وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: مصير المنطقة العربية بين أميركا وإيران (2)

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.

لا يُعدُّ نفوذَ إيران في المنطقة العربية خط دفاع وحماية خارجي للنظام الإيراني، بل هو بمثابة ترجمة لمسعى جدي في خلق ترتيب جديد في منطقة الشرق الأوسط، المجال العربي على وجه الخصوص. هذا الترتيب لا يوصف بأنه مجرد إحداث خلل في موازين القوى لصالح إيران فحسب، بل يوصف بأنه خلق واقع سياسي ذي انتظام داخلي يتسم بهرمية قوية شديدة التماسك، يكون رأسه النظام الإيراني نفسه، الذي يتسنم الولي الفقيه رأسه وقيادته، وتكون الفروع المنتشرة ذات التمدد والاتساع الاخطبوطي في الدول والمجتمعات خارج إيران، العمق العربي على وجه الخصوص،  بمثابة قاعدته ونقاط ارتكازه وأرضية انتشاره.

فالقوى الحزبية والميليشيات الولائية خارج إيران، ليست مجرد قوى موالية أو حليفة للنظام الإيراني، بل هي جزء من تكوينه وبنيته ومؤسساته، على الرغم أنها تنوجد داخل بلدان ودول ذات سيادة خاصة بها.

فنظام ولاية الفقيه في تأسيسه الفقهي وتجلياته العملية، لا يقوم على مبدأ الدولة التي تتقوم بالشعب والحدود الجغرافية والمشترك القيمي والثقافي بين أفراد المجتمع، بل هو قائم على عقيدة غيبية تعتبر السلطة مستمدة ومتلقاة،  من الترتيب النازل من الله إلى النبي إلى الإمام إلى الفقيه. 

القوى الحزبية والميليشيات الولائية خارج إيران ليست مجرد قوى موالية أو حليفة للنظام الإيراني بل هي جزء من تكوينه وبنيته ومؤسساته

أي هي سلطة إلهية ممنوحة لمن يحوزها ويمارسها، لا تقوم على إقرار المجتمع بها، لأنها سلطة خارجة عن اختيار الناس وقرارهم، ما يعني غياب مفهوم الشعب أو المجتمع الخاص في قاموس هذه السلطة. كما إنها سلطة مطلقة لا تعترف بحدود جغرافية، لأنها أساس الإلزام فيها هو الانصياع الديني لا الانصياع السياسي، أو الولاء القومي أو الانتماء الوطني، بالتالي هي سلطة عابرة للحدود، وتطالب كل المؤمنين والمنتمين إلى المذهب الإمامي الخضوع لها والإئتمار بأمرها، بحكم أن الطاعة والولاء السياسيين، بحسب منظري ولاية الفقيه، هي طاعة وولاء دينيين تحددهما ضرورات المذهب وبديهياته.

أما ثقافة المجتمعات الخاصة، فليست أيضاً من مقتضيات سلطة الولاية، بحكم أن الثقافات الخاصة، وفق هذه النظرية، ليست سوى عوامل ومكونات عرضية وطارئة في الوجود الإنساني، مقابل الهوية الدينية ذات التأويل المذهبي الخاص، التي تعتبر الأساس الجوهري الثابت لأي تضامن أو رابط إنساني. 

الفصل بين التخصيب النووي وبين استراتيجية النظام الإيراني وسياساته بعيدة المدى في المنطقة هو خطأ الولايات المتحدة القاتل

كل هذا يؤكد، أن ولاية الفقيه، في دلالاتها النظرية وسياقها التاريخي المعاصر،  منافية لحقيقة ومفهوم الدولة، بخاصة الدولة الحديثة، وتناقض شروط قيامها.  لأنها ليست مقترحاً لانتظام مجتمع مخصوص أو تقنين حياته السياسية، أي ليست من الأساس نظرية حكم سياسي، بقدر ما هي سلطة ذات شرعية ذاتية، لا تستمدها من أحد وتقوم على الطاعة المطلقة.  أي سلطة نصَّبَت نفسها بنفسها، هاجسها التمدد والإنتشار، وتوسيع دائرة الخاضعين لها. تتسرب تحت جنح الظلام داخل المجتمعات، تحط رحالها في الأمكنة الضعيفة، ترصد التناقض داخل المجتمعات، تستغل هشاشتها، توظف مشاعر التهميش بداخلها، لتحدث اختراقات وتوفر لنفسها موطئ قدم، وتؤسس لنفسها قواعد ثابتة ونقاط ارتكاز قوية ومتينة.

إقرأ أيضاً: وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: مصير المنطقة العربية واقع بين أميركا وإيران

هذا يعني أن القوى المتظللة بولاية الفقيه، ليست قوى موالية أو حليفة للنظام الإيراني، بل هي جزء عضوي منه، ومؤسسة من مؤسساته، بحيث تكون مواجهة هذه القوى والاشتباك معها، مواجهة واشتباك مع النظام نفسه.  نحن أمام نظام ذي تكوين معقد، تتوزع أجهزته وتنتشر مؤسساته، وتتوزع الأدوار والمهام بداخله، فوق مساحة لا حدود لها ولا سمة ثقافية أو جغرافية لها.  ورغم أن هذا النظام قد اتخذ لنفسه هيئة وطنية وحدوداً قومية، معترف بها دولياً هي هوية وحدود إيران، إلا أن هذا الشكل كان ضرورياً للإعتراف به دولياً، ولوضع اليد على الموارد والقدرات المحلية، التي تمكنه من التوسع وخلق نقاط تواجد ثابتة وصلبة، في البلدان القريبة أو البعيدة عن حدوده الوطنية.  ليس غرض نظام ولاية الفقيه تأسيس دولة بالمعنى الحديث، أو تقديم نموذج حكم ناجح، بل توسيع مدى الخاضعين لها، وتعزيز شروط وظروف القوة التي تؤمن استمراريتها وتضمن الطاعة والخضوع لها.  إنها سلطة لأجل السلطة.

