«المارونية السياسية» وعقدة الإصلاح والرئاسة..من الإستقلال إلى الحرب الأهلية 1/3!

ياسين شبلي
أعد الكاتب والمحلل السياسي ياسين شبلي دراسة سياسية تحليلية نقدية خاصة، تقع في ثلاث حلقات ينشرها "جنوبية" تباعاً، تغوص في محطات ووقائع و شواهد، تسرد تاريخ "المارونية السياسية" في لبنان و"عقدة الإصلاح والرئاسة" المتلازمة معها، منذ نشأتها ابان الإستقلال مرورا بالحرب اللبنانية وإتفاق الطائف وصولا الى "العهد القوي"، والصراعات والحروب والنزاعات الداخلين بين اركانها السياسيين والحزبيين من جهه، وبين اركان "الطائفيات السياسية" الأخرى المقابلة.

في بدايات الحرب الأهلية اللبنانية كتب الصحافي الراحل سليم اللوزي مقالاً بعنوان “إذا كان لبنان للموارنة فهناك مسلم ومسيحي، أما إذا كان الموارنة للبنان فكلنا موارنة”، في محاولة منه للقول بأن إصلاح النظام السياسي الذي كان سائداً يومها، وهو ما عُرِفَ بصيغة 43 نسبة للميثاق غير المكتوب بين المسيحيين ممثلين ببشارة الخوري، والمسلمين – السنة تحديدا ً – ممثلين برياض الصلح، الذي تخلى بموجبه المسيحيون عن الإنتداب الفرنسي، مقابل تخلي المسلمين عن الوحدة مع سوريا والمطالبة سوياً بإستقلال لبنان، والذي كانت الغلبة فيه لما سمي بعدها ب”المارونية السياسية”.

و هذا الإصلاح بات ضرورياً لتفادي الأسوأ، جراء عدم توازن السلطات الناتج عن عدم المساواة في التمثيل السياسي بين الجانبين، التي كانت صيغة 6و6 مكرر إحدى تجلياتها – وهي لمن لا يعرف من جيل الشباب، كانت تقضي بأن يكون هناك مقابل كل 6 نواب مسيحيين 5 نواب للمسلمين – في المجلس النيابي المكون يومها من 99 نائباً 54 منهم مسيحيون مقابل 45 من المسلمين، وكذلك الأمر في الوظائف الرسمية وفي كافة مجالات الحياة في البلد، الأمر الذي أسهم إضافة إلى السياسات الموالية للغرب، التي إتبعتها السلطة بعد الإستقلال خاصة بعد نكبة فلسطين، وما تلاها من تطورات وإنقلابات وثورات في العالم العربي، بسرعة إنتشار التيارات اليسارية وكذلك المد القومي العربي.

تذكرت هذا المقال للراحل سليم اللوزي، بعد التطورات الأخيرة التي طبعت إعادة تشكيل السلطة بعد الإنتخابات النيابية الأخيرة، وما بدا أنه عودة لممارسات المارونية السياسية بصورتها “الأبشع” هذه المرة – إذا صح التعبير – عبر إمتناع الثنائي الماروني – القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر – بداية عن تبني أي مرشح لرئاسة المجلس النيابي، وبعدها عن تسمية أي شخصية لتشكيل الحكومة، وإذا كان الأمر بالنسبة لرئاسة المجلس النيابي يمكن تفهمه – ولو على مضض – على إعتبار أن الخيارات محدودة، فإن الإمتناع عن تسمية شخصية لتشكيل الحكومة هو أمر غير مفهوم ولا مبرر، ومرفوض رفضاً تاماً نظراً للخيارات المفتوحة المتاحة أمام كل طرف، ليسمي من يراه مناسباً من وجهة نظره حتى ولو لم يستطع تأمين الأكثرية له.

