الترويج لفكرة «النص النهائي للاتفاق النووي»

مفاوضات الاتفاق النووي

وسط أجواء متفائلة باحتمال فك العُقدة في المفاوضات النووية، انتهت الجولة الأخيرة من المفاوضات النووية في فيينا. وهي الجولة التي دعا إليها الممثل الأوروبي للسياسة الخارجية جوسيب بوريل، بهدف مناقشة نص مقترح لاتفاق نهائي بين إيران ومجموعة 5+1، وغاب عن الجلسة ممثلو الثلاثي الأوروبي.

وأعلنت جهات صحافية ودبلوماسية قريبة من موقع المفاوضات، أن المفاوضين تمكنوا من تحقيق تقارب كبير في وجهات النظر، وأن “نصّاً نهائيّاً للاتفاق” أصبح مطروحاً على الطاولة، وأنّ الأمر بات في العاصمة الإيرانية والعاصمة الأمريكية لاتخاذ القرارات السيادية بقبول هذا النص الذي اعتبرته جهات أوروبية النص الأخير، والمحاولة الأخيرة التي لا محاولة بعدها. لكنّ التقارير القادمة من داخل إيران كانت تشير إلى رؤية مختلفة، وهي رؤية كانت متوقعة تمامًا إذا أخذنا بالحسبان الفضاء السياسي الداخلي المصاحب لجولة المفاوضات الأخيرة؛ فعلى الرغم من التفاؤل الذي ساد أوساط الحكومة بمخرجات الجولة الأخيرة قبل بدء المفاوضات، إلا أن مسار المفاوضات صاحبته حملة داخلية كبيرة، شنتها مراكز ووجوه مقربة من الدولة العميقة، ضدّ الاتفاق النووي المرتقب. وكانت التقارير الداخلية تشير إلى أن الحكومة أبلغت الصحافة الداخلية بالترويج لنص الاتفاق الجديد، والتأكيد على فكرة أنه “أفضل من الاتفاق السابق”، لكنّ الماكنة الإعلامية للدولة العميقة تصدت لتلك المحاولة، عبر التأكيد على ضرورة “رمي الاتفاق الجديد، والقديم في سلة المهملات”. وتسرّب الخلاف إلى داخل الحكومة؛ حيث كان وزير الخارجية يُروِّج لفكرة التوصل إلى اتفاق، بينما كان وزير الطرق، الجنرال رستم قاسمي، المحسوب على الحرس الثوري يُغرِّد ضد الاتفاق، ويدعو إلى رفضه، واستمرار المقاومة.

اقرأ أيضاً: تصعيد «حزب الله» يبدّد التفاؤل بقرب الترسيم البحري بين لبنان وإسرائيل!

وبعيدًا عن التخبُّط في المواقف الداخلية، وتلعثم عملية اتخاذ القرار في إيران، والتي يجب ملاحظة أن القرار فيها بشأن الاتفاق النووي، ليس بيد الحكومة، ثمة سؤالين مهمين: أولًا؛:لماذا تصرّ إيران على رفض هذا النص؟ وثانياً: أين تكمن مواطن الخلاف؟ وفي محاولة الإجابة عن السؤال الأول يمكن القول إن معظم التحليلات التي تناولتها مراكز التفكير، والمنصات الأساسية الإيرانية، ومن ضمنها افتتاحية صحيفة إيران الرسمية، تؤكد أن الظروف كلُّها باتت في صالح إيران؛ ومنها الضغوط التي تفرضها أزمة الطاقة العالمية على الاتحاد الأوروبي وعلى الولايات المتحدة، للتوصل إلى “اتفاق أفضل” يضمن حدًا أوسع من الامتيازات لإيران.

أما عن السؤال الثاني، فتقول المصادر الإيرانية، إن الخلاف لا يزال قائما حول الضمانات التي تطالب بها إيران، لجهة عدم انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي في حال تغير الإدارة في الانتخابات الرئاسية القادمة. وهناك مطالبة إيرانية بحل قضايا نووية عالقة (مثل العثور على يورانيوم مخصب في مواقع إيرانية غير معلنة)، يرى الجانب الإيراني أن الغرب يريد أن يتمسك بها من أجل ممارسة الضغط على إيران غداة الاتفاق النووي.

