الحاكم الفرنسي لشيعة الجنوب: لماذا تدعون بمساجدكم للشريف حسين السنّي؟!

الشريف حسين

أواخر التسعينات من القرن التاسع عشر بدأ العرب يتحركون سراً لمواجهة العثمانيين في كل الأقطار العربية. وقاموا بتأسيس الجمعيات بهدف تنظيم الحياة العامة والقيام بفتح المدارس والمعاهد لمكافحة الأميّة والتخلف، وكذلك من اجل تغيير الواقع السياسي ومقاومة سياسة التتريك التي ظهرت لاحقا بداية القرن العشرين.

في سنة 1877 إنعقد “مؤتمر دمشق  السري ” بحضور أعيان بلاد الشام والأمير عبد القادر الجزائري الذي كان قد لجأ إليها عام 1855، وحضر من مسلمي لبنان أحمد باشا الصلح وكان يمثل الشيعة العامليين السيد محمد الأمين والشيخ علي الحر، وطرحوا مسألة إنفصال سوريا عن الدولة العثمانية وإختيار الأمير عبد القادر الجزائري أميراً عليها. غير أن الأمير إشترط بقاء الإرتباط الروحي بالخليفة العثماني إضافة إلى القبول بمبدأ الحكم الذاتي ،إذا ما وافقت عليه السلطة العثمانية التي كان الضعف يتسلل إلى أوصالها بعد هزائمها العسكرية أمام الروس والعصيان في البلقان، فكان مشروع الإمارة العربية هو خطة لتدارك بوادر الإنحلال والفوضى العامة التي يمكن أن تهدد البلاد .

اقرأ أيضاً: «الأدب الشعبي» يحاكم المحتكرين

غير أن معاهدة الصلح بين السلطنة وروسيا ومعرفة الوالي العثماني بتفاصيل المؤتمر أحبط مساعي المؤتمرين، فضيّق على الأمير عبد القادر الجزائري ونفى السيد محمد الأمين إلى طرابلس وأوقفت تلك الحركة بالقوة .

وإثر صعود التيار القومي التركي، انفجر الوضع بالقسطنطينية، التي كانت على موعد مع ثورة تركيا الفتاة سنة 1908 وإزاحة السلطان عبد الحميد الثاني من سدة الحكم خلال العام التالي.

الحلم بالوطن العربي الكبير تحت العباءة الهاشمية كان هدفاً وطنياً

وتزامناً مع ظهور التيار القومي التركي الذي منح الأتراك مزيداً من النفوذ وكرّس سيادة العنصر التركي واحتقاره لبقية الشعوب التي شكلت نسيج الدولة العثمانية، ارتفعت بمختلف المناطق التي هيمن عليها الأتراك الأصوات التي نادت بضرورة المساواة بين القوميات، فضلاً عن ذلك تشكل العديد من الحركات القومية الأخرى التي أخذت على عاتقها مهمة الدفاع عن شعوبها المضطهدة من قبل الأتراك، ولعل أبرزها.. المنظمة الثورية المقدونية، وحزب الشعب الاتحادي البلغاري، وحزبا الهنشاك وأرمناكان الأرمينيان، وجمعية العربية الفتاة التي ظهرت بباريس عام 1911 على يد مجموعة من الطلاب والمثقفين العرب من أمثال العراقي توفيق السويدي، والسوري جميل مردم بك، والفلسطينيين رفيق التميمي، وعوني عبد الهادي.

لذلك فان الحركة القومية الوطنية العاملية  ما لبثت أن تحولت إلى لبنانية عامة ،بدءاً من العام 1915 عقب اندلاع الحرب العالمية الأولى ،واشترك فيها عن الشيعة رواد النهضة العلمية والأدبية في جبل عامل  كالشيخ أحمد عارف الزين صاحب مجلة العرفان والمؤرخ الأديب محمد جابر آل صفا والشيخ سليمان ظاهر والشيخ أحمد رضا ،إضافة إلى زعماء منهم إسماعيل الخليل ومحمد بزي وقد انتسبوا إلى جمعية الإتحاد والترقي ،التي أسسها الشهيد عبد الكريم الخليل وشارك بها محمد رستم حيدر من بعلبك، وقد أسس هؤلاء بعد ذلك فرعاً لجمعية “العربية الفتاة” في صيدا عام 1914، وهي جمعية سياسية قومية عربية سرية أنشأها مجموعة من الطلاب العرب في مدينة باريس عام 1911م.

