من لبنان الى أوكرانيا.. الرجوع عن «الممانعة» فضيلة!

ياسين شبلي

أعادتني الحرب على أوكرانيا والتعليقات السياسية عليها، خاصة من قِبَل أتباع محور الممانعة في لبنان والمنطقة، إلى زمن مضى عندما كنت ممانعاً مع بداية تفتح وعيي على السياسة، منتصف سبعينيات القرن الماضي بدافع من إندلاع الحرب الأهلية في بلدنا. كنت خارج لبنان في الغربة – ربما لحسن حظي ؟ – بحكم غربة أهلي عن البلد، جراء ما كان ولا يزال – للأسف – من عجز للنظام القائم، وعجز الدولة والسلطة فيها عن تأمين سبل العيش الكريم لأبنائها، ما ولَّد بطبيعة الحال نقمة عليها.

إندلعت الحرب وإنقسم البلد إلى شطرين في البداية ما بين “شرقية وغربية”، شرقية تضم – كما كانت الصورة يومها – غالبية المسيحيين وأحزابهم اليمينية الطائفية وأقلية من الطوائف الأخرى الموالية سياسياً لليمين، وغربية تضم غالبية المسلمين وأحزابهم اليسارية والقومية “العلمانية” بغالبيتها، ونسبة لا بأس بها من “المسيحيين” اليساريين الثوريين، مع حضور طاغٍ لقوات المقاومة الفلسطينية، التي كان الخلاف حول سلاحها وسلوكها في لبنان، السبب المباشر لإندلاع الحرب، غداة مجزرة بوسطة عين الرمانة في 13 نيسان 1975، التي كانت تقل على متنها فلسطينيين عائدين من إحتفال لهم في بيروت، وكان سبقها أحداث صيدا قبل حوالي شهر ونصف حين أُطلقت النار على مظاهرة لصيادي الأسماك كان يقودها المناضل معروف سعد، ضد محاولة إحتكار شركة بروتيين – إن لم تخنِ الذاكرة – لصيد السمك ما شكَّل تهديداً لمصدر رزق آلاف العائلات الفقيرة، فكان إستشهاد معروف سعد بداية الشرارة التي فجرت الأوضاع فيما بعد بدءاً من حادثة بوسطة عين الرمانة.

كنا “نطرب” لدى سماعنا أخبار عملياتهم، سواء خطف الطائرات، أو إحتجاز وزراء نفط أوبيك

كان حماس الشباب و”نزقه”، يأخذنا ويحركنا بإتجاه ما كنا نعتقد بأنه الحق والعدل والصواب، بغض النظر عن الأساليب المتبعة للوصول إلى تلك الأهداف، كانت نوايانا سليمة، وآمالنا كانت عريضة بتحقيق “الدنيا الفاضلة”، وليس فقط المدينة أو الدولة أو المنطقة التي ننتمي إليها، بل كنا نريد تغيير العالم بأسره، كيف لا وأميركا عرين “الإمبريالية” في العالم تُهزم في فييتنام ، و”الثورة” تنتشر في كل مكان، من العالم العربي إلى أميركا اللاتينية، ومن آسيا إلى أفريقيا، عبر ” ثوار ” أغلبهم أتى على ظهر دبابة وبثياب عسكرية، ومنظمات مثل بادر ماينهوف في ألمانيا، والألوية الحمراء في إيطاليا والجيش الأحمر الياباني، وأيلول الأسود في منطقتنا، وكذلك شخصيات “ثورية” مثل وديع حداد وكارلوس ، كنا “نطرب” لدى سماعنا أخبار عملياتهم، سواء خطف الطائرات، أو إحتجاز وزراء نفط أوبيك المجتمعين في فيينا ومن ضمنهم الشيخ أحمد زكي اليماني وزير النفط السعودي آنذاك، والشخصية “الأبرز” في العالم في ذلك الحين، خاصة بعد الأزمة التي تسبب بها العرب جراء وقف إمدادات النفط، إبان حرب تشرين عام 1970.

لم نكن نعرف يومها شيئاً عن شعور أسمه “النفاق” أو الإنتهازية مثلاً، كنا سذجاً ربما أو تخفيفاً “أبرياء” ، كانت طريق أي إنسان إلى قلوبنا هي كلمة واحدة “فلسطين” ، لم نكن نعتقد أن بإمكان أو بمقدور أي شخص, سياسياً كان أو إعلامياً، أن يستثمر بفلسطين وقضيتها وشعبها لمصلحة شخصية، أو أن يتخذها ستاراً لإخفاء مطامعه أو أهدافه، سواء في كسب سلطة، أو ثروة أو شهرة.