تميزت فترة حكم فؤاد شهاب بهدوء نسبي في المنطقة ولبنان ما أتاح له فرصة البدء ببعض الإصلاحات الإدارية وبناء بعض المؤسسات الوطنية والإجتماعية

فالقضية هنا مبدئية وتتعلق بإحترام الآليات المتبعة لتشكيل السلطة التنفيذية من جهة، ونظراً لما له من تداعيات على الوضع السياسي والوطني العام في البلد من جهة أخرى، وما يعنيه من “تلاعب” بإتفاق الطائف ومحاولة للعودة بلبنان إلى ما قبله، وهو الإتفاق الذي لا يزال بالرغم من كل المآخذ على تطبيقه، يشكل أساس التوافق بين اللبنانيين، وإذا كان تصرف التيار الوطني الحر ليس بمستغرب، لأن سياسة التعطيل هي ديدنه منذ أن إرتضى لنفسه أن يكون بخدمة المحور الإيراني، عبر توقيع إتفاق مار مخايل مع حزب الله، في مواجهة الخيار العربي للبنان ممثلاً بإتفاق الطائف، فإن تصرف حزب “القوات اللبنانية” غير مبرر، وهو الطرف الذي كان في صفوف 14 آذار، وكان يُعتقَد بأنه خرج من هذه الممارسات منذ أن قبل بإتفاق الطائف، وهو الطرف الذي يسعى لإظهار نفسه رأس حربة في مواجهة المشروع الإيراني في لبنان، وبأنه رأس المعارضة الساعية إلى التغيير، سيما وأن هذا الأمر سيترك بلا شك شرخاً وطنياً وسيشكل سابقة خطيرة في التعامل مع الإستحقاقات الأخرى.

إقرأ أيضاً: صراع «القصرين» يعطل التأليف والتصريف..وهوكشتاين «ينشط» بين لبنان واسرائيل!

الواقع أن المتابع الحثيث لممارسات ومواقف حزب “القوات اللبنانية” على مدى سنوات، سيجد بأن هذا الحزب بدأ ممارسة هذه السياسة على إستحياء منذ العام 2008، وهو عام دخول غريمه التيار الوطني الحر إلى السلطة التنفيذية بعد أحداث 7 أيار وإتفاق الدوحة، بحيث بات يضع صراعه مع التيار على الساحة المسيحية في طليعة إهتماماته وأولوياته، ولو على حساب تحالفاته الوطنية، ونجح التيار الوطني الحر مدفوعاً بقوة حلفه مع حزب الله عبر إتفاق مار مخايل، الذي تعامل معه الطرفان وكأنه البديل لإتفاق الطائف، نجح عبر مزايداته على الساحة السياسية المسيحية في جر حزب القوات إلى مواقف ومواقع طائفية، أضرت بعلاقته مع حلفائه وأدت به في النهاية إلى إتفاق معراب، في محاولة منه ليكون شريك للتيار الوطني الحر في تقاسم “الحصة المسيحية” في الحكم – وهو الأمر الذي لم يلتزم به التيار – وذلك عبر ملاقاة حزب الله في فرض ميشال عون رئيساً للجمهورية اللبنانية، حتى وصل الأمر إلى ما نحن بصدده اليوم، ليصبح التوافق اللبناني وآليات تشكيل السلطة مرة أخرى رهينة الخلافات المارونية – المارونية والمزايدات الطائفية حول السياسات العامة وموقع رئاسة الجمهورية.

انتهى حلم شمعون بالتمديد وبالتالي حكمه بإتفاق أميركي – مصري على إنتخاب قائد الجيش فؤاد شهاب لرئاسة الجمهورية

و التي قد تجر بالمقابل تطرفاً ومزايدات في الجانب الإسلامي، وهو الأمر الذي طبع الحياة السياسية اللبنانية للأسف منذ الإستقلال وحتى اليوم بدرجات متفاوتة وحمَّل هذا الصراع الماروني على السلطة لبنان ما لا يطيق بحيث كان في أساس ما تعرض له خلال تاريخه الحديث، بإعتبار أن الموارنة يعتبرون أنهم هم أساس إقامة هذا الكيان، دون إغفال دور الجماعات الدينية والسياسية الأخرى في البلد طبعاً، عبر إتخاذهم خيارات خاطئة كانت في البعض منها صدىً لإختلال موازين القوى في السلطة القائمة، وفي بعضها الآخر إستجابة لطموحات غير واقعية في طلب الوحدة، سواء القومية منها أو الدينية، إضافة للعوامل الأخرى منها المحلي ومنها الإقليمي والدولي.

