الصلاة من أجل «يالطا» الجديدة

يالطا

أثناء حصار بيروت عام 1982 صدف أني شهدت نقاشاً، كان غريباً سريالياً في عزّ القصف الشديد الذي كانت تتعرض له المدينة. تساءل واحد من القيادات العسكرية لحركة “فتح”، في جدال مع الراحل الدكتور محجوب عمر، عما إذا كان أمر هذه الحرب سيقود إلى قيام “يالطا جديدة”.
كان محجوب عمر طبيباً يساريا قبطياً ثورياً مصرياً، التحق بصفوف حركة “فتح” وصار واحداً من قياداتها ومنظّريها الكبار. وما لفتني في هذه الواقعة آنذاك، هو الغضب الذي عبّر عنه الراحل، آخذاً على المتسائل إصراره على التلويح بهذه الفرضية. وللإنصاف، فإن القيادي العسكري أسرّّ لي لاحقا أن ليس في الأمر أي إصرار، بل مجرد فكرة محتملة قابلة للنقاش، أطاحها محجوب عمر من دون حرج أو تردد، وسخّف استحقاقها لأي نقاش.

اقرأ أيضاً: الحرب العالمية المقنَّعة!

والأرجح أن ما كان يروّج من نظريات في الفكر والسياسة في متون العمل السياسي الفلسطيني، قد بالغ في قياس مكانة “القضية” ودينامياتها وأدواتها داخل التوازنات الدولية، على النحو الذي أتاح تخيّل أن حرباً ضروساً تنتهي بإزاحة العامل الفلسطيني، لا بد أنها ستغير وجه المنظومة السياسية الدولية التي ولّدت مؤتمر يالطا (شباط/فبراير 1944) بعد الحرب العالمية الثانية، وتعيد إنتاج “يالطا جديدة” تخرج من أحشاء الهزيمة في لبنان.
انتهت تلك الحرب إلى خروج قوات منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان نحو شتات جديد، تحت إشراف قوات المارينز الأميركية مدعومة بقوات أخرى متعددة الجنسيات. في ذلك العام كانت موسكو تتحكم بإمبراطورية الاتحاد السوفياتي وحلفها الأممي الواسع الشاسع. ولم يبدُ حينها أن هزيمة لبنان الفلسطينية قد نالت من المكانة القطبية التي كانت تحتلها موسكو السوفياتية في مواجهة قطبية أميركية منافسة، ولم يظهر حينها أن موسكو معنية بتلك الحرب ونتائجها.

لم يكن ذلك الحدث يستحق، كما توقع محجوب عمر، قيام “يالطا جديدة”، كما لم تستحق الهزيمة الأميركية في فيتنام قبله بسبع سنوات (1975) أي تبدّل يُذكر في موازين القوى الدولية. ولئن أجاز انهيار الاتحاد السوفياتي لاحقاً وانهيار جدار برلين (1989) اندثار الحرب الباردة، وبالتالي انتصار المنظومة الغربية عامة، فإن قيام النظام الدولي الذي قادته الولايات المتحدة أتى على أنقاض إمبراطورية كان نفوذها عابراً للحدود والقارات، وباتت في عيون باراك أوباما – كما قال عام 2014 – “قوة إقليمية تهدد جيرانها من منطلق الضعف”.
مات صُنّاع “يالطا”، وبات ظل ذلك الحدث من التاريخ وينتمي إلى منطق دولي صار شديد التقادم. وإذا ما ابتكرت “يالطا” منظومة متعددة الأطراف، اتفقت على تقاسم النفوذ ورسم حدوده حول العالم، فإن أصحاب خرائط ذلك الزمان كانوا شركاء في صناعة النصر الذي أطاح النازية وامتداداتها، وما كانت – في حال انتصارها – تَعِد بتشكّله داخل منظومة دولية أخرى من شأنها كتابة التاريخ من مداخل مضادة.