كان حافظ الأسد في سوريا، ومعمر القذافي في ليبيا، وأحمد حسن البكر ونائبه صدام حسين في العراق، وكذلك هواري بومدين في الجزائر، وسالم ربيع علي وعبد الفتاح إسماعيل في اليمن الجنوبي يومها، وقبلهم كلهم كان ياسر عرفات وجورج حبش ونايف حواتمة، كانوا “أيقونات” ثورية عربية، مقابل أنظمة “رجعية عميلة متخاذلة”، في كل من مصر حيث أنور السادات، والأردن حيث الملك حسين، والمغرب حيث الحسن الثاني، ودول الخليج حيث المشايخ والأمراء، وكانت صور تشي غيفارا تغزو الساحات، وكان فيدل كاسترو وسيكاره ولباسه العسكري وقتال جيشه في أنغولا، يلهب الحماس الثوري.

لم تكن الحروب تعني لنا دمار وخراب وقتل، بل هي ممر ثوري للوصول إلى الهدف

لم تكن الحروب تعني لنا دمار وخراب وقتل، بل هي ممر ثوري للوصول إلى الهدف، كان العالم بنظرنا ينقسم إلى فريقين، إمبريالي وثوري لا ثالث لهما، وكانت الكرة الأرضية بالنسبة إلينا كرة قدم، يتقاذفها الفريقان في مباراة لا بد من كسبها مهما كان الثمن، وكانت الخسائر والضحايا مجرد أرقام في تلك المباراة، ولم نكن نعلم أنها تقرر مصير وحاضر الملايين من البشر ومستقبلهم. بهذه الذهنية تابعنا الحرب الأهلية وناصرنا طرفاً فيها، إنطلاقاً مما كنا نرى فيه تمييزا بين المواطنين اللبنانيين، كرسته صيغة 1943، وكان لزاماً علينا تغييرها، وبالمناسبة لا أنسى قول أحد جيراننا في برج حمود لأترابه، في إحدى السهرات عندما سألوه عن تسمية ولده إلياس وهو المسلم، فضحك وقال ” حتى عندما يكبر يجد له وظيفة في الدولة وليس عتالاً على البور” ، فضحك الجميع وكان منهم المسيحي الفقير، الذي لم ينتبه أحد يومها أنه لم يجد له مكان هو الآخر، سوى في ما كان يسمى حزام البؤس حول بيروت.

إذن، هذه الذهنية والخلفية هي التي كانت تقود مواقفنا، قبل أن نكتشف بعد وقت طويل أننا بتلك المواقف إنما كنا نحمَّل بلدنا وأنفسنا ما لا نطيق، وبهذه الذهنية الثورية “الناقمة” على كل شيء، هلَّلنا للثورة الإسلامية في إيران، على إعتبار أنها رد شعبي إسلامي قوي، على خروج مصر من الصف العربي عقب زيارة السادات للقدس، خاصة وأنها رفعت راية فلسطين، قبل أن نكتشف لاحقاً أن الطريق إلى فلسطين في عُرفِها وفكرها، تمر بكل العواصم العربية، بدءاً ببغداد التي دخلت معها في حرب دامت ثماني سنوات دمرت البشر والحجر، وإستكملتها منذ العام 2003 ولا تزال حتى اليوم ، مضيفة إليها ثلاث عواصم عربية أخرى، رهينة لسياساتها ومشاريعها الإمبراطورية.

وبهذه الذهنية كذلك، هلَّلنا لطرد العمال المصريين من ليبيا، التي مهدت لحرب الأيام الأربعة بين البلدين عام 1977، على إعتبار أنها عمل “ثوري” ضد نظام أنور السادات، قبل أن نفهم لاحقاً بأنها كانت “نوبة جنون” من نوبات معمر القذافي غريب الأطوار، وكذلك الأحداث بين اليمنين الشمالي والجنوبي في العام 1978، التي أدت لإغتيال رئيسين في اليمن الشمالي “الرجعي” ، ورئيس في اليمن الجنوبي “الثوري” في غضون أشهر معدودات، قبل إندلاع حرب “القبائل الماركسية” في اليمن الجنوبي فيما بينها عام 1986، التي أدت في النهاية إلى زوال “الثورة” وتوحيد اليمن تحت قيادة “الرجعي” علي عبد الله صالح، وغيرها الكثير من الأحداث التي كانت عواطفنا و”طفوليتنا الثورية” تتحكم بمواقفنا منها.

