سلام فرمانده.. أغنية عاطفية أقوى من قنبلة نووية

سلام يا مهدي

الشابة الممشوقة بنظرتها الحالمة المتأملة في البعيد، ووجهها البارع الجمال، وابتسامتها الخلابة، هي نفسها التي نراها، خلف دونالد ترمب في مهرجان انتخابي، في احتفال عيد العمال في الاتحاد السوفياتي، في افتتاح دورة الألعاب الأولمبية في ألمانيا النازية، أو وهي ترتدي عباءة سوداء وتضرب بقبضتها على صدرها مرددة كلمات الأغنية العاطفية الكاسحة، “سلام فرمانده”.

ليس ذكاء خارقاً ولا سرعة قصوى في البديهة، الانتباه إلى أن هذه الأغنية المعدة لأطفال الشيعة وكبارهم، حيثما وجدوا، بروباغندا صافية. مذ بدأ، كان الغناء أكثر الأسلحة فعالية في جذب الجماهير إلى العقائد. رافق الرموز ودعمها وسوّق لها وخلدها. لا يختلف في ذلك تشي غيفارا عن جمال عبد الناصر عن آية الله الراحل الخميني. بالغناء انفلشت الثورات والأيديولوجيات على أنواعها، وبالغناء خيضت الحروب والمفاوضات. والنظام الإيراني لم يخترع جديداً إذ كتب ولحن وأنتج وروّج بكل ألسنة الشيعة أغنية شعبية ناجحة ترقص عليها الإيرانيات حول العالم اليوم ملتحفات بالعباءات بداية، قبل أن يكشفن عن أجسادهن، في اعتراض سياسي شديد السخرية على النظام برمته. كما أنه لم يحد عن أيقونته المؤسسة إذ لجأ إلى الإمام المهدي لتحفيز العصب الإثني عشري. فالغناء للمنتظر، والتوسل إليه بتعجيل الظهور كان زاد الثورة وزوادتها، من أيام “خدايا خدايا” (إلهي إلهي) التي كان يؤديها شبان شبه منبوذين من “بيئتهم” في زوايا سرية في الخندق الغميق وحي اللجا إلى “سلام يا مهدي”، التي يتجمع الآن أطفال البيئة كلهم تقريباً في ساحات عملاقة ليغنوها ويذرفوا دموعاً صادقة في حب صاحب الزمان، الذي يخبىء في جلبابه السيف السحري وينتظر المكان والزمان المناسبين ليخرج على الكوكب ويقضي بضربة واحدة على الشرور، ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً، إثني عشريين، بعدما ملئت ظلما وجوراً من قبل الباقين، كل الباقين.

والانتظار، هذه الفكرة المبهرة، كان الأكثر استخداماً في الإيقاع بالشعوب، لأنه يعين على تحمل دروب الحياة وتعقيداتها الوعرة، ويجعل النظر إلى الأفق الخيالي أحلى وأشهى من النظر أسفل القدمين، ويضيف أحلاماً مستحيلة لا بد منها لتقبل واقع لا محل فيه للأحلام. وفي رومانسية الانتظار، يمكن تذويب ما شئنا من سياسة وعقائد وأيقونات، من السيد القائد علي الخامنئي، ونظامه، إلى الضابط الراحل قاسم سليماني، إلى السيد حسن نصر الله.. إلى آخره.

وبما أن الأشياء ببعضها البعض تذكر، فإن احتفاء حزب الله الهائل بالأغنية، الذي يلامس حد الاحتفاء بانتصار جديد، والذي يبدو خارجاً من اجتماع طارىْ لمجلس الشورى فيه، هو في صلب جهود الحزب العميقة، لتثبيت وتد الخيمة الكبيرة، والرد على من يجرؤ على القول بأن البيئة تفلت من قبضته، وربما للثأر لثلة من شبان قدامى، كانوا يجلسون على صخور الدالية في الروشة، لا يتجاوز عددهم أصابع اليدين، يلطمون صدورهم العارية، وينوحون متظلمين للإمام على وقع الإيقاع الحزين المليْ شجناً: أدركني يا مولاي.. أدركني يا مهدي.. انظر إلى حالي في الخندق وحدي.

وبينما الحزب يطلق أغنيته في الساحات الواسعة، لا يجد أي مبرر للدفاع عن نفسه، إذ يتطوع خصومه بالدفاع عنه، حين ينجرون إلى مقارنات بلهاء تقول إن العباءة السوداء ليست من لبنان بشيء، وإن هذا اللون الغنائي ليس لبنانياً، ولا يمثل “الثقافة” اللبنانية، في وقت يحتل هذا النوع، ومنذ عقود، مكانه في صدر الدار الفني اليميني واليساري والأخوين الرحباني على السواء، جالساً بثقة بين “يا علي”، و”عا دعساتك نحنا مشينا” و”جيب المجوز يا عبود”.

الانتشار الهستيري للأغنية العاطفية الإيرانية (من بلد يحرم معظم أنواع الغناء كما معظم المرشحين للانتخابات)، ضربة في الصميم لأميركا، خصم الثورة العنيد. من سم أميركا تسقيها إيران. من هذه البدع الشيطانية التي اخترعتها لتحرف الأخلاق وتدجن الشبيبة الطيبة تحقنها. من يوتيوب وفيسبوك وتويتر وخلافه، انفلشت الأغنية في كل جهات الشيعة. وأميركا ليس لديها أدنى نفوذ على هذه الوسائل التي بدورها لا يمكنها أن تجد ما تعترض عليه في فيديوهات أطفال يغنون بلغات العالم ما لا يختلف بشيْ عن نشيد مايكل جاكسون الشهير، “نحن الأطفال”، أو رائعة البيتلز، “تخيل”، أو أي أنشودة دينية أخرى، مسيحية ويهودية وبوذية. سلام فرمانده ليست فيلم رعب آخر من إخراج داعش تهرع أنظمة الذكاء الاصطناعي مسعورة لإزالته بعد بثه بلحظة. ليست مجنوناً أبيض يضع الكاميرا بين عينيه ويبث مباشرة مجزرته المتنقلة من مسجد إلى آخر في نيوزيلندا. سلام فرمانده، في الشكل، هي مجرد مناجاة باكية بين طفل وإمامه المنتظر. مناجاة تثبت فيها إيران أن أغنية يتوحد فيها شيعة الأرض خلفها، أقوى بمراحل من قنبلتها النووية المنتظرة، هي الأخرى، بفارغ الصبر.

السابق
طابع تذكاري في «خمسينية» إغتيال الأديب الفلسطيني غسان كنفاني
التالي
الحريق يخرج عن السيطرة.. والنيران تقضي على غالبية معمل قبلان للسجاد