ويأخذ التبشير بنهاية عالم أحادي القطبية مجالات نشطة للنقاش والجدل هذه الأيام. وفيما كانت حروب فيتنام ولبنان وأفغانستان (تلك قبل عقود وتيك قبل شهور) تستشرف “يالطات” جديدة أو بديلة، فإن حرب أوكرانيا تثير الشهية وتسيل لعاب اللاهثين إلى التنجيم بانتقال العالم برمّته من طور رثّ عليل إلى آخر يتوقعونه أكثر إنصافاً وعدالة. حتى أن هناك من الدعاة من يأخذ على الولايات المتحدة أنها لم تسمح طوال “القرن الأميركي” المزعوم بالشراكة والتعدد.
لا يقوم التاريخ على تفاهمات وأنصاف الحلول. للتاريخ منطق قوة فرض “يالطا” يوماً، وفرض عصراً أميركياً يوماً آخر، ولن يفرض تحديثاً جديداً إلا وفق منطق قوة لا يبدو أن حرب أوكرانيا قادرة على إنتاجه. ثم إن تعدد القطبية ليس مرحلة يجري الإعلان عنها بحفل رسمي تشرّعه الأمم المتحدة والقوانين الدولية، بل هو تمرين حالي مباح، لم يكن من حائل دونه منذ سنوات.

التبشير بعالم متعدد الأقطاب على النحو الذي جعله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هدفاً لحربه الروسية ضد أوكرانيا، قائم قبل تلك الحرب. تتزعم موسكو في هذا العالم، في حدائقها الخلفية الجارة كما في الشرق الأوسط والبحر المتوسط والقارة السوداء، وصولاً إلى أميركا اللاتينية وغيرها، ما يمكّنها من أن تقدم نفسها قطباً دولياً منافساً. وتمتلك بكين من طموحات آسيوية وتمدد دولي ما يقلق الولايات المتحدة ويوتّرها، وفي ما تشقه في هذا العالم من طرق الحرير، ما دفع واشنطن لقلب أولوياتها الاستراتيجية الأمنية شرقاً.
وعلى هذا، فإن السوق الجيوستراتيجي متاح ومفتوح لكل الدول الراغبة بالانتقال من معسكر إلى آخر، أو لتلك التي تتمنى إهمال التعامل مع عملة دولية طاغية لمصلحة عملة طموحة دولية أو إقليمية أو حتى محلية واعدة. وإذا ما كانت المنظومة الدولية الحالية التي توصف بالأحادية القطبية قد أتاحت قيام التعدد برعايتها وتحت سقفها، فإن ذلك التعدد القائم أصلاً، والذي لا يستحق الوعد به، لا يقوم على أنقاض انهيار إميراطورية أميركية على منوال ما تعلن في التاريخ قيام “يالطا” جديدة.

والواضح حتى الآن أن عروض “يالطا” الجديدة المبشَّر بها، تجري منذ سنوات وبنجاح كبير، برعاية ومواكبة ومباركة من يضع لها قواعد وقوانين وميادين عمل يحرص على السهر على حدودها وأحجامها. يكفي أن نتأمل كيف يقف العالم منتظراً قطار فيينا قبل الادعاء، أي بانتظار مآلات الكارثة في أوكرانيا. والأرجح أنه، على الرغم من ضراوة الحدث الأوكراني ودمويته، فإنه سيبقى صراعاً فرعياً لذلك الحقيقي الذي ما زال عالم “أوكوس” و”كواد” وبقية التحالفات “المتعددة” تُعِدّه لمواجهة التحدي الصيني الكبير. 

السابق
خاص «جنوبية»: «العملة الخضراء» مفقودة من السوق السوداء..لهذه الأسباب لا حدود لتحليق الدولار!
التالي
مصادر قضائية لـ«جنوبية»: البرتغالي المطلوب بملف المرفأ أوقف في بلاده..و«تُرك» في لبنان!