وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: أميركا ربحت وأفغانستان خسرت

وجيه قانصو
يخص المفكر والباحث والأكاديمي الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته الإلكترونية.

انسحب الأمريكيون من أفغانستان، كانت الفرحة تغمر جنودهم، وكان الرأي العام الأمريكي مرتاحاً لعودة أبناءهم سالمين، ولأنهم وفروا الكثير من مالهم الضريبي.  كان الإنسحاب من أفغانستان مطلباً شعبياً في الولايات المتحدة منذ مدة بعيدة، وأصبح شعار الإنسحاب مربحاً في الانتخابات.  خرج الأمريكيون بثقة كاملة أن مهمتهم قد أنجزت، وهو تأمين ضرورات أمنهم القومي، وضمنوا لأنفسهم انسحاباً واثقاً، لا انهزام عسكري فيه ولا انكسار، بل أجبروا طالبان إجراء تحولات ذاتية، والإلتزام بشروط سياسية ونمط أداء مستقبلي مقابل دخولها  كابل.

اقرأ أيضا: وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: أفغانستان.. إحيائية براغماتية جديدة

هي شروط بدت طالبان ملتزمة بها بحذافيرها، رغم أن تفاصيل هذه الشروط لم يعلن عنها بعد، إلا أن تغيراً وتحولاُ نوعياً في خطاب وأداء طالبان بدأ يظهر، لا بسبب أنها إجرت مراجعات ذاتية، بل بسبب أن ذلك جزء من صفقة سياسية، التزمتها تجاه المعسكر الغربي. هو تحول سياسي براغماتي، وليس تحولاً أيديولوجيا أو فكرياً.  

كان الإنسحاب من أفغانستان مطلباً شعبياً في الولايات المتحدة منذ مدة بعيدة وأصبح شعار الإنسحاب مربحاً في الانتخابات

 الخاسر الوحيد في هذا كله هو الشعب الأفغاني، الذي تنعَّم على مدى عشرين عاماً من الوجود الأمريكي، بفسحة حرية واسعة، تجلت بتعدد منابر التعبير الصحافي والثقافي، وبمظاهر الفرح والفن والتنافس الانتخابي، وظهور الأحزاب السياسية، إضافة إلى اكتساب المرأة حقها في التعلم، وعودتها ككائن فاعل وناشط في الحياة العامة. هذا فضلا عن الوفرة المالية النسبية، التي كان يضخها الوجود الغربي، بالقياس إلى فترة الحكم الطالباني.

الخاسر الوحيد في هذا كله هو الشعب الأفغاني الذي تنعَّم على مدى عشرين عاماً من الوجود الأمريكي بفسحة حرية واسعة

كل ذلك بات الآن بحكم الملغي مع عودة طالبان، التي قد تبدي تساهلاً ظاهرياً، للحؤول دون عزلتها الدولية، إلا أن صرامة أيديولوجية الحاكمية لديها، التي كان أبو الأعلى المودودي أهم مؤسسيها، تقوم على إلغاء أية فاعلية أو ابتكار، أو فسحة نشاط حر في مجال الحياة العامة، لأن ذلك بنظرهم ملحق بحاكمية الله للكون والبشر، بالتالي يكون الفعل السياسي الحر أو المتعدد، وتكون جميع التضامنات العمومية بحد ذاتها، انتهاكاً لهذه الحاكمة واعتداء على سلطانه، وتندرج في خانة الشرك بالله.