ومعلوم كيف إنتهت هذه الحركة بإعدام الشهيد عبد الكريم الخليل ورفاقه في 20 آب 1915 على يد حاكم لبنان العرفي التركي أيام الحرب الأولى جمال باشا الذي لقب بـ”السفاح”.

الحلم العربي

لقد كان لبلاد الشام عموماً وللشيعة اللبنانيين موعدٌ مع تيار عربي جارف بدأ في ثورة الشريف حسين التي حطت رحالها في بلادنا عبر نجله الأمير فيصل بعد انسحاب الجيش التركي من البلاد نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1918، فرفع العلم السوري في المدن العربية كافة وشكلت حكومة مؤقتة عينها الأمير فيصل، فمثلت مدينة صور بالحاج إسماعيل الخليل، ومحمود الفضل عن النبطية، والفريد أبو سمرا عن مرجعيون كممثلين لتلك الحكومة ووزراء فيها .

توحد زعماء الشيعة وعلماؤهم وجمهورهم في اجتماعهم حول الأمير فيصل ؛ بينما كان الفرنسيون يعدون العدة لتنفيذ مشروعهم وهو إعلان لبنان الكبير وطناً مستقلاً في بلاد الشام والذي سوف يضم البقاع شرقاً وجبل عامل جنوباً وطرابلس شمالاً. ولقد لاقى هذا المشروع معارضة عنيفة من قبل جمهور المسلمين شيعة وسنة كما هو معلوم فالحنين للخلافة الإسلامية يدغدغ الأحلام وهو الوطن الكبير المنشود لا الوطن الصغير المنوي إقامته من قبل المستعمر الفرنسي.

في وقفة تحليلية لا بدَّ من الاعتراف أن للتاريخ خصوصيته، فالشعوب التواقة للحرية وللعودة إلى مجد زائل من حقها أن تحلم وأن تعمل على إعادة إحياء هذا المجد، فالخلافة الإسلامية العثمانية التي بدت أنها زالت إلى غير رجعة مع نهاية الحرب العالمية الأولى أحدثت فراغاً كبيراً وفزعاً زاد من حدته ما تسرب من معلومات حول اتفاقية “سايكس بيكو” التي قسمت فيما بعد الوطن العربي الإسلامي إلى دول وطنية غير مفهومة المعنى في ذلك الوقت.

الوفد العلمائي يبايع الملك فيصل

إذن فالحلم بالوطن العربي الكبير تحت العباءة الهاشمية العربية كان أمراً مشروعاً لا بل أنه كان هدفاً وطنياً بامتياز أظهر فيه الشيعة تضحية منقطعة النظير لامست حد الذوبان في سبيل المصلحة القومية الإسلامية العامة ولم يعبأوا كما أسلفنا لا بمذهب الملك السني المخالف لمذهبهم ولا بمنبت أصله الحجازي البعيد عن منبتهم طالما أنه يحمل المشروع المرتجى الذي فيه خلاص الأمة ورفعة شأنها والذي لا يكون إلا في قيام أمة إسلامية عربية قوية موحّدة.

فها هو الملك فيصل بعد عودته من رحلته إلى باريس في 30 نيسان 1919 وبعدما احتشدت الوفود لاستقباله في بيروت وكان من ضمنهم الوفد العاملي الذي انبثق بعد مؤتمر الحجير الذي جمع كل اعيان شيعة جبل عامل وأوصى بمبايعة الملك فيصل والحكومة العربية في سوريا، فكان على رأس الوفد المرجع السيد محسن الامين والعلامة السيد عبد الحسين نورالدين والشيخ عبد الحسين صادق إضافة للوفد الشيعي البقاعي وعلى رأسه الشيخ “حبيب آل إبراهيم”  يبايعون الأمير فيصل على رؤوس الأشهاد.

