصالح سليمان فرنجية ضد مرشحه إلياس سركيس .

شهد عهد شارل حلو العديد من الأزمات الداخلية أهمها على الصعيد الإقتصادي إفلاس بنك إنترا عام 1966 والكثير من الأحداث السياسية ربطاً بالتطورات في المنطقة العربية

 شهد عهد شارل حلو العديد من الأزمات الداخلية، أهمها على الصعيد الإقتصادي إفلاس بنك إنترا عام 1966، والكثير من الأحداث السياسية ربطاً بالتطورات في المنطقة العربية، كان أهمها على الإطلاق إنطلاق الكفاح الفلسطيني المسلح بداية عام 1965، ومن ثم حرب 1967 بين العرب وإسرائيل التي أصطلح على تسميتها ب “النكسة”، والتي كان لها أبلغ الأثر على لبنان، إن كان من حيث تزايد اللجوء الفلسطيني المدني، أو التواجد العسكري الذي لاقى تعاطفاً من المسلمين والقوى القومية واليسارية، حيث بدأت عمليات تسليح المخيمات، وبدأت كذلك العمليات الفدائية ضد إسرائيل وخطف الطائرات، التي كان يعلن عنها من لبنان، فكان من نتيجتها أن قصفت إسرائيل مطار بيروت الدولي ودمرت الأسطول الجوي المدني اللبناني في 28 ديسمبر من العام 1968، إلى أن كان الصدام العسكري الأول بين الجيش اللبناني والفدائيين الفلسطينيين عام 1969، الذي سيطر فيه الفلسطينيون على الكثير من المخافر والمواقع اللبنانية في شمال لبنان الذي دخلوه بدعم من النظام السوري، في ظل أزمة حكومية نتيجة إعتكاف الرئيس رشيد كرامي على خلفية الخلاف حول الموضوع الفلسطيني، فكان أن توجه قائد الجيش إميل بستاني – الطامح كما قيل  بالوصول لرئاسة الجمهورية – إلى القاهرة نتيجة وساطة وضغط سوري ومصري، للتباحث مع زعيم منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات حول التطورات، ما أدى إلى توقيع ” إتفافية القاهرة ” في 3 تشرين الثاني عام 1969، التي أعطت الفلسطينيين حق العمل الفدائي إنطلاقاً من الأراضي اللبنانية في منطقة العرقوب التي أطلق عليها لاحقاَ “فتح لاند”، وإتخذتها إسرائيل ذريعة للإعتداء على لبنان على إعتبار أنها خرق لإتفاق الهدنة بين الجانبين. 

هذه الإتفاقية التي صدقها مجلس النواب اللبناني من دون الإطلاع عليها، والتي أدت بالتالي إلى إنفراط عقد الحلف الثلاثي لاحقاً، إذ رفض العميد ريمون إده الموافقة عليها على إعتبار أنها تمس السيادة اللبنانية، وتعرِّض لبنان لخطر الصدام مع إسرائيل، خلافاً لمواقف شريكيه في الحلف اللذين وجدا فيها، ربما بديلاً ومقايضة للإصلاحات التي يطالب بها المسلمون، وغيرهم من الساسة الذين كانوا يرَون بأنها إتفاقية الأمر الواقع، لمنع الحرب الأهلية التي ما لبثت أن إندلعت بعد 6 سنوات. 

إنتهت فترة حكم الرئيس شارل حلو وإنتهى معها عهد الإستقرار اللبناني لتبدأ مرحلة من أصعب المراحل على لبنان

في هذه الأجواء الداخلية إنتهت ولاية الرئيس شارل حلو، إقليمياً إنتهت على وقع الحرب التي إندلعت في الأردن بين الفدائيين الفلسطينيين والجيش الأردني في أيلول من العام 1970، في محاكاة للأزمة التي إندلعت قبل عام في لبنان، لكن الجيش الأردني الذي كان يحظى بدعم  ووحدة السلطة والشعب بعكس الواقع اللبناني، وكذلك بالدعم الأميركي حسم المعركة لصالحه، ومن سخرية القدر أن آخر إجتماع عربي حضره الرئيس حلو، وأول إجتماع لخَلفه سليمان فرنجية كان مؤتمر القمة العربي في القاهرة لحل هذا النزاع. 

إنتهت فترة حكم الرئيس شارل حلو، وإنتهى معها عهد الإستقرار اللبناني، لتبدأ مرحلة من أصعب المراحل على لبنان، البعض يحمِّل الرجل مسؤولية إتفاق القاهرة الذي كان بلا شك، أحد أهم أسباب  الحرب الأهلية، لكن هذا البعض ينسى الظروف الداخلية والإقليمية والدولية، التي كانت محيطة جراء الحرب الباردة، والتي لطالما كان لها التأثير على لبنان بسبب تركيبته وطبيعة نظامه، والتي تجعل من الأحداث والتطورات أكبر من قدرة أي رئيس على التأثير فيها.

شارل حلو كان من قماشة الرؤساء المخلصين لوطنهم لم يسعَ لمجد شخصي، ولم يتخذ موقفاً منحازاً لأي من الأطراف داخلياً وخارجياً، بل كانت مواقفه نابعة من قوة إيمانه بلبنان وشعبه

لا نقول هذا تبرئة لأحد، ولكن الواقعية تقتضي النظر بعين الموضوعية إلى الأحداث، فالرئيس شارل حلو كان من قماشة الرؤساء المخلصين لوطنهم، لم يسعَ لمجد شخصي، ولم يتخذ موقفاً منحازاً لأي من الأطراف داخلياً وخارجياً، بل كانت مواقفه نابعة من قوة إيمانه بلبنان وشعبه، الذي لم يتخلَ عنه رغم الصعوبات، وهو ما لخصه قبل مغادرته الرئاسة متوجهاً إلى اللبنانيين بالقول “يجب أن تؤمنوا بماضيكم وحاضركم ومستقبلكم، وإذا كان ثمة فترة لا تزال صعبة فهذا لا يعني أننا نهبط نهائياً”.

 أين نحن اليوم من هذا الكلام وهذا الإيمان، ونحن هبطنا إلى قعر جهنم بفضل “رؤساء” يدَّعون القوة، ويمارسونها تعطيلاً وكيدية سياسية على حساب مصلحة البلد والناس ، كم نحن بحاجة اليوم إلى رؤساء بقوة إيمان وإخلاص الرئيس شارل حلو، الذي شهد لبنان في عهده عصراً ذهبياً سواء في الإقتصاد أو الثقافة أو الفن والإعلام ، يكفي الرئيس شارل حلو أنه خرج من القصر كما دخله نظيف الكف والسمعة، ظل بعد خروجه من الحكم أميناً لبلده ، بعيداً عن ممارسة السياسة اليومية بزواريبها حتى وفاته في السابع من كانون الثاني عام 2001، تاركاً للتاريخ أن يحكم على تجربته.    

إقرأ أيضاً : الطريق إلى رئاسة الجمهورية(3): فؤاد شهاب .. «الأمير النبيل» في مواجهة «أمراء» ماكيافيلي!

السابق
مرقص لـ «جنوبية» : الترسيم «إتفاق» تمتنع الدولة عن تمريره عبر الآلية الدستورية
التالي
وقّع «صيف وشتاء».. «البنتجبيلي» نبيل حمود لـ «جنوبية»: الغربة تُحرّض على الكتابة!