لكنّ القناعة التي تبدو سائدة اليوم لدى صانع القرار السيادي في إيران، هي أن المرحلة التي بلغتها إيران في البرنامج النووي، تُتيح لإيران جني اتفاق أفضل مما كان عليه الحال في 2015؛ وهذه القناعة على المدى القريب والمتوسط، ستكون عائقًا كبيرًا أمام القبول باتفاق نووي يشبه الاتفاق السابق.

وأكد موقع “نور نيوز” المحسوب على المجلس الأعلى للأمن القومي، وأمينه، علي شمخاني، المقرب من القائد الأعلى علي خامنئي، أن الترويج لفكرة “النص النهائي” فكرة تمارسها الأروقة الغربية، لحرف المفاوضات عن مسارها، وممارسة الضغط على الجانب الإيراني. وأن موقع الاتحاد الأوروبي باعتباره وسيطا في المفاوضات، وليس طرفًا من أطراف المفاوضات، لا يُخوِّله تقديم “نص نهائي”، لأن القرار بيد الأطراف المتفاوضة، ومنها إيران. ويمكن وضع المقال الافتتاحي الذي نشره الموقع في هذا السياق. والمقال لا يحمل اسم كاتب محدد؛ مما يعني أن إدارة الموقع المحسوب على المجلس الأعلى للأمن القومي، هي التي أعدته، وأنه يمثل وجهة نظر المجلس، وهي وجهة نظر قريبة من الدولة العميقة.

نصّ المقال

بدأ فريق الإعلاميين الغربيين، وبعض المسؤولين الغربيين المرموقين، ومسؤولين في الاتحاد الأوروبي منذ أمس الأول، تداول أخبار تشير إلى بلورة “نص نهائي للاتفاق النووي”. في حين لا تزال الوفود المشاركة في المفاوضات النووية منشغلة بتبادل المقترحات، ومناقشتها من أجل إخراج “مفاوضات إلغاء العقوبات” من وضعها الراهن.

ودخلت عبارة “النص النهائي للاتفاق” إلى الصحافة الغربية، باعتبارها عبارة مفتاحية مركزية ردّدها الإعلام الغربي بكثافة. وفي ضوء أجواء التفاؤل التي روَّج لها بعض المسؤولين السياسيين في الاتحاد الأوروبي، عمل ذلك على تصوير أجواء المفاوضات النووية بصورة مغايرة تماما لما كان يجري في غرفة التفاوض. وتابع الإعلام الغربي الترويج للفكرة الزائفة بشكل واسع ومستمر، على الرغم من أن الصحافة الداخلية الإيرانية ردّت بشكل سريع وواضح على هذا التصور الذي كانت تروج له وسائل الإعلام الغربية، والذي كان يؤكد بلورة نص نهائي خلال هذه الجولة من المفاوضات. 

واستمر هذا التوجه الإعلامي الغربي بشكل أوسع؛ إذ أدلى عدد أكبر من مسؤولي الاتحاد الأوروبي بتصريحات متزامنة، مع تزايد المواقف الرسمية التي تدعم التوجه بعد انتهاء آخر جولات المفاوضات النووية في فيينا، والتي تؤكد جاهزية نص نهائي للاتفاق بين إيران والولايات المتحدة. وذلك على الرغم من اختلاف الرواية التي نقلتها المصادر الإيرانية عن المفاوضات، عن تلك المواقف التي أبداها المسؤولون الغربيون. إذ أكد الجانب الإيراني أن مساعد المفوض الأوروبي للسياسة الخارجية، إنريكي مورا، طرح عدة أفكار ومقترحات على أطراف المفاوضات في فيينا، وأن الوفود ستناقش هذه الأفكار مع صناع القرار بعد عودتها إلى عواصم بلدانها. 

