وجيه قانصو في ذكراه الأولى لـ«جنوبية»: العلامة الأمين حوّل الدّين إلى طاقة روحية وقوة أخلاقية

وجيه قانصو
جمعت لقاءات ثقافية وشخصية عديدة العلامة الراحل المفكر الاسلامي السيد محمد حسن الامين بالباحث الفلسفي والاجتماعي الدكتور وجيه قانصو، الذي ألّف العديد من الكتب الفريدة المختصة بعرض وتحليل التراث الفكري الاسلامي، وكان الهمّ المشترك بينهما، هو نشر التنوير الفكري والوعي الديني في المجتمع التي باتت تعيش بين ارهابين: "ارهاب السلطات وارهاب الاسلاميين" على حدّ تعبير السيّد الراحل رضوان الله عليه.

في لقائه مع “جنوبية” يستعرض الدكتور وجيه قانصو مصادر فكر السيّد الراحل ومشاربه الثقافية، فيقول: تميّز السيد محمد حسن الأمين رضوان الله عليه بسعة الثقافة والاطلاع وبتكوينه الفكري غير الحوزوي الخالص إلى جانب عقل منفتح جعل فكره مركّب من مرجعيات ومصادر عديدة، وهذا الأمر ساعده على رؤية مجمل المشاهد والأحداث، والتفكير بشكل أوضح وأعمق. فثقافته ليست ثقافة معلومات ومعطيات، إنها ثقافة رؤى ومناهج متعددة طوّرها بنفسه، وهذا الأمر ساعده على أن يفهم الإسلام بطريقة مختلفة، لأن العلوم الحوزوية يغلب عليها التفكير الفقهي والشرعي، وهو نمط تفكير يلاحق الدلالات اللغوية واللفظية، لكنه لا يمكّن المرء من رؤية المجال الأوسع للمجتمعات والثقافات والمعارف”.   

وعن التفاعل الذي أسفر عن المزج بين علومه الفقهية، وثقافته الفلسفية الاجتماعية الحديثة التي خاض فيهاالمعترك الفكري، يرى الدكتور قانصو ان “السيّد  احتفظ بمخزونه الحوزوي، ولكنه ذهب لما هو أوسع في دائرة تفكيره، ففكّر بالإسلام لا من منظور التكليف الشرعي فحسب، ولكن من منظور عمومي، عبر النظر في الكليات، والمسائل التي تنظم المجتمع، موفّقاً بين جملة من الثقافات، هذا الفضاء الإنساني كان حاضراً في فكر السيّد، وهو بدلاً من أن يضع الإسلام في مواجهة الثقافات الأخرى، حاول التقاط المحدودات الأساسية لضرورات العصر، التقط العمق الفلسفي للطروحات، منتقلاً من مواجهة منطق الصراع الديني الذي هو عبارة عن دوامة تاريخية، إلى الأفق الإنساني الأوسع، أي السؤال الذي يعني كل إنسان مهما كانت جذوره وثقافته، فخرج السيد من العقل الكلامي إلى العقل التركيبي، الذي يبحث عن أرضية مشتركة للمظاهر المتنوعة، فهناك قلق إنساني واحد لدى جميع البشر. ويضيف”: من هنا أخذ السيد يبحث عن الفكر الإسلامي الذي يطلق الشرط الإنساني ويحوّل الحياة إلى طاقة متجددة، وهذه ميزة العلامة السيد رحمه الله، الذي كان عريقاً في إلمامه بالفقه والتراث الديني ولكنه عندما فكّر، أخذ يفكر من المنطلق التاريخي أيضاً، التاريخ الذي يعيش ونعيش فيه، وأراد بذلك للإسلام أن يكون حقيقة حيّة وحاضرة في المسيرة الإنسانية”.   