فمن الصراع بين الكتلة الوطنية بقيادة إميل إده والكتلة الدستورية بقيادة بشارة الخوري، الذي كان يخفي صراعاً فرنسياً – بريطانياً، حُسم لصالح بريطانيا عبر الرئيس بشارة الخوري والميثاق الوطني مع شريكه الرئيس رياض الصلح، ومن ثم إستقلال لبنان عن فرنسا، إلى الصراع بين بشارة الخوري وكميل شمعون خاصة بعد تمديد بشارة الخوري لنفسه لولاية ثانية بعد إنتخابات نيابية عام 1947 شابها التدخل والتزوير، وتوجَّت شقيقه سليم “سلطاناً” للفساد ووصياً على الحياة السياسية – لكنه للأمانة لم يصل به الأمر حد القول لعيون الشقيق “عمرو ما يكون حكومة”، هذا الصراع الذي إنتهى بإستقالة بشارة الخوري تحت ضغط المظاهرات، التي قادتها المعارضة عام 1952 لصالح كميل شمعون “فتى العروبة الأغر” يومها، بدعم من الجبهة الإشتراكية الوطنية وكمال جنبلاط، الذي كانت له كلمته الشهيرة ضد بشارة الخوري عندما أعلن “أتى به الأجنبي فليذهب به الشعب” ، لكن شهر العسل لم يدم طويلاً بين شمعون والجبهة الإشتراكية الوطنية، بسبب إنقلابه على مبادئها في السياسة الداخلية من جهة، وكذلك بسبب التطورات في المنطقة بعد سطوع نجم عبد الناصر ومعارضته سياسة الأحلاف الغربية في المنطقة، التي كان شمعون ميالاً إليها من جهة أخرى.

وكانت حرب السويس القشة التي قصمت ظهر البعير، حينما رفض شمعون قطع العلاقات مع كل من فرنسا وبريطانيا بسبب العدوان الثلاثي على مصر، الأمر الذي أدى إلى تصاعد التوتر وتوسع المعارضة لحكمه فلجأ في العام 1957 إلى أسلوب بشارة الخوري في فرض قانون إنتخابات جديد، ما أدى إلى إسقاط غالبية زعماء المعارضة في محاولة منه للتمديد لنفسه في رئاسة الجمهورية – عقدة كل رئيس – فكان أن تفجر الوضع أكثر مع إغتيال الصحافي المعارض نسيب المتني في أيار عام 1958، لتكون شرارة ما سمي بعدها ثورة 58 ،ليأتي بعدها بشهرين تقريباً الإنقلاب العسكري في العراق الذي قام به “الضباط الأحرار” من القوميين والشيوعيين والذي أطاح بحكم العائلة الهاشمية المالكة، ليتصاعد التوتر في المنطقة ولبنان ويؤدي إلى نزول قوات “المارينز” الأميركية في بيروت، وتدخل أميركا الساحة الشرق أوسطية لتحل مكان بريطانيا لينتهي حلم شمعون بالتمديد وبالتالي حكمه، بإتفاق أميركي – مصري على إنتخاب قائد الجيش فؤاد شهاب لرئاسة الجمهورية.

صيغة 43 وهي ميثاق غير مكتوب بين المسيحيين والمسلمين السنة وتخلى بموجبه المسيحيون عن الإنتداب الفرنسي مقابل تخلي المسلمين عن الوحدة مع سوريا


