حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: الناسُ هُمُ الأصلُ والحَكَمُ

حارث سليمان
يخص الناشط السياسي والأكاديمي الدكتور حارث سليمان "جنوبية" بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع و منصاته الإلكترونية.

التغيير والمحاسبة في لبنان راهنا، لا يمكن تأمينهما الا بتغيير موازين القوة.. فلا تغيير ولا استرداد للحقوق، ولا عودة الى رغد العيش وكرامة الانسان، الا بإضعاف ثم اسقاط المنظومة الحاكمة ومحاسبتها.
كيف يمكن تغيير موازين القوة مع المنظومة؟.. هذا هو السؤال الأساس الذي يجتاح الناس ويطلق ألسنتهم، ويطالبون قوى الثورة ونخبها، بالإجابة عليه وبناء آليات وديناميات تطوره!..

اقرا ايضا: حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: دروس لبنانية من اجتياح بوتين لأوكرانيا

على المستوى العملي، هناك ثلاثة مسارات ممكنة نظريا، لتغيير موازين القوة مع المنظومة:
• اولها الحراك الجماهيري الشامل، الذي حدث في الاشهر الستة الاولى، من اندلاع الانتفاضة في ١٧ تشرين ٢٠١٩، والذي حاولت مجموعات الناشطين استدامته، من خلال مظاهرات موضعية، في كل وزارة او على ابواب المؤسسات المختلفة التي تم اقتحامها، وفي التصدي لرموز المنظومة وشخصياتها، في الاماكن العامة او المطاعم وغيرها…
ومع قيام الميليشيات والأجهزة الأمنية، وشرطة مجلس النواب، والقضاء، بالتصدي لمجموعات الناشطين وفقء عيونهم، واستدعائهم الى نيابات التحقيق، وقيام ميليشيا حركة امل وحزب الله بالتصدي لساحات الاعتصام، واحراق خيم الحراك، وتفاقم تأثير وباء الكورونا على الناس، والخوف من التجمعات العامة، تراجع الزخم الجماهيري للانتفاضة، واصبحت الدعوات المتناثرة والمتعارضة، للقيام بفاعليات موضعية ومناطقية وقطاعية، تشهد تحركات ضعيفة الحضور، وعشوائية الأهداف، ولذلك لم يعد الحراك الجماهيري الحاشد، اداة تصنعُ تغييرا فعليا، ولم تعد رغبة الناشطين في التصعيد، تلقى استجابة من الناس والشرائح الشعبية، التي رزحت تحت خط الفقر والمرض والعجز، عن تأمين سبل العيش البسيط والضروري..

هناك ثلاثة مسارات ممكنة نظريا لتغيير موازين القوة مع المنظومة

لذلك جرى الانفصال، بين حركة المجموعات الناشطة وحركة الناس، التي بدل انتظامها في صفوف الحراك ونشاطاته، انتظمت في صفوف الذلِّ، امام محطات الوقود و ابواب البنوك ومراكز توزيع الإعانات والحصص الغذائية، التي بدأت بتوزيعها جهات متنوعة ومختلفة.

• المسار الثاني لتغيير موازين القوة، هو العنف المسلح والتغيير بالعنف، يمكن ان يتم اما بواسطة الجيش والقوى المسلحة النظامية، او بواسطة حزب مسلح ومنظم، له قدرة هزيمة المنظومة وتفكيك بنيانها وزعزعة وحدتها وفرط تماسكها..
ويبدو جليا ان الجيش اللبناني، أو اي جهاز امني او عسكري رسمي، ليس في وارد القيام بانقلاب عسكري على سلطة المنظومة الحاكمة، وليس بمقدور الجيش حتى لو أراد ان يقوم بذلك، لان لبنان ليس بلد انقلابات عسكرية، او مغامرات أمنية، وان اي خيار من هذا النوع، لن يلقى لا نجاحا داخليا ولا قبولا عربيا ولا رعاية أو حضانة دولية..

العنف المسلح والتغيير بالعنف يمكن ان يتم اما بواسطة الجيش والقوى المسلحة النظامية او بواسطة حزب مسلح ومنظم