كانت الصدمة الأولى هي دخول قوات النظام السوري “الثوري” إلى لبنان لإنقاذ النظام الطائفي

وكانت الصدمة الأولى – إذا صح التعبير – هي دخول قوات النظام السوري “الثوري” إلى لبنان، لإنقاذ النظام الطائفي والذي تبين فيما بعد، بأنه جاء نتيجة إتفاق سمي إتفاق مورفي – الأسد بمباركة إسرائيلية، قضى بدخول الجيش السوري إلى لبنان، لوقف تقدم اليسار اللبناني وقوات منظمة التحرير الفلسطينية، على أن لا يتجاوز نهر الأولي حرصاً على عدم إزعاج إسرائيل، وكان الدخول بالحديد والنار والدمار والحقد المنقطع النظير، وعلى جثث المقاتلين “الثوار”، والمدنيين العزل، وسط صمت عربي ثوري ورجعي، وكذلك دولي غربي وشرقي، وتخلٍ وصل حد أن كمال جنبلاط زعيم الحركة الوطنية اللبنانية يومها، جاب البحار “تائهاً” بين البلدان العربية، دون أن يجد من يغيثه أو حتى يستقبله إلا على إستحياء، وهو مَن هو على المستوى العربي والدولي، سوى الرئيس المصري أنور السادات، ناصحاً له بأن يبقى في مصر، لأن رأسه بات مطلوباً ومعه ريمون إده، فرفض البقاء وقفل عائدا إلى لبنان، وفضل الموت على أرضه وهكذا كان.

بعد أن أنهى النظام السوري الجزء الخاص به، من المهمة الموكلة له في إتفاق مورفي – الأسد، بدأت إسرائيل تنفيذ الشق الخاص بها، فأجتاحت جنوب لبنان حتى الليطاني في عام 1978، رداً على عملية كمال عدوان الفدائية، التي قامت بها دلال المغربي وأسفرت عن مصرع 36 إسرائيلياً، كذلك وسط صمت عربي ودولي رهيب ومريب، إلا من تحركات دبلوماسية في مجلس الأمن، تخللها صرخة مندوب لبنان يومها غسان تويني الشهيرة “دعوا شعبي يعيش”، لتسفر عن القرار 425 القاضي بالإنسحاب الكامل، الذي لم ينفذ ألا جزئيا، لتحتفظ إسرائيل بالشريط الحدودي وتسلمه للرائد سعد حداد، لتصبح المنطقة المتبقية ساحة للصراعات الحزبية، البعيدة كل البعد عن “الروح الثورية”، وتصفية الحسابات العربية خاصة بين النظام السوري، الذي دعم حركة أمل الشيعية وقتها، وبين منظمة التحرير الفلسطينية وحلفائها من اليسار اللبناني.

” الصدمة ” الثانية لدى الإجتياح الصهيوني الثاني عام 1982 الذي وصل هذه المرة إلى بيروت وحتى إلى داخل سفارة الإتحاد السوفياتي

وكانت ” الصدمة ” الثانية لدى الإجتياح الصهيوني الثاني عام 1982، الذي وصل هذه المرة إلى بيروت، وحتى إلى داخل سفارة الإتحاد السوفياتي “قائد القوى التحرر والثورية في العالم وممولها” يومها، والذي تخلله مجازر صبرا وشاتيلا، فضلاً عن الدمار الشامل للبشر والحجر، دون أن يحرك العالم ساكناً، وهو الذي كان منشغلاً بمتابعة كأس العالم لكرة القدم، هنا بدأت عملية عودة الوعي، وبدأ التساؤل يكبر عن “ثوار” العرب والعالم، ومواقفهم التي لا تتجاوز التضامن الإعلامي، بينما تموت الناس وتدمر البيوت على ساكنيها، وبدأت القناعة تترسخ بأن مصالح الدول والأنظمة، هي من يحكم ويتحكم بالأحداث لا المبادئ، صحيح أن على الإنسان أن لا يتخلى عن مبادئه، ولكن هذا لا يعني الإنتحار في سبيل مصالح غيره من الدول الإقليمية أو الدولية، صاحبة المشاريع الإمبراطورية، وأنه من الفطنة والذكاء، أن تحفظ الدول والشعوب الصغرى “رأسها”، عند تصارع الكبار ما إستطاعت إلى ذلك سبيلا، ولا تحشر نفسها في ما هو أكبر منها، ولا طاقة لها به، بحيث يقع الغُرم عليها، ويؤول الغُنم إلى غيرها .