هذا التوصيف ليس مبالغة، إذ تؤيده حقيقة نظرية الولاية، وتدعمها الممارسات التي ما فتئت تعتبر الحدود الجغرافية خطوطاً مصطنعة، والدول القائمة لا قيمة شرعية وسيادية لها.  وما الإعلان المبكر والمستمر عن تصدير الثورة خارج إيران، الذي لا يعني أكثر من توسيع دائرة نفوذ النظام خارج حدوده، والتصريح الواثق بأن أربع عواصم عربية تحت سيطرة النظام الإيراني، وضبابية اعتراف حزب الله بحدود لبنان الجغرافية مع إسرائيل ومع سوريا، والجهد الدؤوب بتأسيس تكوينات أمنية وتنظيمية، لا تخضع لقانون بلدانها ولا تعترف بسيادة دولها وتنفذ مهاماً أمنية خارج دولها، هذا فضلا عن فائض القوة الذي راكمته عبر السنين: للحؤول دون تمكن دول هذه التكوينات، من ضبطها أو مراقبتها أو تقييد حركتها، يضاف إلى ذلك الجهد الدؤوب للإمساك بقرار بلدانها والتسرب داخل مؤسساتها، لتكتسب شرعية قانونية معترف بها، رغم أن هذه المكونات تناقض في معتقدها وبنيتها معنى الدولة، ولا مكان في قاموسها لأية سيادة شعبية.       

طبعاً، ما كان هذا ليكون علنياً ومباشراً، لأن ذلك يتسبب بمواجهة عسكرية واقتصادية، لا يتحملها نظام ولاية الفقيه مع المعسكر الغربي. فلجأ إلى سياسة القضم البطيء لكن الراسخ والثابت والمتين، أي سياسة إيجاد بؤر أمنية وتنظيمية من نفس مكون المجتمعات ونسيجها.  ما يظهر أي خلاف أو صراع مع هذه المكونات مشكلةً داخلية وشأناً محلياً داخل تلك البلدان، الأمر الذي يحول دون تسمية النفوذ الإيراني فيها، احتلالاً أو هيمنة إيرانية، بل جزء من التفاعلات الاجتماعية والتنافس السياسي، الذي يحصل في أي بلد في العالم.  هو أداء يحقق مشروعية داخلية لهكذا نفوذ، ويؤمن غطاء للمكونات الداخلية التابعة للنظام الإيراني في تهميش سلطة الدولة المحلية، وخلق واقع غلبة وهيمنة لصالحها على باقي القوى والمكونات.    

ذكرت هذا كله، لأقول أن الأزمات الداخلية التي تتسبب بها، الأجهزة الولائية خارج إيران والصراعات التي تخوضها، ليس غرضها العميق ممارسة ضغط سياسي أو فعل ابتزاز، لتحقيق منافع آنية ومكاسب جزئية للنظام الإيراني، وليس غرضها أيضاً إثبات اليد العليا للنظام الإيراني في المنطقة، وتأكيد الخلل في موازين القوى لصالحه، بل هي جزء من استراتيجية بطيئة وخفية وذات نفس طويل، لإعادة إنتاج التكوين السياسي للمنطقة، وفعل تفكيك داخلي لمؤسساتها الرسمية وتفتيت لمكوناتها الإجتماعية، تمهيداً لقيام منظومة سلطة جديدة، غير مسبوقة في تكوينها وبنيتها وتراتبيتها وطبيعة انتشارها. ما نحن فيه ليس غرضه تحصيل مكاسب أو تسجيل انتصارات، إنما هو بمثابة مسار ثابت، ذو طبيعة تأسيسية لواقع وتكوين سياسي جديد ومختلف للمنطقة بأسرها. 

ولاية الفقيه في دلالاتها النظرية وسياقها التاريخي المعاصر  منافية لحقيقة ومفهوم الدولة بخاصة الدولة الحديثة، وتناقض شروط قيامها

لذلك كان الفصل بين التخصيب النووي، وبين استراتيجية النظام الإيراني وسياساته بعيدة المدى في المنطقة، هو خطأ الولايات المتحدة القاتل.  هو فصل يصرف الأنظار عن دور إيران الأخطر من التسلح النووي، ويجعل أي اتفاق نووي، بمثابة إعتراف دولي من المعسكر الغربي، بانصياع النظام الإيراني للقوانين والتزامه بالمعاهدات الدولية، وإقرار دولي بشرعية دوره الإقليمي. 

حين تسارع الرئاسة الأمريكية إلى إبرام اتفاق نووي، لإغلاق ملف التخصيب النووي الإيراني، ظناً منها أن المنطقة ستكون أكثر أمنا وأماناً، فإن النظام الإيراني بالمقابل يستثمر الإتفاق بإبقاء مصير المنطقة مفتوحاً، لكن هذه المرة بقيود أقل وحرية حركة أوسع وشروط أمان شبه معدومة.   

السابق
صور تفقد الأديب حسين شرف الدين..الشخصية الجامعة المنفتحة
التالي
من بغداد إلى بيروت..الإنتخابات بين صناديق الإقتراع و «الذخيرة»!