سؤال ذكرى الاستقلال لسنة 2021: كيف يمكن للبنانيين ان يتعاملوا مع معضلة «حزب الله»؟

غسان صليبي

في ذكرى استقلال لبنان يهجس معظم اللبنانيين بأمر واحد، هو الاستقلال عن لبنان. هجرةً، هربًا في المراكب غير الشرعية او طلبًا للجوء في المطارات.

لا يختلف اثنان في لبنان على أن الاستقلال مفقود، حتى ولو اختلفوا على اشياء كثيرة. مؤشرات التبعية الاقتصادية صارخة: تأثير الدولار على سعر العملة الوطنية والأسعار نتيجة الحجم الكبير للاستيراد وضعف الإنتاج المحلي، فضلا عن المضاربات المالية؛ الاعتماد شبه الكامل على المساعدات الخارجية في معالجة الازمات؛ ناهيك عن الرعب المعيشي والاقتصادي الذي ولّدته الأزمة مع بلدان الخليج العربي، وغيرها من المؤشرات.

التبعية السياسية لا تقل وطأة. فإذا كان التأثير الاميركي والفرنسي يأخذ في الإجمال طابعا “ديبلوماسيا”، فإن التأثير الإيراني عبر “حزب الله”، على السياسات الخارجية والداخلية، أصبح فاضحًا، ولم يعد يحتاج أصحابه إلى إخفائه. مما جعل البعض يتكلم عن “الاحتلال الايراني”، لوصف الهيمنة الايرانية، رغم غياب الجيش الإيراني عن الأراضي اللبنانية. لكن مسؤولين إيرانيين تبجحوا تكرارا أن دولتهم تسيطر على اربع عواصم عربية من بينها بيروت وأن لهم جيوشًا في خدمتهم في البلدان الأربعة.

فضّل البعض الآخر اعتبار هيمنة “حزب الله” “احتلالا داخليا”، بواسطة السلاح والمال الإيراني. وإذا سلّمنا بوجود “دويلة”، داخل الدولة، يحكمها “حزب الله” ويسيطر من خلالها على البلاد ككل، أصبح أكثر مشروعية الكلام على ما يشبه “احتلال” دولة لدولة أخرى.

تختلف ممارسات الاحتلالات بعضها عن البعض الآخر وتختلف معها التعريفات المعتمدة. غير أنها تشترك بأربعة امور على الاقل. الأمر الأول هو انها ذات طابع خارجي بالنسبة للبلد المُحتَلّ. الثاني هو أنها تَحِلّ على البلد ضد إرادة شعبه. الأمر الثالث هو احتكار المحتل لاستخدام القوة العسكرية عبر السيطرة على القوة العسكرية في البلد المحتل، واستخدام قوته الذاتية بشكل أساسي. احتكار استخدام القوة العسكرية، هي الصفة الأولى في تعريف الدولة. وسلب الاحتلال هذا الاحتكار من يد الدولة، هو شرط لاستتباعها أو إلغاء سلطتها.

الأمر الرابع هو تعطيل تطبيق الدستور والقوانين، واستبدالها بإجراءات يقرها المحتل. فإذا كان احتكار المحتل لإستخدام القوة العسكرية يهدف إلى احتلال الدولة، فإن تعطيل الدستور والقوانين، يهدف إلى احتلال المجتمع. ففي اساس منطق احتكار الدولة لاستخدام القوة، هو تنظيم العلاقات المجتمعية بحسب القانون وبعيدا من العنف. لذلك يعمد الاحتلال الى ضرب المعادلة بطرفيها، ليستطيع أن يحكم غصبا عن إرادة الدولة والشعب، الواقعَين تحت الاحتلال. 
تطور الواقع في لبنان يشير إلى الاتجاه نحو إلغاء المعادلة المذكورة اعلاه، بحيث يصبح الأمر أشبه بواقع احتلال. ففضلا عن شعور معظم اللبنانيين بأن سلاح “حزب الله” بات مفروضا عليهم بالقوة، يرفض “الحزب” من جهة احتكار الدولة لاستخدام السلاح، وينشئ في المقابل جيشا ضخما يفوق الجيش اللبناني عددا وعدة، متصديا لمحاولات دمج الجيشين في اطار استراتيجيا دفاعية واحدة تقرها الدولة.