بعد العام 1982 كان أسوأ بكثير مما قبله، حيث بات لبنان تحت الإحتلال الصهيوني، الذي أذكى نيران الحرب الأهلية في كل مناطق تواجده، نقطة الضوء الوحيدة كانت إنطلاقة جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية – جمول – في 16 أيلول 1982، التي نجحت بداية في فرض الإنسحاب الصهيوني من بيروت، ومن ثم من مناطق واسعة في الجنوب، لينكفئ العدو إلى الشريط الحدودي وبعض البقاع الغربي وراشيا.

في الداخل اللبناني إستؤنفت الحرب الأهلية بين يمين ويسار، ومن ثم بين أهل اليمين نفسه نتيجة التدخلات الإسرائيلية والصراع على السلطة، وكذلك بين أهل اليسار والقومية العربية، بفعل الصراعات العربية ما بين النظام السوري من جهة، وكل من منظمة التحرير الفلسطينية والنظام العراقي من جهة أخرى، ودائما بدماء اللبنانيين وأرزاقهم وأمنهم، سيما مع دخول العامل “الثوري الإسلامي” على الخط وتداعيات الحرب العراقية – الإيرانية على لبنان والمنطقة، بحيث إصطفت الأنظمة “القومية الثورية” في كل من سوريا وليبيا، إلى جانب النظام الديني الإيراني، ضد النظام “البعثي القومي العربي” في العراق، ودفع لبنان الثمن غالياً من دماء الكثير من مواطنيه ومفكريه ومثقفيه، جراء التصفيات التي قادها “المجاهدون” – الجيل الجديد من الثوار – ضد ثوار التيار العلماني اليساري والقومي “القديم”، والتي أدت في النهاية إضافة إلى إستسهال، أو ربما “إضطرار” البعض، من ثوار اليسار والقومية للدخول في الصراعات، بين المحاور العربية تلبية لطموحات شخصية لهذا الزعيم أو ذاك، التي دفعت بالبعض إلى الذهاب للقتال في تشاد، إلى جانب قوات معمر القذافي، كل هذه التطورات أدت إلى تصفية حتى جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، ليتم إستبدالها ب “المقاومة الإسلامية”، التي باتت مع الوقت جزءاً من محور الممانعة، وباتت تحارب راضية مرضية على أكثر من جبهة، أين منها جبهة تشاد بالأمس أيام ثوار اليسار العلماني.

مر شريط الأحداث هذا في مخيلتي، وأنا أتابع التعليقات المختلفة على مجريات الغزو الروسي لأوكرانيا، خاصة منها الصادرة عن مؤيدي محور الممانعة، الذين لا يخفون “فرحتهم” وتهليلهم للغزو والإحتلال، وترحيبهم وتمجيدهم للحرب، كحل للخلافات بين الدول، لأكتشف كم هو “بشعاً” أن تكون ممانعاً، ولأكتشف كمية السذاجة التي كنت عليها مع أترابي في تلك الفترة من العمر.

هذا التهليل للموت يؤكد بأننا كشعب لبناني، فشلنا في إستخلاص العبر والدروس من تاريخنا القريب

هذا التهليل للموت يؤكد بأننا كشعب لبناني، فشلنا في إستخلاص العبر والدروس من تاريخنا القريب، نحن الذين إكتوينا بنار الحروب ولا نزال، ويترك علامة إستفهام كبيرة وتعجب أكبر، من الناحيتين الإنسانية والسياسية.
فمن الناحية الإنسانية يتساءل المرء ويتعجب، كيف يمكن لأي إنسان عاقل وطبيعي أن يفرح ويهلل لإندلاع حرب، وحصول