والسؤال هنا هو: إذا كانت إيران، باعتبارها طرفا أساسيا من أطراف المفاوضات، لا تعترف بالنص المتوافر باعتباره نصا نهائيا، فكيف يمكن لأي مسؤول آخر أن يتحدث عن توفر مثل هذا النص النهائي؟ خصوصا وأن هذا المسؤول لا يمثل الطرفين الأساسيين في الحوار.

ويعمل التأكيد الغربي على أن النص المتوافر هو نص نهائي في اتجاه تكريس واقع أن مثل هذا النص النهائي لا يمكن مناقشته، أو التفاوض عليه. ويجب قبوله كليا، ومن دون حديث، أو رفضه كليا؛ وهو الموقف الذي أكده بعد ذلك مسؤولون في الاتحاد الأوروبي. ويأتي التأكيد على هذا المنطلق، وإن كان بشكل ضمني مناقضا لمبادئ التفاوض. كما أنه يضع الاتحاد الأوروبي في مكانة خاصة لم يقبل بها أي من الأطراف الأساسية في المفاوضات طيلة هذه الأعوام كلها. إذ إن الاتحاد الأوروبي باعتباره منسقا للمفاوضات، لا يمكنه أن يقدم مقترحاته باعتبارها “نصاً نهائياً”، وبوصفه وسيطا في المفاوضات، لا يخوله القيام بخطوة تعتبر أساساً حكراً على أطراف المفاوضات الأساسية.

وبدأ الأمريكيون بعد ذلك حملتهم؛ إذ أكد متحدث باسم الخارجية الأمريكية أن النص المتوافر كما أكد الاتحاد الأوروبي قبل أسبوعين هو أفضل النصوص. ويعتبر النص الوحيد للتوصل إلى اتفاق. وأشار المتحدث باسم الخارجية الأمريكية إلى أن موقف الولايات المتحدة واضح تماما؛ حيث أن واشنطن جاهزة لاستنتاج مخرجات سريعة حول الاتفاق من منطلق هذا النص. مضيفاً أن الكرة الآن في ملعب الإيرانيين الذين طالما قالوا إنهم جاهزون للعودة الثنائية إلى إطار الاتفاق النووي، وإننا ننتظر لنرى ما إذا كانت أفعالهم تتطابق مع مواقفهم.

ويعكس اتخاذ مثل هذا الموقف من جانب الولايات المتحدة باعتبارها المسؤول الأول عن نشوء الوضع الراهن، وانهيار الاتفاق النووي، والجانب الذي يحاول أن يفرض رؤيته التوسعية عبر فرض مزيد من العقوبات بين الحين والأخرى، أن الترويج الواسع لفكرة توافر “نص نهائي للاتفاق” في الصحافة الغربية ومن المسؤولين السياسيين في الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة، ما هو إلا خطوة تم تنسيقها من أجل ممارسة الحد الأقصى من الضغوط على إيران، للخضوع للنص الذي اتفق عليه مسبقاً الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.

وفي حين أكد المسؤولون الإيرانيون في نهاية الجولة الأخيرة من المفاوضات في فيينا أن المفاوضات شهدت تقدما نسبيا في بعض الموضوعات، لكنّ ذلك لا يعني توصل الجانبين إلى نص نهائي. ويمكن بوضوح معرفة أن المانع الأساس الذي طالما حال دون توصل الأطراف إلى بلورة نص نهائي، كان السلوك المراوغ الذي مارسته الجهات الغربية، وعدم مصداقيتها، وجهودها المتواصلة لاستخدام آليات من خارج المفاوضات من أجل الضغط على الجانب الإيراني، وتليين موقفه. ولن يترك هذا المنطلق الذي ينتهجه الغرب في المفاوضات أثراً على تغيير المواقف المبدئية التي أبدتها إيران في المفاوضات، كما أنه حتى الآن لم يستطع أن يترك مثل هذا التأثير.

السابق
« تمديد» بيع الفيول العراقي للبنان.. هل من اتّفاق؟!
التالي
بعد الإقتحام «المسلّح» في الحمراء.. حبيقة يتخوّف عبر «جنوبية» من تزايد النقمة على المصارف