اما القيام بتغيير مسلح، من قبل منظومة حزبية مسلحة قادرة ان تتولى حكم البلد، فإن الحزب الاقوى لمحاولة القيام بذلك هو حزب الله، وبمعزل عن تفوقه النسبي على بقية الاحزاب الاخرى، عدة وتنظيما وتسليحا وتمويلا، لكنه اضعف من ان يستطيع السيطرة التامة على لبنان، بالقوة وبضربة واحدة خاطفة، وهو اعقل من ان يلجأ الى هذا الخيار المجنون، رغم نجاحه في ٧ ايار ٢٠٠٨، في ترجيح التوازن السياسي لصالحه، لان انقلابا ناجزا يقوم به، سيعني اصطفاف اللبنانيين كافة من خارجه وبكل اطيافهم، في معركة شرسة لمواجهته والتصدي له، وهو يعلم ذلك، ولذلك اختار طريقة القضم المتدرج والهادئ، لإعادة تفكيك عناصر القوة في الدولة اللبنانية واعادة تكوينها، بما يضمن سيطرته الكاملة على مفاتيح قراراتها، ومواقع مسؤولياتها، وقطاعات انتاجها، ويسعى لتدجين اطراف من المنظومة، واعادة ادماجها في آليات سيطرته، والى تحييد قوى أخرى وشل فعاليتها، اذا ما تابعت مناهضتها له ولاستراتيجيته الإقليمية.
اضافة لكل ذلك، فان العنف المسلح في لبنان، قد جرى اختباره كأداة فاشلة للتغيير، وقد ادى في كل مرة الى حروب أهلية، اعادت ترسيخ النظام الطائفي بدل ان تتجاوزه، وسلمت مقاليد القرار لزعماء الميليشيات، بدل ان يقود مسيرة البناء والسلام والازدهار رجال دولة، بمواصفات قامات وطنية، وكفاءات محترمة.

اذا توفرت اولا وحدة نضالية لقوى الحراك ثانيا تتصف بالكفاءة والعلم والخبرة والنزاهة ثالثا لتبني أجندة مطالب سياسية لمواجهة المنظومة

• لذلك لا يعود متاحا، لمناهضة المنظومة وشق طريق التغيير، الا الانتخابات وصناديق الاقتراع، وهي ساحة من ساحات المواجهة بمستوياتها كافة، النيابية والبلدية والرئاسية، والاداة هذه لا يفترض ان تكون وحيدة، بحيث تحل مكان الحراك الجماهيري المنظم، الذي يمكن ان ينفجر، اذا توفرت اولا وحدة نضالية لقوى الحراك، برنامجا وهيكلا وقيادة محترمة، ثانيا، تتصف بالكفاءة والعلم والخبرة والنزاهة، اضافة، ثالثا، لتبني أجندة مطالب سياسية، لمواجهة المنظومة والدفاع عن حقوق الناس وكرامات عيشهم، وهذه الشروط الثلاثة، وحدة القوى، صياغة الاجندة، اختيار القيادة، هذه الشروط ستكون مفيدة بكل الاحوال، سواء لخوض الانتخابات والاستحقاقات الدستورية، وادارتها بكفاءة وحكمة ومراس، او لتفعيل الحراك الجماهيري الشعبي، كما ستكون مفيدة ايضا، للتعاطي والتعامل مع التطورات العربية والدولية، واعادة رسم الأدوار والاحجام والوظائف للبنان الوطن، في عالم يتغير جذريا، مع تداعيات الحرب الروسية على اوكرانيا، وامكانية العودة للاتفاق النووي بين ايران والغرب، وجديد الانفتاح االمصري الاماراتي على نظام الرئيس السوري بشار الاسد.

سننتظر نهاية الانتخابات لنتابع مسيرة التغيير، بعد ان تجري مساءلة ومحاسبة كل مجموعة من مجموعات الحراك على نهجها وسلوكها


في ظل هذه الاحداث والتحولات الكبرى، وفي ظل الاخطار والتحديات التي تنتظر لبنان، شعبا ونظاما واقتصادا ووظيفة اقليمية، تبدو الاسئلة والخلافات والنقاشات، التي تستنزف ناشطي حراك ١٧ تشرين، كما القسم الاكبر من الشخصيات السياسية التي تخوض الانتخابات النيابية، وصياغة التحالفات واللوائح، واقتسام مقاعد الترشيح، كما اختبار فئات دم الحلفاء، ورفاق يوم الاقتراع، وتظهر لعبة تكبير الاحجام او تصغيرها، عبثية وخارج سياقين مهمين؛ السياق الاول، هموم الناس وضرورة الدفاع عن سبل عيشهم، اما السياق الثاني، فهو وعي خطورة التحديات التي تواجه لبنان، والانخراط في معركة درء اخطارها.

اخيرا سننتظر نهاية الانتخابات، لنتابع مسيرة التغيير، بعد ان تجري مساءلة ومحاسبة كل مجموعة من مجموعات الحراك، على نهجها وسلوكها، وسيكون قياس المحاسبة على ضوء نتائج صناديق الاقتراع، والاصوات التي نالتها كل لائحة، ونسبتها من الحاصل الانتخابي في كل دائرة، كما سيكون تقييم للأفراد المرشحين، على ضوء الاصوات التفضيلية التي نالوها، وسيتقرر على ضوء ذلك ويتحدد، من عبث بالحراك وشرذمه، ومن كان قويا في معركته فاعلا في محيطه، ومحكمة الناس لا تخطئ، وحساب الناس هو الأبقى، وهو الكفيل بتنقية الحراك من فرسان الجمل الثورية، ومن غواصات بعض اطراف المنظومة، ومن بسطاء النقاء الثوري، الذين يصبون الماء في طاحونة الاعداء.

السابق
ازمة الدواء مجددا.. هل تتوقف الصيدليات «قسريا» عن العمل؟
التالي
بعد العثور على جثث الأم وبناتها.. هكذا نعتهن بلدة أنصار!