توسيع دائرة الاختراق: أدوات التغلغل الإيراني وحساباته في مناطق الجنوب السوري

الجنوب السوري

في حين تتزايد الضربات الإسرائيلية على المواقع الإيرانية في غرب سورية ووسطها، لمنْع إيران من استيطان جبال الساحل السوري والقلمون، وتحويلها إلى ورشة ضخمة وممتدة لصناعة الصواريخ والمُسيَّرات وتطويرها، أخذت إيران تُكثِّف حضورها في مناطق الجنوب السوري، المحاذي للحدود الإسرائيلية، وذلك بطريقة صامتة، وعبر أدوات يصعب كشفها بالأقمار الصناعية، فضلاً عن صعوبة استهدافها نظراً لطابعها المدني، وسهولة تمويهها، أو ربما لأنها لا تشكّل مخاطر أمنية مُستعجلة في تقدير الدوائر العسكرية الإسرائيلية.

إعادة ترتيب المشهد في الجنوب السوري

خضعت مناطق جنوب سورية (درعا والقنيطرة) لتسوية خاصة شكَّلت روسيا والأردن وإسرائيل أطرافها، مع وجود تأثير أمريكي في كواليس المفاوضات التي انتهت إلى توافق هذه الأطراف على استبعاد الوجود الإيراني عن الحدود الإسرائيلية والأردنية مسافة 85 كيلومتر. وبالفعل، ساهمت الضربات الإسرائيلية المتواترة، والضغوط الروسية في تخفيف الوجود الإيراني في جنوب سورية إلى حدٍّ ما، وهو الأمر الذي ساعد على خلق معادلة جديدة ركناها الأساسيان قوات وأجهزة النظام وفصائل المعارضة، على أن تسهم هذه الأخيرة في إدارة مناطقها أمنياً.

اقرأ أيضاً: معارضون سوريون يخشون «صفقة» بين تركيا ونظام الأسد!

غير أن الحرب الروسية-الأوكرانية شكَّلت متغيراً نتج عنه خلخلة موازين القوى في جنوب سورية، بفعل اضطرار روسيا تخفيف حضورها وحصره في المناطق التي توجد فيه أصولها العسكرية، في قاعدة حميميم وميناء طرطوس، الأمر الذي سمح للحرس الثوري الإيراني بإعادة صياغة نفوذه في الساحة الجنوبية، بطريقة وأسلوب مختلفين، مُستفيداً من تجاربه وخبرته العميقة بمناطق سورية، وعلى نحوٍ يسمح بإعادة ترتيب المشهد هناك بأدوات أكثر فاعلية وغير مُثيرة للشكوك، تشمل الآتي:

1. استهداف المناهضين للوجود الإيراني: تكثَّفت في الآونة الأخيرة عمليات الاغتيال التي شهدها الجنوب السوري، وقد لوحظ أن المستهدفين بهذه الاغتيالات هُم المعارضون للوجود الإيراني في جنوب سورية. وتفيد مصادر محلية بتسرُّب معلومات من الأجهزة الأمنية حول وضع 190 شخصية على قائمة الاغتيالات، أغلبهم عناصر ما تزال نشطة من فصائل المعارضة، بالإضافة إلى شيوخ دين مؤثرين ووجهاء اجتماعيين، يجمعهم رفضهم للوجود الإيراني في المنطقة. وثمّة سبب آخر للاغتيالات كشفت عنه التطورات الأخيرة في حوران، وهو خشية إيران من إعادة تشكيل غرفة العمليات المشتركة «الموك» بعد ورود أنباء عن عودة الاتصالات مع بعض الشخصيات المعارضة، وبالتالي فإن هذه الاغتيالات تدخل في إطار خطة إيران إفشال ما تعتقد أنه تحرك أمريكي جديد لتقويض نفوذها، وسلطة حكومة دمشق في المناطق الجنوبية.

