وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: أوكرانيا..شعب غلَّب حريته على خوفه

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.

تفسير المسعى الروسي لاحتلال لأوكرانيا، بأنه صراع شرق غرب، أو محور يتشكل ويثبت وجوده وفاعليته، بل غلبته مقابل محور غربي يشكل الناتو رأس حربته، أو علامة على تراجع الولايات المتحدة وتحوله إلى نمر من ورق بحسب النبؤات الماوية، أو مثال صارخ على أن محور الشرق، بات قبلة الدول الصغيرة أو الضعيفة التي تحتاج إلى حماية ورعاية. هذه التفسيرات، ليست أكثر من هلوسات أجهزة الإعلام الموجه، وتعميمات أيديولوجية تعمد إلى تأطير الأحداث، مهما كان تنافرها وتنوعها داخل قوالب وعي جاهزة وثابتة ومسارات تاريخ حتمية. 

هذا الغزو بأبسط صوره، مسعى لإعادة روسيا إلى صدارة الدول الكبرى التي تقرر مصير العالم. لكن بإمكانات اقتصادية ضعيفة، وقدرات تكتولوجية تقليدية، وطاقة صناعية من مخلفات الاتحاد السوفييتي، وبعدة مواجهة وقواعد اشتباك تجاوزها الزمن، لا تختلف كثيرا عن نمط معارك الحرب العالمية الثانية، مع تطور أكثر في  كمية التدمير ودقة في إصابة الأهداف.

يريد بوتين أن يقرر مصير العالم عبر قوته التدميرية وعديد سلاحه يقدم نموذجا في العلاقة مع الدول على قاعدة الإخضاع القسري

يريد بوتين أن يقرر مصير العالم، عبر قوته التدميرية وعديد سلاحه، يقدم نموذجا في العلاقة مع الدول، على قاعدة الإخضاع القسري، الطاعة المجبولة بالتهديد، والتبعية المقترنة بالخوف.  وسيلته اللعب على حافة الهاوية، عدم حساب العواقب بل الاستخفاف بها، التلويح بالسلاح النووي، كمصدر قوة وسيادة، وليس مصدر إفناء للبشرية ودمار للعالم. نموذج حكمه السياسي: السلطة المطلقة والهيمنة المخابراتية، والسلوك البوليسي في قمع أي احتجاج أو صوت معارض، والإبادة الجماعية للجماعات المحلية المتطلعة، إلى حكم ذاتي أو هامش استقلال نسبي.

يريد بوتين إعادة التاريخ إلى الوراء، وإعادة رسم خارطة العالم، وفق التوزيع القديم الذي يزيد على مئة عام، والذي يعيد روسيا إلى صدارة القوى الكبرى، التي تملك حق رسم حدود الدول، وتقرير مساحتها وحيازة صلاحية بقائها وفنائها.  هي رغبة، إضافة إلى استحالة تحققها الفعلية، لا تعبر سوى عن سقم قيصري، هوس سلطوي، وسواس عظمة، لا يشبعها جميعاً، إلا المدن المحروقة والشعوب الخاضعة والإرادات المكسورة. 

الرغبة باحياء قواعد التوزيع القديمة، واعتمادها أساساً للحاضر، يعني كسر جميع القواعد القائمة، وحذف التحولات والتغيرات التي طرأت خلال مئة عام، التي لم تغير خارطة العالم السياسية فحسب، بل غيرت أيضاً تكوينات الشعوب وثقافتها ومفهومها للهوية والإنتماء.  فالعالم لا يتغير بحذف تاريخه وتجاهل تحولاته ومتغيراته، بل بالتقدم به إلى الأمام بصناعة تاريخ جديد، ونماذج حياة وسلطة أكثر فعالية وعدلا وحرية.

وما الرغبة بالعودة إلى أمجاد التاريخ واستحضاره، سوى هاجس وعقدة الذي يختزن فشلاً وعجزاً في الحاضر، وخوفاً من التهميش والخروج من سبق الزمن. بل يحمل ضغينة وحقداً على هذا الحاضر، ولا يبالي إذا دُمِّرَ أو فني، يتلذذ بإعادته أو تحويله عالما ارتكاسياً منحطاً، يريده على شاكلته أو فليغمره الطوفان.   

إقرأ أيضاً: وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: مصير المنطقة العربية بين أميركا وإيران (2)

 يريد بوتين أن يجعل من روسيا أمبراطورية كبرى، أي يعوض الهشاشة الاقتصادية والضعف السياسي، الذي عانته روسيا بعد سقوط الإتحاد السوفييتي، باستعراضات عسكرية وتدميرية لا تزيد روسيا سوى ضعفاً وعزلة وهشاشة. أي بدلا من وضع روسيا على سكة التحديث السياسي، والتسابق التكنولوجي والاقتدار الاقتصادي، عمد إلى التذرع بماضيها السحيق ومجدها البائد، ليسهل عليه إنتاج نمط حكم مطلق في الداخل، تتحكم بمقدرات البلد الإقتصادية وتعطل حيويته الاجتماعية، وإلى بناء دولة تستعيد نموذج الحكم الأمبراطوري، الذي تقوم علاقته مع شعوب ومكونات الأطراف، على قاعدة التبعية والإخضاع والتهديد بالإبادة أو التدمير الشامل.

 يريد بوتين أن يجعل من روسيا أمبراطورية كبرى أي يعوض الهشاشة الاقتصادية والضعف السياسي الذي عانته روسيا بعد سقوط الإتحاد السوفييتي

ليست قضية أوكرانيا قضية صراع محاور، وإن كان ظاهرها يوحي بذلك، بل قضية شعب يملك حق أن يقرر مصيره، أن يحدد هويته ويصنع ثقافته وينتج تاريخه. قضية شعب يحمل هذا الحق، ولا يملك أحداً انتزاعه منه. قضية شعب نجح في النهوض بعد سقوط الإتحاد السوفييتي، في إنتاج نظامه الديمقراطي وتعدديته السياسية، وتحقيق نهضته الاقتصادية، قضية شعب آثر أن يصنع تاريخه، بدلا من أن يكون من ملحقات ثقافة آخرى وتاريخ مغاير. قضية شعب غلَّب حريته على خوفه.

هي صورة العاجز أو فاقد الحرية الذي بدلاً من السعي إلى انتزاع حريته تراه يتمنى موت جميع الأحرار ويفرح بإبادتهم

أما المنحازون والمتحمسون إلى الغزو الروسي لأوكرانيا ، ظناً منهم أن هذا يعطي أرجحية لمحور جديد آخذ بالتشكل والتمدد مقابل المحور الغربي أو الأمريكي، فهذا ليس سوى تغطية على عمق المشهد وحقيقته، وتعويم لنموذج الإستبداد والقهر المطلقين أساساً للحكم، وقاعدة لعلاقات التبعية والخضوع بين الدول والشعوب، وتسويغ لتخليهم الطوعي عن حريتهم، ومدح وتبجيل لتبعيتهم الاختيارية.

هي صورة العاجز أو فاقد الحرية، الذي بدلاً من السعي إلى انتزاع حريته، تراه يتمنى موت جميع الأحرار ويفرح بإبادتهم.    

السابق
العمالة والخيانة..وجهة نظر!
التالي
الفقر «يُذل» الجنوبيين على محطات الغاز والبنزين..و«عِقاب» البقاعيين الكهربائي مستمر!