قراءة في مظاهرات كازاخستان بين العوامل الداخلية والخارجية

كازاخستان

جاء اندلاع المظاهرات الشعبية الغاضبة في كازاخستان مفاجئاً ولو نسبياً قياساً إلى الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي والاجتماعي الذي عاشته أكبر وأغنى جمهورية مسلمة في آسيا الوسطى.

هذا، فضلاً عن السياسة الخارجية المتوازنة التي اتبعتها بين روسيا وأمريكا والصين ثم تركيا بوصفها دولة صاعدة لا غنى عنها إقليمياً ودولياً.

كازاخستان جوهرة آسيا الوسطى

بداية لا بد من الإشارة إلى أن كازاخستان أكبر دول آسيا الوسطى وأغناها، ويبلغ عدد سكانها قرابة 19 مليون نسمة، وغنية بمواردها وثرواتها الطبيعية الهائلة تحديداً منها النفط والغاز واليورانيوم والمعادن النفيسة مثل الكروم والمنغنيز والرصاص والزنك، إضافة إلى اكتفاء ذاتي في قطاع الزراعة والمواد الغذائية، بل تصدير الفائض إلى الخارج.

حكمها الرئيس نور سلطان نزارباييف بقبضة حديدية منذ استقلالها عن الاتحاد السوفييتي لمدة 30 سنة تقريباً، قبل أن يسلم السلطة تحت ضغط الاحتجاجات الشعبية إلى خلفه الرئيس الحالي قاسم توكاييف، ولكن مع احتفاظه بمنصب رئيس مجلس الأمن القومي وتحكّم أفراد أسرته ومقربين منه بمناصب مفصلية وحساسة في المنظومة الأمنية والاقتصادية والإعلامية ما جعله يبدو وكأنه الحاكم الفعلي للبلاد.

نور باييف، وعلى عكس ما يعتقد كثيرون اتبع سياسة خارجية متوازنة جداً، إذ كان عضواً مؤسساً في منظمة معاهدة الأمن الجماعي (1992) مع روسيا وجمهوريات سوفيتية سابقة طمعاً في إرضاء موسكو وحتى اتقاء شرّها، ولكن دون إعطائها تسهيلات أو امتياز إقامة قواعد عسكرية على أراضي البلاد، كما كان عضواً مؤسساً أيضاً في معاهدة شنغهاي مع الصين واعتبار بلاده مفصلاً مهماً في طريق الحرير العالمي. وأقام كذلك علاقات جيدة مع أمريكا والغرب عموماً.

ثم كان عضواً مؤسسساً في المجلس التركي ذي الطابع الثقافي والاقتصادي والذي يضم الدول الناطقة باللغة التركية، وتحوّل فيما بعد إلى “منظمة الدول التركية” وقاد بالطبع الانفتاح تجاه تركيا وتقوية العلاقات معها باعتبارها قوة شقيقة صاعدة إقليمياً ودولياً، وهي بالمناسبة نفس السياسة الخارجية المتوازنة التي حافظ عليها خلفه الرئيس الحالي قاسم توكاييف.

في هذا الجانب يعرف كثيرون أيضاً عن استضافة العاصمة آستانة، قبل أن تتحول إلى “نور سلطان”، اجتماعات المجموعة التي سميت باسمها وتضم روسيا وتركيا زائد إيران المعنية بالقضية السورية، والتي تجتمع بانتظام بحضور وفدي النظام والمعارضة والدول الضامنة. كما قادت كازاخستان وعبر نزارباييف شخصياً الوساطة الناجحة بين تركيا وروسيا والتي أدت إلى تجاوز أزمة إسقاط الطائرة الروسية في سوريا أواخر العام 2015.

لا شك أيضاً أن نزارباييف قاد البلاد بشكل أحادي فكمّم أي أصوات معارضة له وبقي في السلطة لعقود عبر انتخابات متعاقبة حاز فيها العلامة الكاملة تقريباً، إضافة إلى نقله العاصمة من الحاضرة الاقتصادية التاريخية ألماتي إلى آستانة التي سمّيت باسمه فيما بعد باعتباره الزعيم القائد المؤسس.

إرتفاع أسعار الغاز يشعل المظاهرات

وبالعودة إلى المظاهرات التي انفجرت الأحد 2 يناير/كانون الثاني، فقد جاءت ردّاً مباشراً على ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي المُسال الذي يستخدم كوقود للسيارات وشابها أعمال عنف ونهب واقتحام مبانٍ ومؤسسات عامة بما فيها مطار ألماتي ومقرات الحكومة مع استخدام الشرطة والأجهزة الأمنية القوة المفرطة في مواجهتها.

وبدت المظاهرات عموماً وكأنها انفجار ضد النظام ورمزه الاعتباري نور باييف باعتباره القائد الفعلي، كما ضد الطبقة الحاكمة المحيطة به والمؤتمِرة بأمره بمن فيهم الرئيس توكاييف والتي عجزت عن نقل البلاد إلى مستوى اقتصادي واجتماعي يتلاءم مع ثرواتها ومواردها الطبيعية تحديداً فيما يخص قطاع الطاقة والمعادن.