انتاج الحداثة الاسلامية  

كان السيّد محمد حسن الأمين، بوصفه مفكرا مجددا، يؤمن ان المسلمين لا بدّ ان يلجوا عصر “الحداثة” المبني على أسس الديموقراطية والعلمانية  والعقلانية، كي تخرج المجتمعات الاسلامية من من كبوتها وتبدأ نهضتها الحضارية من جديد كما كان يعبّر، فهل تمكن السيّد من تقريب مفهوم الحداثة الى ودان المسلمين؟ 

العلمانية كانت بنظر سماحة السيد في مقترحها العميق لا تدعو إلى الإلحاد لأنها غير متطرّفة 

يقول الدكتور قانصو ان ” السيّد سعى نحو صناعة “الحداثة” الخاصة بالمجتمع الإسلامي  وذلك  بسبب يقينه أنها حداثة كونية وليست غربية فحسب، فهي حدث إنساني له نداءات كونية عابرة للحدود التاريخية والجغرافية، والإسلام علمنا أن “الحكمة ضالة المؤمن”، أي أن الحكمة لا تنحصر في زمان أو مكان كقول الرسول (ص) “اطلبوا الحكمة ولو في الصين”، فهذا الحديث الشريف ليس المقصود منه الجانب الوعظي ولكن الجانب الإنساني، والاختبارات التي تتنوّع نحو تجارب لامتناهية تتناول كافة جوانب الثقافات والحضارات. فالمسلم معني بالاختبارات الإنسانية العامة”.

ويشير قانصو الى ان نظرية السيد كانت نقدية أيضاً، “فهو لم يكن داعياً للحداثة بشكل مطلق، ولكنه دعا إلى التقاط إشاراتها وتجاربها والتمعّن في خصائصها الإنسانية، وكما أن رفضها هو انسحاب غير مناسب لأنه سيكون تعبيراً عن الاختناق والجمود، فإن تبني الحداثة بصيغتها الناجزة هو موقف تابع وكسول يبحث عن الوصفات الجاهزة دون أن يكون له دور في إنتاجها”.   

ويلفت الدكتور قانصو انه “ومن أجل صناعة حداثتنا الخاصة وهو الموقف الذي دعا له السيد رحمه الله، فإنه تعمّق في المنطلقات الفلسفية وذلك من أجل نقل الوجود الإنساني من التبعية والعبودية أو الخوف، إلى فضاء الحرية، وهو منطق لا يختلف مع الإسلام ولا يتناقض مع الدين، متوخياً “مقاصد الشريعة” كما كان يعبّر، من أجل فهم آليات ومدارك الحداثة وتقريبها إلى المجتمع الإسلامي، وكذلك تحرير الإنسان من التقاليد التي تقيّد حركته”.  

تشريع العلمانية 

ولأن العلمانية هي ابنة الحداثة، فقد أدرك السيّد رضوان الله عليه انه لا بدّ من العمل على فصل الدين المقدّس عن الدولة المتغيّرة غير المقدسة، هنا يقف الدكتور قانصو ويشرح أن ” العلمانية كانت بنظر سماحة السيد في مقترحها العميق لا تدعو إلى الإلحاد لأنها غير متطرّفة، بل  تدعو إلى توثيق العلاقة المتزّنة مع مختلف النشاطات الإنسانية، مع العلم أن الغرب لم يستطيع تهميش الدين رغم أنه استطاع تحديد دوره ومساحة نشاطه الإنساني بما يتلاءم مع متطلبات العصر، وقد أدرك السيد أن فكرة العلمانية هي ابتكار إنساني حديث هدفه فضّ النزاع بين السلطتين الدينية والزمنية، وأنها جزء من إعادة التفكير بحقيقة الدين والوجود الإنساني”.   