2. حركة التعيينات العسكرية والأمنية: شهدت الفترة الأخيرة حركة تنقلات وتعيينات في المؤسسات العسكرية والأمنية في جنوب سورية، وبحسب مراقبين محليين، فقد عززت هذه التعيينات مواقع الموالين لإيران، حيث جيء بضباط عُرف عنهم الولاء لإيران، مثل المقدم في الأمن السياسي يحيى ميّا الذي عُيِّنَ مسؤولاً عن معبر نصيب الحدودي، وقد سبق أن زار اليمن في مهمة تدريبية مع “حزب الله” لتدريب العناصر الحوثية التي تدعمها إيران. وتكمن الإشكالية في هذا النوع من الضباط في انحراف عقيدتهم العسكرية والأمنية، حيث يتفقون مع الرؤية الإيرانية للأزمة في سورية على أنها صراع أيديولوجي/طائفي، وبالتالي فإن وجود إيران ضروري لكسب هذا الصراع، ما يتوجب الانخراط الكامل في مشروعها وتسهيله إلى أبعد الحدود.

3. سياسة التخفي داخل الهياكل العسكرية السورية: تتبع ميليشيات إيران وحزب الله سياسة التخفي من خلال اندماجهم مع الألوية العسكرية السورية العاملة في جنوب سورية، وخاصة الفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد، حيث ينشط الإيرانيون في جميع مقرات الفرقة التي تنتشر بشكل واسع على جانبي الحدود الأردنية والملاصقة للجولان السوري، كما أن لهم وجود كبير في “المكتب الأمني” للفرقة الرابعة، والمخابرات الجوية، ويديرون من خلال هذه الأُطر برنامج الاستهداف وحملات الاعتقال بحق المعارضين للوجود الإيراني.

4. صناعة نُخَب مُوالية: تستخدم إيران سياسات ناعمة لتدعيم نفوذها في سورية، فقد افتتحت فروع لجمعية الزهراء (أُسِّست في حلب سنة 2013). واستقطبت بعض وجهاء مدينة درعا لإدارتها والإشراف عليها، وتوزيع المساعدات الإغاثية والطبية. كما استقطبت أعداداً أخرى في مشروع صناعة المخدرات وتجارتها، بالإضافة إلى تشغيل سماسرة وتجار في شراء العقارات وتأسيس بعض الشركات الاقتصادية، وخاصة في مجال المنتجات الغذائية مُستفيدة من الطبيعة الزراعية لجنوب سورية. والهدف من وراء ذلك، صناعة نخب موالية، لديها إمكانيات مالية، ما يمنحها رأس مال اجتماعي يؤهلها للعب أدوار قيادية في المجتمع الجنوبي، بالتوازي مع زراعة أفراد هذه النخب في المجالس المحلية والتشريعية وغرف الصناعة والتجارة.

قدرة إيران على تحقيق أهدافها

تُدرك إيران صعوبة بناء بنية عسكرية واضحة في جنوب سورية، بسبب ملاصقة هذه المنطقة للجولان السوري، ما يعني وقوعها ضمن دائرة استهداف القوات الإسرائيلية، وبالتالي فإن أي محاولة لصناعة حيثيات وأطر عسكرية وأنساق دفاعية، سيكون محكوماً عليها بالفشل، ومجرد استنزاف مجاني للقوّة الإيرانية في الجنوب.

ويبدو أن إيران لا تستعجل تأسيس جبهة عسكرية في جنوب سورية، على أهمية هذا الأمر من الناحية الجيوسياسية، وما يضيفه من أوراق قوّة للنفوذ الإيراني في سورية والمنطقة، نظراً للأهمية الاستراتيجية للجنوب السوري، ولهذا تذهب إيران إلى تهيئة الأرض وصناعة بيئة حاضنة وظروف مناسبة تسمح لها العمل بهدوء، ولكن ضمن فرص نجاح أكبر.