في هذا السياق تجب الإشارة إلى أن مليون مواطن كازاخي يرزحون تحت خط الفقر، كما لامس التضخم حدود العشرة بالمائة هذا العام مع تراجع اقتصادي عائد إلى الإدارة السيئة، كما الأزمات العالمية وتعثر سلاسل التوريد الناجمة عن جائحة كورونا المستمرة منذ عامين تقريباً.

اقرأ أيضاً: كازاخستان.. كوة في الجدار العازل الروسي

وفي كل الأحوال وفي قصة التظاهرات يجب التمييز بين ثلاثة أمور، انفجارها بحد ذاته كرد طبيعي تجاه النخبة الحاكمة والأحوال الاقتصادية والاجتماعية السيئة، إضافة إلى تعاطي السلطات معها والعوامل والتأثيرات الخارجية المحتملة فيها.

ورغم استقالة أو للدقة إقالة نزارباييف من مجلس الأمن القومي، كما مسؤولين أمنيين مقربين منه وحتى إقالة الحكومة نفسها، والتراجع عن رفع الأسعار إلا أن التعاطي العام مع المظاهرات جاء أمنياً بامتياز مع وصم المتظاهرين بالإرهاب، وإعطاء تعليمات بإطلاق النار عليهم دون تردد ثم توصيف ما جرى بأنه محاولة انقلاب فاشلة حسبما جاء حرفياً على لسان توكاييف.

جرت الاستعانة بقوات من منظمة معاهدة الأمن الجماعي التي تقودها روسيا، وقيل أنها لحماية المؤسسات العامة وحفظ السلام. من ناحية أخرى لقت جدولة انسحاب هذه القوات خلال الأيام القادمة ارتياحاً وترتيباً دولياً.

في السياق الخارجي لا شك أن دول عدة سعت لاستغلال الأحداث لصالحها إذ رأتها روسيا فرصة لاستعادة نفوذها وعدم انتقال الثورات الملونة المدعومة غربياً إلى فنائها الخلفي، كما قال حرفياً الرئيس بوتين الاثنين أيضاً.

بينما رأتها أمريكا وآلتها الإعلامية الضخمة فرصة لاستنزاف روسيا وإلهائها بعيداً عن أوكرانيا وأوروبا وحدود الناتو.

وهنا بدا لافتاً جداً تحذير وزير الخارجية بلينكن من وجود القوات الروسية وصعوبة انسحابها من المناطق التي تتدخل فيها، مع زيادة الضغوط السياسية والإعلامية على القيادة الكازاخية بهذا الصدد.

ومن هنا يمكن فهم رد الرئيس توكاييف وتأكيده على انسحاب القوات الروسية قريباً وبمجرد الانتهاء من مهامها وعودة الاستقرار والأمن إلى البلاد. والتي جرى تحديدها بعشرة أيام كما ذكرنا سلفاً.

تركيا تدعم الاستقرار في كازاخستان

كما العادة جاء رد الفعل العقلاني والمسؤول من تركيا إذ بادر الرئيس رجب طيب أردوغان إلى الاتصال بنظيره توكاييف وإبداء الاستعداد للمساعدة ودعوة منظمة العالم التركي للانعقاد، مع دعوات لإعطائها دوراً أكبر لمساعدة البلد الشقيق على تجاوز أزمته. وبالفعل تم عقد اجتماع لوزراء خارجية المنظمة والتي دعمت كازاخستان وضرورة تحقيق الاستقرار فيها.

وعموماً يفترض أن يكون دوراً مهماً لتركيا والمنظمة في ظل حديث وسائل إعلام محلية عن أصابع لمنظمة فتح الله كولن في أعمال العنف، إضافة إلى أن لا إمكانية لتقديم روسيا شيئاً بهذا الخصوص باستثناء الحضور العسكري، وقياساً إلى ثروات وإمكانيات البلاد، والجشع الغربي النفطي المعتاد تبدو تركيا وحدها قادرة على المساهمة في حل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية المتعلقة بتحديث البنى التحتية والخدمات فيما تمثل الأحداث الأخيرة فرصة أيضاً لمنظمة الدول التركية لتكريس حضورها السياسي أيضاً، وتجاوز الجانب الثقافى والاقتصادي والاجتماعي الذي طبع عملها منذ تأسيسها، وبالتأكيد فإن إعلان السلطات الكازاخية انتهاء المظاهرات رغم سقوط مئات الضحايا وآلاف المعتقلين لا يجب أن يحجب ضرورة استخلاص العبر وحتمية تنفيذ إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية وإلا ستبقى النار تحت الرماد دائماً.

السابق
«يونيفيل» بين ضغوط سكان الجنوب..ومخاوف حرمانها من «الحركة»!
التالي
بالفيديو: «مقاوم» جائع يُوبّخ «المنار» على هوائها.. ويسخر: «حلاقة» الذقن حرام والجوع حلال؟