من جهة ثانية يرفض “حزب الله” الانصياع للقانون اللبناني، في مجالات عدة، وآخرها واخطرها، في جريمة انفجار المرفأ حيث لجأ إلى تهديد القاضي البيطار معطلا عمل الحكومة الى حين النجاح في تنحيته. وقد اكتسبت المعركة معنىً اشمل، مع قول نعيم قاسم، نائب الامين العام لـ”الحزب”، أن “المنظومة القضائية” بأكملها، بحاجة إلى تغيير. 

لا اعتبر “حزب الله” قوة احتلال، كما يرى البعض، رغم تشابه ممارساته مع قوى الاحتلال بشكل عام، ورغم رفع عدد من مجموعات الانتفاضة ثلاثية “شعب، جيش، قضاء” في ذكرى الاستقلال، وكشعار لها للعرض المدني في ذكرى الاستقلال. فالثلاثية المرفوعة تبدو بوضوح وكأنها ردٌّ على ثلاثية “شعب، جيش، مقاومة” التي يرفعها “حزب الله” مما يجعل هذا الاخير مستهدَفا رئيسيا في ذكرى الاستقلال المفقود.

“حزب الله” حزب لبناني ذو قاعدة شيعية واسعة وليس عاملا خارجيا على البلد. قد تكون له “دوافع احتلالية”، اذا كان فعلا يعمل لإنشاء دولة اسلامية في لبنان، تابعة لإيران، كما توقع باكرا وضّاح شرارة في كتابه، “دولة حزب الله، لبنان دولة اسلامية”، الصادر عن دار “النهار”. إذا استثنينا هذا الاحتمال، إن تكوين “حزب الله” بحد ذاته، لا يمكن ان تنتج منه الا “نوازع احتلالية”. و”النزعة” بالمقارنة مع “الدافع”، هي توجه فطري نابع من طبيعة الشيء، وليست محض إرادية.

فـ”حزب الله” تنظيم عسكري ذو وظيفة عسكرية إقليمية مرتبطة بسياسات إيران في المنطقة. وهذه الصفة العسكرية الإقليمية تصطدم حكما بوظيفة الدولة اللبنانية كصاحبة الحق الحصري في استخدام العنف على أراضيها.

و”حزب الله” تنظيم سياسي يتبع عقيدة ولاية الفقيه، التي تتعارض مع مفهوم النظام السياسي اللبناني الديموقراطي البرلماني، القائم على مبدأ أن الشعب هو مصدر السلطات وليس شخصا محددا.

و”حزب الله” تنظيم ديني اصولي، تتعارض ثقافته مع الثقافات المتعددة في المجتمع اللبناني، مما ينعكس على القيم والعادات والقوانين.

و”حزب الله” تنظيم مموّل كليا من ايران، بإعتراف امينه العام، مما يخلق اقتصادا موازيا ومنافسا وقليل الاندماج بالاقتصاد اللبناني. وهذا ما تمظهر بشكل جليّ في أيامنا هذه.

هذه العناصر الأربعة لتنظيم “حزب الله” تغذي “نزعات احتلالية” لديه، وتتسبب بصدامات مع الواقع اللبناني بجوانبه كافة. يتكلم البعض عن ضرورة “لبننة” “حزب الله” لتفادي هذه الصدامات. بمعنى آخر أن “استقلال” خصائص “حزب الله” عن الخصائص اللبنانية، هو أكثر ما يهدد حاليا الاستقلال اللبناني، حتى ولو لم يكن “حزب الله” قوة احتلال.

من الخطأ التعامل مع “حزب الله” كـ”مشكلة” مستقلة عن مواقف أكثرية الشيعة في لبنان. ولا يكفي للاسف لتجاوز المشكلة، تقديم البراهين ان “حزب الله لا يشبه لبنان… ولا شيعته”، كما عنون الصديق حارث سليمان مقالته المنشورة في نشرة “جنوبية”.

