كازاخستان.. كوة في الجدار العازل الروسي

مصطفى فحص

في الظاهر قد تكون موسكو والحكومة الكازاخية قد نجحا في إعادة فرض الاستقرار، لكن ليس كليا، فما حصل في كازاخستان لن تتوقف ارتداداته الداخلية والخارجية (دول الجوار) بسهولة، لكن الأخطر بالنسبة لموسكو أن كازاخستان قد وقعت بالمحظور، وكل محاولاتها إبعاد كابوس الثورة الملونة عن فضائها الإسلامي في الجنوب فشلت.

في 15 سبتمبر 2015، قطعت موسكو مسافة 3466 كلم (المسافة بين العاصمة الروسية موسكو والسورية دمشق) لتضع حدا لما وصفته بالفوضى المنظمة التي يقودها الغرب لزعزعة استقرار الأنظمة السياسية، وقد بررت النخب السياسية والثقافية الروسية موقف الكرملين السلبي من الثورات الملونة والربيع العربي، بأنها إذا نجحت في سوريا ستصل إلى إيران ومنها ستنتقل إلى دول آسيا الوسطى وعندها ستكون على أبواب موسكو.

لذلك في أحداث كازاخستان تواجه موسكو تهديدا مباشرا يختلف حتى عما تواجهه في أوكرانيا وجورجيا، يدفعها إلى التحرك دون أي اعتبارات دولية أو إقليمية ليس فقط لحماية حديقتها الخلفية، بل أن شروط الجغرافيا والديمغرافيا في آسيا الوسطى تجبرها على ضرورة الحسم السريع قبل أن تنتقل هذه العدوى إلى دول أخرى، يبدو أن ما في باطنها يختلف عما في ظاهرها، ولكن تحتاج إلى مبرر للانفجار.

تبلغ المسافة بين العاصمة موسكو والعاصمة الكازاخية نور سلطان 2773 كلم، وحدود مشتركة تصل إلى 7600 كلم إضافة إلى 3.5 مليون مواطن من أصول روسية، عوامل تدفع موسكو إلى تذكير المجتمع الدولي وخصوصا الناتو الذي بات يحفر خنادقه على حدودها مع أوكرانيا أن ما حصل في جورجيا 2003 وأوكرانيا 2004 لن يتكرر، وأن عودة موسكو إلى الفضاء السوفياتي تجبرها على تكرار مشهد بودابست 1956 وربيع براغ 1968، وهي مستعدة لإرسال جنودها للقيام بعملية قمع قاسية تحت حجة مكافحة الإرهاب.

رسالة كازاخستان تكشف زيف الاستقرار الذي روجت له حكومات آسيا الوسطى بالتواطؤ مع موسكو، فهذه الدولة التي يرزح مواطنوها تحت سلطة استبداد كاملة كما في كازاخستان البلد الأغنى بين هذه الجمهوريات، إلا أن سوء توزيع الثروة وسيطرة طبقة معينة على الموارد والفساد المستشري والهوة الطبقية ما بين أقلية صغيرة فاحشة الثراء تعيش في المدن الرئيسية وأغلبية مطلقة من الفقراء تعيش على موارد قليلة، وانعدام الحياة السياسية أدى إلى رد فعل عنيف وسريع، كاد أن يسقط النظام في أول استحقاق اقتصادي تواجهه الحكومة الكازاخية، والذي تحول مباشرة من انتفاضة معيشية إلى ثورة سياسية.

بالنسبة لصناع القرار الروسي، فإن أحداث كازاخستان سمحت لموسكو بجلب القيادة الكازاخية إلى بيت الطاعة الروسية الكاملة، والحد من  المناورة مع الصين وتركيا والغرب، وإنهاء لعبة التوازن في المصالح، ففرصة الاستنجاد الرسمي بروسيا وتحرك القوات تحت غطاء قوات حفظ السلام التابعة لدول معاهدة الأمن الجماعي التي تتألف من (روسيا، أرمينيا، كازخستان، وقرغيزستان، طاجكستان، أوزبكستان)، ما يمنح شرعية إقليمية للنفوذ الروسي في آسيا الوسطى ورسالة للأصدقاء قبل الأعداء بأن هامش المناورة قد تقلص وأن قرار الحسم يعود فقط لموسكو القادرة على تحريك قواتها دون أي اعتبارات إقليمية أو دولية.

من كييف إلى نور سلطان أو استانا سابقا، يتوسع حجم القلق الروسي على عواصم كانت تعتبر في عقلية الأمن القومي الروسي خط الدفاع الأول عن روسيا، وهي الآن إما باتت خارج فضاء نفوذها أو مرشحة إلى مزيد من الفوضى، الأمر الذي يجبر موسكو على اتخاذ تدابير تزيد من أعبائها السياسية والاقتصادية.

وبناء عليه، هروب موسكو منذ سنوات إلى الأمام حماية لنظامها ومنعا لانتقال العدوى إلى المدن الروسية باءت بالفشل، فالكوة التي فتحت في جدار موسكو العازل قابلة للاتساع ولن يكون أكثر قسوة وسماكة من جدار برلين.

السابق
انهيار تاريخي.. الدولار «طبش» الـ 32 الفاً!
التالي
خبراء يشخصون لـ«جنوبية» حالة جنون الدولار.. «فالج لا تعالج»!