انضم اعيان من جبل عامل لجمعية “العربية الفتاة” لمقاومة التتريك

ولا بأس في ذكر الأبيات الثلاث التي إرتجلها سماحة الشيخ عبد الحسين صادق بعد أن قام المسؤول عن التشريفات لدى الأمير لتأخير الوفد الشيعي في إدخاله لسبب مجهول فما كان من علامتنا رئيس الوفد العاملي إلا أن إرتجل هذه الأبيات:

لو جاز سعـي الأرض                                                  تعظيماً إلى استقبال مولى

لسعت إليـك بلادنـا                                                   عـزاً وإجـلالاً وطـولا

وجرت بمضمار السباق                                             و”عامل” بالسبـق أولـى

وقد أردف هذه الأبيات بكلمته المشهورة:” إنني باسم أهل جبل عامل أبايعك على الموت ” .

الشيعة يدعون في مساجدهم للشريف حسين

وكانت حصيلة هذا اللقاء التاريخي  ان أمر الملك فيصل العامليين بالتزام السكون لأن تسليحهم ضعيف، فشيعة جبل عامل لا يملكون سوى “العصي والحجارة” كما أفاده السيد محسن الامين.

اقرأ أيضاً: حوزات جبل عامل تكسر هيمنة «حزب الله» على طلبة قُم والنجف!

ويذكر التاريخ ان ولاء شيعة جبل عامل للملك فيصل السنّي أزعج الفرنسيين، ويذكر الشيخ أحمد رضا عن الحوار الذي جرى بينه وبين حاكم صيدا العسكري يعطي صورة واضحة عن ذلك. فقد قال له الحاكم العسكري:«كيف ترون الشكل الموافق للحكومة في هذه البلاد وهل الأصلح لها الفرنساويون أو العرب ؟ فقلنا له: إننا ونحن شعب عربي سوري نتمنى أن تكون حكومتنا عربية سورية وهل يلام المرء على حبه لقومه ، فقال (الحاكم) إن الحكومة الفرنسية تحب الشيعة وتميل إليهم، ومتى تقرر المصير وأصبحت فرنسا هي الدولة المنتدبة لسوريا فإن الشيعة سينالون حقوقهم وزيادة، فقلنا له: إن علماء الاجتماع قرروا أن على الحاكم واجباً وعلى المحكوم واجباً آخر … فإعطاء المحكومين حقوقهم والعدل بينهم مما يجب على الحكومة. فقال: وهل تظنون أن حكومة الشام تعطي الشيعة حقوقهم؟ فقلنا: وما الذي يمنع ذلك؟ ثم قال: لمن تَدْعون في مساجدكم؟ قلنا: إننا ندعو لملك العرب الملك حسين، فقال: وكيف تقولون برئاسة الملك حسين الدينية وهو سنّي وأنتم شيعة؟ قلنا: لكنه حاز الشروط من حيث كونه قُرَشياً هاشِميّاً ولا يمنع من خلافته كونه سنياً» .

ولم يكن ضم جبل عامل إلى لبنان الكبير نهاية لهذه الآمال، بل بقيت الأكثرية العاملية في جبل عامل تطالب بالوحدة السورية، وقد امتزجت هذه الفكرة في نفوس الأكثرية منهم حتى عدَّ الخارج عنها خارجاً على الوطن والعروبة، وذهب في سبيل هذه العقيدة الراسخة عدة شهداء، فلما كانت سنة 1936م  ووقع السوريون معاهدتهم التي اعترفوا فيها بحدودهم الحالية دون البقاع والشمال مسلمين ضمنا بوجود دولة لبنان الكبير، بدأ المزاج الشيعي ينقلب لتطالب الطائفة بحقوقها داخل الكيان اللبناني الجديد.

(مجلة شؤون جنوبية – العدد 181 – خريف 2021)

السابق
خاص «جنوبية»:المصارف تتجه لإقفال 330 ألف حساب دولار للتخلص من المودعين الصغار!
التالي
حوار الغرقى في قاع تايتانيك!