تميزت فترة حكم فؤاد شهاب التي عرفت ب”الشهابية” بهدوء نسبي في المنطقة ولبنان بطبيعة الحال، ما أتاح له فرصة البدء ببعض الإصلاحات الإدارية وبناء بعض المؤسسات الوطنية والإجتماعية، التي لم يكن من السهل السير بها وسط الصراع السياسي الداخلي مع رموز الإقطاع السياسي في البلد، وتميزت كذلك بالسعي لتحسين علاقات لبنان العربية، فكانت فترة إزدهار نسبي عكَّر صفوها تعزيز سلطة العسكر والمخابرات، خاصة بعد محاولة الإنقلاب الفاشلة التي قام بها الحزب السوري القومي الإجتماعي ليلة رأس السنة في 31 ديسمبر 1961، توالت بعدها الإنتقادات لممارسات المكتب الثاني ما عزز من قوة المعارضة ضده، ولكن ما يُحسَب له أنه على عكس كل من بشارة الخوري وكميل شمعون رفض تعديل الدستور للتمديد له في رئاسة الجمهورية، فكان إنتخاب الرئيس شارل حلو بديلاً وهو الذي لم يكن له شخصية وشعبية فؤاد شهاب، فكان سهلاً على القوى التقليدية العودة بقوة إلى الساحة السياسية تزامناً مع التطورات في المنطقة خاصة حرب الأيام الستة في حزيران عام 1967، التي أدت إلى هزيمة عبد الناصر والخط القومي العروبي ، ما أعطى دفعاً لغلاة المارونية السياسية في لبنان للعودة والإنقضاض على النهج الشهابي داخلياً، عبر التحالف الثلاثي الذي خاض إنتخابات العام 1968 وربحها، خاصة مع ظهور المقاومة الفلسطينية المسلحة في لبنان، مع ما يعنيه هذا العامل بالنسبة للموارنة وحساسيتهم تجاه مكانتهم في لبنان، وخصوصاً بعد التعاطف الذي وجدته هذه المقاومة من جانب القوى الإسلامية واليسارية اللبنانية، التي كانت دائمة المطالبة بالإصلاح السياسي، والتي وجدت هي الأخرى في دعم المقاومة الفلسطينية، علاوة على قدسية قضيتها في الوجدان العربي واللبناني، وجدت فيها ظهيراً في الصراع السياسي الداخلي ما أجج هذا الصراع الذي كان شبيهاً بما كان قبل الإستقلال، بحيث حلت قضية المقاومة الفلسطينية في الوجدان الإسلامي محل الوحدة مع سوريا التي كانت مطروحة قبل الإستقلال.

حرب الأيام الستة في حزيران عام 1967 أدت إلى هزيمة عبد الناصر والخط القومي العروبي ما أعطى دفعاً لغلاة المارونية السياسية في لبنان للعودة والإنقضاض على النهج الشهابي داخلياً

وحلت أميركا كزعيمة للعالم الغربي الحر في الوجدان المسيحي مكان “الأم الحنون” فرنسا، الأمر الذي كان يتطلب ميثاقاً وطنياً جديد بديلاً عن صيغة 43، لم يتهيأ له يومها شخصيات كبشارة الخوري ورياض الصلح، علاوة على إختلاف الظروف الإقليمية والدولية، فكان أن لجأ الجميع إلى توقيع إتفاق القاهرة الذي منح المقاومة الفلسطينية الحق بمقاومة أسرائيل، إنطلاقاً من مناطق في جنوب لبنان بما سمي يومها “فتح لاند”، فبدأ وكأن أطراف الصراع اللبناني الداخلي قد حقق كل منها هدفه ولو موقتاً جراء هذا الإتفاق، فالقوى اليسارية والقومية إضافة لقوى الإسلام السياسي التقليدي حافظت بذلك على سلاح المقاومة الفلسطينية ما إعتبرته نصراً لها، كذلك قوى المارونية السياسية بدت وكأنها قايضت ورقة الإصلاح السياسي – أو أجلته على أقل تقدير – بالموافقة على إتفاق القاهرة الذي ربما إعتقدت، بأن تداعياته لم تكن لتتجاوز أرض الجنوب ولن تصل إلى مركز القرار في العاصمة بيروت، والذي مُرّر في مجلس النواب من دون الإطلاع عليه، لتتأجل بذلك الحرب الأهلية اللبنانية التي عادت وإنفجرت في العام 1975 بين اليمين المسيحي بقيادة حزبي الكتائب بقيادة الشيخ بيار الجميل، والوطنيين الأحرار بقيادة كميل شمعون ومعهم رئيس الجمهورية سليمان فرنجية فيما عرف بعدها بالجبهة اللبنانية، وبين قوى اليسار وبعض الإسلام التقليدي مدعوما بقوات المقاومة الفلسطينية، فيما عرف بعدها بالحركة الوطنية اللبنانية بقيادة كمال جنبلاط، ليدخل لبنان النفق منذ ذلك التاريخ ولما يخرج منه بعد.

يتبع…

السابق
زيادة رواتب القضاة تفجّر احتجاجات المساعدين القضائيين!
التالي
رؤساء بلديات جنوباً يصرخون عبر «جنوبية»: حالتنا بالويل..وإقفال تحذيري الإثنين!