«الأدب الشعبي» يحاكم المحتكرين

سلام الراسي
فتَّش تلميذ من النبطية عن اسم مدينته في كتاب التاريخ فلم يجد لها أي أثر فسأل أباه: "أليس للنبطية تاريخ، أم أن النبطية ليست من لبنان"؟

سلام الراسي (1911-2003) أو “شيخ الأدب الشعبي” كما لُقّب، هو  ابن بلدة إبل السقي في قضاء مرجعيون بجنوب لبنان، يُعد أوّل من كتب في الأدب الشعبي اللبناني وأعلى من شأنه حتى ان كتبه التي ألّفها وانتقى عناوينها من الحكم والامثال الشعبية، لاقت رواجا منقطع النظير وكانت تهيمن حين اصدارها على معارض الكتب فتحقق مبيعاتها المراتب الاولى.

ويقول في كتابه “القيل والقال والنظر في عقول الرجال”  أن «التقاليد والعادات والأمثال والحكايات الشعبية ومصطلحات الكلام سوى قوانين وأشباه قوانين مطبوعة في الذاكرة الشعبية، لا في بطون الكتب، ويكون لها، أحياناً سلطة القوانين المرعيّة وفعاليتها. وقد اكتسبت شرعيتها لأنها كانت نتيجة اختبارات وتجارب كثيرة وهي تتضمّن حكماً وأحكاماً توافق الجميع عليها والتزموا بها، جماعات وأفرادا»ً.

 وفي مقام آخر يقول «تدخل الأمثال الشعبية في حكم القوانين المرعية “ومتى حضر المثل بطل الجدل”. وهي تجري على ألسنة الناس، في مناسباتها، بدون أي عناء أو تكلّف. والأمثال هي خلاصة الحكم الإنسانية المتراكمة من جيل إلى جيل: “من جرَّب المجرَّب كان عقلو مخرَّب”. “ألف أجير يسرق ولا شريك يحاسب”. “مَن اشتغل عندي وأخذ كراه، لا هو شريكي ولا أنا مولاه”. “قتيل العار، لا ديّة ولا ثار”. “عروس على ظهر حمار، عار أكبر عار”. “مطرح ما بترزق إلزق”. “غيِّر بذارك ولو من عند جارك”. “إن حزَّت المحزوزية كل عنزه بتلحق قطيعها”. “تاجر القوت ممقوت”. “قوم بلا عقَّال راحو قطايع، قوم بلا جهَّال حقّهم ضايع”. “إن جنُّوا ربعك عقلك ما بينفعك”. “ألف قلبه ولا غلبه”. “إذا وقع القدر عمِي البصر”. “مِلحو على طرفو يلعن شرفو”. “وجع الظهر: تلتو ختيره وتلتينو قهر”. “لو قِلَّه العقل بتوجه، أكثر الناس بتقضي عمرها بالصريخ”.»

اللبنانيون يقتلون المير “محتكر الطحين”!!

يبدو ان اللبنانيين قبل قرنين من الزمن كانوا أشد وطنية وغيرة على بلدهم من الاجيال الحالية وفيهم من النخوة والشجاعة ما يجعلهم يطبقون القوانين بأنفسهم ويثورون ضدّ المحتكر والفاسد حتى ولو كان حاكمهم واميرهم، وهو ما نجده من عرض أحد الاحداث الجسيمة عام 1842 عندما ثار اهالي جبل لبنان على الامير بشير الثالث وقتلوه بعد ان لقبوه بـ”أبو طحين” لأنه يحتكر الطحين في زمن القحط.

فيقول الراسي « كانت هنالك قوانين شعبية اقتضتها ظروف الناس المعيشية والاجتماعية، وصارت الآن منسية مثل: “بالمطحنة والخان كل الناس إخوان”.

 كان الأمير بشير شهاب الثالث يملك عدة مطاحن فسمّاه مواطنوه “بشير بوطحين”

في القرن الماضي وما قبله كان الأمراء وكبار الإقطاعيين يملكون المطاحن، لأنها كانت من أهم موارد الرزق ولذلك قيل “المطحنة مزراب ذهب”. وكان على أصحاب المطاحن أن يؤمّنوا حراسة المطاحن وحماية الطرق المؤدية إليها، ومنها.

وكان الأمير بشير شهاب الثالث يملك عدة مطاحن، فسمّاه مواطنوه “بشير بوطحين”، وما لبثوا أن ثاروا عليه وقتلوه لأنه كان يحتكر الطحين.

ويصف رستم باز في مذكّراته خبر مقتل بشير بوطحين، فيقول حرفياً: “ونكزه واحد بالبارودة في دبره قائلاً له: “إلى الطاحون إذهب!!”.

الحرب الأهلية: قاتل أو مقتول أو حرامي!!

ويذكر في كتاب “القيل والقال..” لقاء للأديب الراسي مع الرئيس تقي الدين الصلح تساءل قائلاً: “قد يستطيع المسلّحون المتحاربون الذين دمّروا مدينتنا البريئة أن يبرّروا عملهم بأسباب سياسية أو طائفية أو استراتيجية، ولكن من ذا الذي يستطيع أن يبرّر أو يفسّر لنا أعمال النهب والسرقة بالجملة والمفرّق التي طاولت فنادق المدينة ومصارفها ومتاجرها وعنابرها العامة والخاصة”!؟

فأجبت على تساؤل الرئيس الصلح بردّة من الزجل منسوبة إلى الخوري يوسف عون، قال:

سَلَّح إبنك يا مهبول               وإقرأ فعل الندامه

بيصير قاتل أو مقتول           إبنكْ.. يَمَّا حرامي

وكان النائب والوزير السابق علي بزي يتغنى في مجالسه بأبيات من الزجل لشاعر جنوبي، في هذا الموضوع، منها قوله:

“لبناني” واضعْ قانونْ          بيصونْ حقوق الإنسانْ

والإنسان اللبناني                 ببلادو، مْبهدلْ مِنهانْ

بدنا نعرف هالقانون             بيعرف شو صار بلبنانْ

أو ناسي! أو متناسي!            إنو اللبناني إنسانْ

تاريخ لبنان.. أي لبنان!