تعمّق السيّد في المنطلقات الفلسفية  من أجل نقل الوجود الإنساني من التبعية والعبودية أو الخوف إلى فضاء الحرية  

ويضيف الدكتور قانصو “أراد السيد أن يقدم العلمانية بعمقها الفلسفي وخبرتها الابتكارية كبديل عن الخطاب السطحي الساذج لتأمين الحضور الإنساني للمجتمع الإسلامي بما يتوافق مع الحداثة المعاصرة، ولا يعود الدين مجرّد تكليفات، إنما طاقة روحية وقوة أخلاقية حاضرة.لهذا كان السيد في رؤيته الكلية التنويرية يرى أن مشكلة العالم ليست مشكلة صراع الأيديولوجيات والمنظومات، بل هي مشكلة الكينونة الإنسانية والوجود الإنساني والسؤال الذي شكل له هاجساً، ماذا يمكن للإسلام والحداثة معاً أن يقدما للحياة الإنسانية”.   

الديمقراطية نمط حياة 

وعن انحياز السيّد محمد حسن الأمين المطلق الى الديموقراطية ، يشرح الدكتور قانصو سبب هذا الانحياز فيقول: “يجب ان نعرف كيف فهم سماحة السيد الديمقراطية كونها المرتكز الثاني للحداثة بعد العلمانية، التي لم تكن تعني فقط بالنسبة له، انتخابات وصناديق اقتراع، إذ انها يمكن أن تتحوّل بسهولة إلى تشريع للاستبداد والفساد، كما يجري حالياً في كثير من بلدان العالم الثالث، فالديمقراطية التي أدركها السيد تتعلق بالإنسان وقيمته، وحقه بالاختيار ورفض أية وصاية عليه،. فالفرد هو مرجع أي سلطة، ولا يوجد سلطة تستمد شرعيتها من مصادر غيبية أو تاريخية، هي ديموقراطية الإنسان الحرّ الذي يملك حق الاحتكار والتفكير والتعبير، فتكون تابعة له وليس تابعاً لها”.

الديمقراطية هي حقيقة وجودية في فكر السيّد وكان يردد “سيئات الديموقراطية أفضل من حسنات الاستبداد”  

ويستنتج الدكتور قانصو بذلك، “أن الديمقراطية لم تكن مع السيد نصاً قانونياً، إنما نمط حياة لأنه يرى أن الحرية حق مقدس لا يمكن لأحد أن ينتزعها من الإنسان، وبالتالي فإنها حقيقة وجودية، ولا يعني ذلك أن السيّد لم يكن منتبهاً لسلبياتها، ولكن رغم ذلك كان يردد دائما كتابة وقولا: إن سيئات الديمقراطية أفضل من حسنات الإستبداد”، لأنه شعر ان الديمقراطية معنيّة بجوهر الإنسانية نفسها، بعد ان تجلّت شكلاً سياسياً ونظاماً لعلاقات اجتماعية متقدمة وحضارية، والمشاركة ليست في المبدأ وإنما في التراكمات السياسية، وهي تشخيصات لا تصل إلى كمالها إلا من خلال الحرية.”   

وختم الدكتور قانصو بقوله”أن هيمنة خطاب الغوغاء في لبنان الذي انحدر بالخطاب السياسي لأدنى مستوى من الغرائزية والدونية، خصوصا في محيط الجوّ المتشنج الذي عاش فيه السيّد محمد حسن الأمين، وهو على نقيض منه بوصفه عالما دين معتدل ومفكّر ومجدّد، هذا الجوّ المناقض، حوّل فضاء الحريّة الى حيّز ضيّق يدعو إلى الإحباط، غير أن السيّد لم ينعزل، بل ظل واسعاً ورحباً رغم ضيق محيطه، وظل كبيراً يتطلع بفكره وروحه إلى المساحات البعيدة وإلى أمكنة لم يرها غيره ولكن سوف يراها كثيرون بعده، فالسيّد رضوان الله عليه سيبقى حضوره طاغيا كما كان ومنارة تشعّ وتلمع في خاطرة كل “من ألقى السمع وهو شهيد”.  

السابق
طفيلي يكشف لـ«جنوبية» عن فضيحة الطحين المعفن والمتورطين بإفتعال أزمة الخبز!
التالي
انخفاض طفيف للدولار.. هل تراجع عن الـ٢٥ الفاً؟