في مقالٍ لي في “النهار”، بعد أشهر قليلة من بدء انتفاضة 17 تشرين سنة 2019، تساءلت: “هل نحن أمام مسألة شيعية في لبنان؟”. الدافع للتساؤل في حينه كان ملاحظة خصوصيتين “شيعيتين”. الأولى هي استمرار تماسك الطائفة الشيعية كوحدة مجتمعية خلال الانتخابات الأخيرة التي جرت على أساس قانون انتخابي نسبي فسّخ وحدة جميع الطوائف الأخرى. الثانية هي تمايز معظم المواطنين في الطائفة الشيعية في موقفها من الانتفاضة اللبنانية بالمقارنة مع الطوائف الاخرى: ضعف المشاركة الشعبية الشيعية واقتصارها على أقلية ناشطة وفاعلة تعرضت للقمع في المناطق التي تحركت فيها؛ تصدر القيادات الشيعية للجهات المعارضة للانتفاضة؛ تعدي شباب الثنائية الشيعية على شباب الانتفاضة؛ وأخطر من كل ذلك، إطلاق هتاف “شيعة شيعة شيعة”، في وقت كانت الجماهير الشعبية من الطوائف الأخرى، تكاد تخجل من التصريح عن انتماءاتها المذهبية.

من الملاحظ أنه بالنسبة لمعظم الشيعة اللبنانيين، تحول سلاح “حزب الله” إلى قضية مذهبية، تجعلهم يعتقدون أن حقوقهم المنتقصة تاريخيا والمستعادة حديثا بسبب دعم السلاح، لن يضمن استمرارها الا السلاح. وبتعبير فج، كأن المواطن الشيعي لم يعد يثق بالعيش مع المواطن اللبناني الآخر، بدون أن يكون حاملا للسلاح.

لا أرى أي إمكان لنضج المسألة الوطنية اللبنانية، وتاليا لمعالجة معضلة الاستقلال في هذه الحقبة التاريخية، بدون معالجة وطنية، وأكرر معالجة وطنية، لـ”المسألة الشيعية” في لبنان. مع إقراري بالطبع بالبعد الإقليمي لهذه المسألة. والدور الكبير في ذلك، هو للاقلية الشيعية الشجاعة والمعارضة في آن واحد لـ”حزب الله” ولأركان السلطة الآخرين.

في زياراتي للجنوب كنت اسأل عن أصحاب المنازل الجديدة الكثيرة التى كنت اراها، وما إذا كانت لمغتربين شيعة. وكان الجواب بالإيجاب، مع هذه الاضافة، أن الجنوبيين الشيعة راحوا يبنون منازل جديدة بعد أن إطمأنوا أن إسرائيل لن تهدمها أو لن تزعزع اساساتها بتحليق طيرانها، كما كانت تفعل دائما، لأنه بات هناك من يردعها. وهذا من الاسباب المهمة التي تجعل الجنوبيين الشيعة يشعرون بالإمتنان العميق لـ”حزب الله”.

هذه الإضافة وغيرها من أصدقاء شيعة معارضين لـ”حزب الله”، جعلتني أتأكد أكثر أن لا بديل من “حزب الله” سوى بدولة عادلة وقوية قادرة على حماية شعبها الجنوبي من إعتداءات إسرائيل. وهنا اجدني التقي مع ما يردده “حزب الله” واتباعه عن سبب احتفاظه بسلاحه في ظل دولة مترهلة متخاذلة. مع هذا الفارق، انه حين حاول معظم الشعب اللبناني إطاحة أركان هذه الدولة المشكو منها، وبناء دولة مدنية وعادلة تحمي شعبها وتؤمن له حقوقه، وقف “حزب الله” بقوة في وجه هذه المحاولة الشعبية التاريخية العظيمة. وهو يكون بذلك قد وقف في وجه إرادة شعبه كله، بمن فيه شيعة الجنوب، التواقون منذ زمن بعيد، للعيش بكرامة في حضن دولة تدافع عن حدودها وشعبها.

21 تشرين الثاني عيد ميلاد فيروز.

22 تشرين الثاني ذكرى استقلال “لبنان فيروز”.

كيف نصالح “حزب الله” مع فيروز التي يمنع أعضاءه من الاستماع اليها؟

السابق
جائزة «فولتير» لدار نشر لقمان سليم.. شجاعة مثالية في التعبير عن الرأي!
التالي
ضحية جديدة على طرقات لبنان.. حادث مروع يودي بحياة شاب!