غزو وإحتلال من دولة بحق دولة أخرى، حرب يَسقط فيها الضحايا وتُسفك فيها الدماء، وتُدمَّر فيها الأرزاق والممتلكات، خاصة إذا كان هذا الإنسان هو نفسه بالإضافة إلى شعبه ووطنه، قد جرب مآسي الحروب ودفع ثمنها، ولا يزال من دمه وإقتصاده، من حاضره ومستقبله لسنين كثيرة ماضية ومقبلة، كما أنه عانى الأمرين من الغزو والإحتلال على مدى سنين طويلة؟ ومن الناحية السياسية يحار المرء أكثر، في تفسير هذا الموقف إلى جانب روسيا، وإظهار رئيسها وكأنه “سوبرمان” عصره وزمانه من قِبَل بعض الناس، أو كأنه المخلِّص والمنقذ المنتظَر للبشرية من شرور أميركا والغرب من قِبَل البعض الآخر ، – مع الإشارة هنا أن موقفنا ضد الغزو ليس نابعاً من موقف سياسي معارض لروسيا ومؤيد لأوكرانيا إنما هو فقط من منطلق إنساني بحت – ويتساءل المرء عن المكسب الذي يمكن أن نجنيه كلبنانيين، في ظل الظروف القاسية التي نمر بها، أو كشعوب “ترزح” وتعاني كل الشرور، من جوع وجهل ومرض ودمار تحت حكم محور الممانعة، سواء في سوريا أو العراق أو اليمن، من وراء حرب كهذه خاصة وأنها تدور خارج منطقتنا، ولا علاقة لها بمصالحنا وأهدافنا المباشرة، وبالتالي فلا ناقة لنا فيها ولا جمل كما يقال، إلا من حيث تأثيرها على الوضع الدولي العام؟ لا جواب مقنع للأسف، سوى شعارات بلهاء، لا تسمن ولا تغني من جوع، تنم عن تفكير محدود وجهل فاضح بمجريات السياسة الدولية، و “ثقافة” تغييب للوعي عُمِّمت للإستثمار فيها، في مشاريع سياسية محلية وإقليمية، ثقافة نابعة ربما من غرور فائض القوة المستعارة التي لا ولن تجدي نفعاً متى صدر القرار الدولي بتفكيكها سواء سلماً أو حرباً حين تحين ساعة الحقيقة.

نقول هذا لا تسخيفاً لرأي سياسي، ولا إنتقاصاً من نضالات أحد، ولا دعوة للإنهزامية، ولا حتى إنتقاداً للأخطاء التي وقعنا ونقع فيها كل يوم، فمن حقنا كبشر أن نخطئ، ولكن من واجبنا أيضاً أن نتعلم من أخطائنا، العكس هو الصحيح ، هي دعوة وتحفيز لإِعمال العقل والفكر في أمور حياتنا، وعدم الغرق في “شبر مي”، هي دعوة لعودة الوعي وتحرير العقول من الخزعبلات، وجعل الإنسان هو الهدف لا الفكرة أو الحزب أو الدين أو السلطة أو الزعيم، فكل هذه الأفكار أو المؤسسات، هي من يجب أن تُكَرَّس لصالح الإنسان، وتعمل على خدمته لا العكس، هذا الإنسان الذي هو خليفة الله على الأرض، والنفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق، بحسب المعتقدات الدينية لدى البعض، وهو الإنسان الحر القادر على فعل المعجزات، بعقله وعلمه وإدراكه بحسب المعتقدات الدنيوية لدى البعض الآخر.

نعم كنت فيما مضى “ممانعاً” غائباً عن الوعي، لا أخجل بذلك، حسبي أن نواياي كانت صادقة وبريئة لا تعرف الخداع ولا النفاق، حسبي أن الهدف كان نبيلاً، ربما أخطأت في خياراتي السابقة، ولكن الرجوع عن الخطأ فضيلة، ولا فضيلة كإحساس الإنسان بأخيه الإنسان بغض النظر عن العرق أو اللون أو اللغة، على أمل أن يعود الوعي لكل المخدوعين في هذا العالم الشاسع، عسى أن يعم السلام والأمن ولو نسبياً عبر النضال، ضد أشرار هذا العالم بالطرق المناسبة والمضبوطة بقوانين تحمي الإنسان، لسنا طوباويين، ولا يجب أن نكون، ولكن الواقعية أيضاً لا تعني الوحشية والقوة المفرطة والعودة إلى شريعة الغاب، ربما قليلا من الواقعية ومثلها من الطوباوية ويعتدل الميزان، فخير الأمور الوسط، و”الفضيلة وسط بين إفراط وتفريط”، كما قال أرسطو.

السابق
مصاباً بطلق ناري في عنقه.. واقعة صادمة تهزّ طرابلس!
التالي
بعدسة «جنوبية»: للمرة الأولى.. لبنان يُضيء المتحف الوطني لهذا السبب الإنساني!