وما يشجِّع إيران على إتباع هذا النهج، الآتي:

1. ضعف المقاومة في جنوب سورية؛ فبعد تفكيك الفصائل لم يعد هناك مقاومة منظّمة للوجود الإيراني، بل مجرد محاولات فردية تتمثل في اغتيال واستهداف العناصر المحلية المنخرطة في المشروع الإيراني، لكنها مقاومة غير مؤثرة لدرجة القدرة على تعطيل المشروع الإيراني، والقوّة الوحيدة المنظمة هناك هي اللواء الثامن لكن تبعيته باتت للأمن العسكري بعد تخلي روسيا عنه، كما أن انتشاره يقتصر على جزء من مناطق شرق حوران، فيما تنشط إيران في غرب وشمال حوران.

2. تضاؤل البدائل لدى السكان المحليين؛ حيث تعاني مجتمعات جنوب سورية (درعا والقنيطرة) من ضعف وإنهاك شديدين نتيجة سنوات الحرب الطويلة، وهجرة أكثر من 40% من أبنائها، بالإضافة إلى الهجرة اليومية للشباب إلى ليبيا وشمال سورية ومصر، هرباً من التجنيد العسكري والملاحقات الأمنية، ومَن لا يستطيع الهجرة يجد نفسه مُضطراً للانخراط في الميليشيات والمؤسسات والأنشطة المدعومة من إيران، لما تؤمنه من مظلة حماية من الأجهزة الأمنية وما توفره من أموال لتدبير المعيشة، في ظل ضعف الإنتاج الزراعي نتيجة الجفاف وغلاء الأسمدة والوقود.

3. خروج جنوب سورية من دائرة الاهتمام الإقليمي والدولي؛ فلم يعد هناك أي دعم منظم من قبل الفاعلين الخارجيين، ولا توجد مؤشرات على احتمال حصول متغيرات قد تدفع الأطراف الخارجية إلى معاودة نشاطها في جنوب سورية، بما فيها إسرائيل، التي يقتصر نشاطها على مراقبة تحركات “حزب الله” على الشريط الحدودي، وليست معنية بأي نشاط آخر لإيران في الجنوب السوري ما لم يكن ذو طابع عسكري واضح.

وإجمالاً، فإن هذا الوضع يمنح إيران الفرصة لتحقيق أهدافها بفعالية عبر الإجراءات والتكتيكات المشار إليها، للوصول إلى هدفها النهائي المتمثل بوجود جبهة على حدود الجولان وأبواب الأردن، مرتبطة جغرافياً وعقائدياً بجنوب لبنان، ومن ثمَّ إضافة ورقة رابحة يمكن الاعتماد عليها لترسيخ مشروع طهران الجيوسياسي في المنطقة.

خلاصة واستنتاجات

يمكن وصف سياسات إيران في جنوب سورية بأنها “إعادة هندسة” مدروسة تشمل تغيير المعادلات، بمضامينها العسكرية والاجتماعية وحتى الاقتصادية، وتَستثمِر الظروف والمتغيرات المحلية والدولية، في سياق استراتيجية إيرانية طويلة النفس تُطبِّقها في الأرجاء السورية كافة، لكنها تتخذ في الجنوب أنماطاً مختلفة.

ورغم مقاومة المجتمعات المحلية للوجود الإيراني، إلا أنه من غير المضمون استمرار هذه المقاومة بفعالية عالية نظراً لوجود معطيات بدأت تفرض نفسها بقوّة، أهمها هروب جزء كبير من أبناء جنوب سورية، وتزايد انكشاف المجتمعات المحلية هناك أمنياً واقتصادياً، في إطار سياسة هدفها تفريغ الجنوب من قواه الحية، تنفذها دوائر مرتبطة بإيران مباشرةً.

ولا يمكن الخلاص من هذه الدائرة الجهنمية التي تعصف بجنوب سورية إلا عبر التوصل إلى تسوية سياسية شاملة، تُعيد اللحمة الوطنية وتُخرج إيران من المعادلة السورية.

السابق
مصادر قضائية تكشف لـ «جنوبية» تفاصيل «الجلسة الحامية» لتعيين قاض رديف.. عبود «ينتفض» ويُحذّر!
التالي
«بيروت على ضفتي نهر السين» للأديب الشاب اللبناني سبيل غصوب تتقدّم نحو «غونكور» الفرنسية!