 ويقول : كان كتاب “لبنان في التاريخ” للدكتور فيليب حتى المطبوع سنة 1959 أحد المراجع التاريخية المعتمدة في بعض المدارس الثانوية في لبنان حين فتَّش تلميذ من النبطية عن اسم مدينته في الكتاب فلم يجد لها أي أثر. في حين وجد اسم جزين في تسعة أماكن واسم دير القمر في واحد وعشرين مكاناً. فسأل التلميذ أباه: “أليس للنبطية تاريخ، أم أن النبطية ليست من لبنان”؟

ولما لم يحظ التلميذ بجواب من والده لذلك وجّه سؤاله إليّ، فتصفحت كتاب “لبنان في التاريخ” ووجدت أن مؤلّفه يعترف في مقدمة كتابه بأنه يؤرّخ للأحداث التي حدثت عبر العصور في البقعة التي “نعرفها الآن بالجمهورية اللبنانية”، ومع ذلك فهو لا يذكر شيئاً عن النبطية وبنت جبيل وجديدة مرجعيون في الجنوب، ولا عن حلبا وسير الضنية في الشمال مثلاً.

النبطية  لم تذكر  في كتاب “لبنان في التاريخ” رغم انها مسقط المؤرّخ محمد جابر آل صفا

ولما كان الدكتور أنيس فريحة هو مترجم “كتاب لبنان في التاريخ عن الإنكليزية”، الذي أعيد طبعه مؤخراً وصار اسمه “تاريخ لبنان”، لذلك سألته يوماً عن سبب المفارقة في مفهوم الكتاب وفي اسمه وفي مضمونه، ولماذا كانت النبطية مثلاً، خارج كتاب “لبنان في التاريخ” وبقيت كذلك في كتاب “تاريخ لبنان”. مع أن النبطية هي مسقط المؤرّخ محمد جابر آل صفا، بالإضافة إلى الشيخ أحمد رضا والشيخ سليمان ظاهر وحسن كامل الصباح.

ففكّر الدكتور فريحة قليلاً ثم أجاب بردّة من الزجل كانت ما زالت عالقة في ذاكرته منذ حداثته، وهي تفسّر مفهوم لبنان التاريخي في ذلك الزمان، قال:

لبنان حدودو “بْتدِّين”            ودير القمر وبعقلين

والمختاره وعن تراز            والباقي مشْ محسوبين!!

النبطية الفوقا والنبطية التحتا

ويقول: كنت يوماً في قطر حيث التقيت رجلاً لبنانياً سألته من أي بلدة هو، قال: “من النبطية الفوقا”.

قلت: “ولماذا جعلتم بلدتكم النبطية، نبطيّتين، وكان يجب أن تكون نبطية واحدة”؟

أجاب الرجل بردّة من الزجل الخفيف، قال:

الله يسامح الشيخين               عِملو النبطيهْ تنينْ

التحتا للعلمْ وللدينْ                والفوقا لغراب البينْ

وكلمة “الشيخين” هي لقب يُطلق على الشيخين أحمد رضا وسليمان ظاهر من علماء النبطية التحتا اللذين كانا من أشهر رجال العلم والدين في مطالع القرن الحالي، وتُنسب إليهما مآثر وطنية وإصلاحيّة جمَّة، ولذلك أراد ناظم هذه الردة أن ينسب إليهما جعل النبطية التحتا مركز علم ودين، على حساب النبطية الفوقا التي كانت مدرستها “النورية” منارة العلم والدين في القرن الماضي، وفيها تلقى العلم العلاّمتان الشيخ أحمد رضا والشيخ سليمان ظاهر.

ثم إن ازدهار النبطية التحتا لا يعود إلى العلم والدين فحسب، بل إلى التجارة والإدارة.

ويذكر محمد جابر آل صفا في “تاريخ جبل عامل” أن حمدي باشا والي سوريا مرّ في النبطية التحتا سنة 1883 بطريقه إلى الشام ورأى سوق البلدة حيث كان يجتمع فيه المئات من القرى المجاورة للتجارة، وقد أُعجب بموقع البلدة وحركتها التجارية فجعلها قائمقامية واختار لها رضا الصلح الذي وصفه محمد جابر بأنه كان عالي الهمة يتلهب غيرة ورغبة بالإصلاح وإنهاض البلاد، وهو الذي بنى دار الحكومة وأسس في النبطية أوّل مدرسة لتعليم الناشئة على النهج العصري، وكان يتعهدها بنفسه فكانت أساس النهضة العلمية في جبل عامل. والكلام لمحمد جابر آل صفا في تاريخ جبل عامل.

(مجلة شؤون جنوبية – العدد 181 – خريف 2021)

السابق
الموت يغيب الصوري العالمي سعيد الأشقر.. مطوع الحجارة وألالوان! 
التالي
المخرجة الفلسطينية اللبنانية مي المصري.. «3000 ليلة» تُحرك الصورة والجرح والمعاناة!