اللافت هنا، أن أكثر تحليلات الإعلام العربي، بخاصة الإتجاهات الإسلاموية وأصحاب الخط الممانع، وبقايا اليسار الذي ثبت على عدائه للمعسكر الغربي، انشغلت في تصوير الإنسحاب الأمريكي، هزيمة وانكسار وعلامة أفول للمعسكر الغربي بأسره، وفي إرسال التبريكات إلى طالبان على فتحها المبين. بالمقابل انشغل الإعلام الغربي، وفي مقدمهم قناة CNN  الإخبارية، بتصوير الانسحاب الامريكي انتكاسة أخلاقية، لجهة تخلي الأمريكيين والمعسكر الغربي، عن مسؤوليتهم الأخلاقية في إنجاح التجرية الديمقراطية، وحماية الشعب الافغاني من حكم ما قبل حضاري، ومضاد لكل أوجه المدنية، ومنتهك لأبسط الحقوق، التي باتت بحكم المسلمات والثوابت في عالمنا الحديث، وغاب بالكامل الحديث عن هزيمة أو انتصار الأمريكيين.

الكلام عن الهزيمة أو الانتصار هو تعبيرات أيديولوجية فارغة لم تعد تعني العقل الغربي

ربما لأن الكلام عن الهزيمة أو الانتصار، هو تعبيرات أيديولوجية فارغة لم تعد تعني العقل الغربي، بحكم أن إثبات انتصاره لن يزيده ثقة بنفسه، والقول بهزيمته لن ينقص منها شيئاً. فالذي يعنيه هنا هو بحثه في مكامن خطئه ومكان صوابه، ليتعلم من تجربته ويصوب ويحسن أداءه في المرة القادمة. أما ضجيج الهزيمة والانتصار، فليست إلا لعبة الذين يجيدوا زرع الأوهام والوعي الزائف، داخل بيئة تعاني ما تعانيه من انجراحات وانكسارات، وفشل وتخبط في إدارة واقعها، هي حاجة لها للتعويض عن جرحها النرجسي، الذي لم يتوقف نزيفه، لغرض توليد حالة سيكولوجية باطنية، تحول فيها ضعفها وهشاشتها وتفككها الداخلي ولا عقلانيتها وفقرها وفوضويتها وعبثية منطقها، إلى فضيلة تفاخر بها، وميزة تتفوق بها على خصمها وعدوها المتسلح بحداثته وعقلانيته.  

لماذا فشلت تجربة التحديث والديمقراطية وصيانة الحقوق في أفغانستان؟ 

السؤال الحقيقي الذي لم يطرح حتى الآن، والذي يجب أن يُسأل في المجال الإسلامي والعربي، هو: لماذا فشلت تجربة التحديث والديمقراطية وصيانة الحقوق في أفغانستان، وأكثر البلدان العربية والإسلامية، ونجحت في أماكن متعددة لا حصر لها تواجد فيها الأمريكيون، ابتداءا بألمانيا الغربية بعد الحرب الثانية، واليابان، وكوريا الجنوبية، وكوسوفو والبوسنة، وتايوان، سؤال معني به كل عربي وحتى كل مسلم أكثر من غيره، لأنه يمس وجوده وتفاصيل حياته، ويزيل الأقنعة التي يضعها على وجوهه حين يقف أمام المرآة، فلا يعود يرى في الفشل تفوقاً، ولا في الخرافة ارتقاء روحياً، ولا في بدائية التكوين الاجتماعي صلابة وتكافلاً، مقابل دعوى التفكك الاسري في الغرب، ولا في الاستبداد راحة، ولا في عبادة الأشخاص وتقديسها تقرباً إلى الله. هو سؤال موجه إلى الذات نهرب منه باستمرار، لأنه يفضح الفشل المزمن، والخوف الراسخ من مواجهة السرديات المؤسسة للوعي والمعنى، والعجز عن اجترح واقع منتج قليل التعثر.

لم يدخل الأمريكيون أفغانستان ليبقوا فيها إلى الابد بل لعل عشرين عاماً كانت فترة طويلة نسبياً

لم يدخل الأمريكيون أفغانستان ليبقوا فيها إلى الابد، بل لعل عشرين عاماً كانت فترة طويلة نسبياً. هي فرصة كان على الأفغان أن يستثمروها، ليؤسسوا عقيدة وطنية تضاهي عقيدة طالبان، ويرسخوا معالم دولة حديثة تستبدل بدائية الحكم الطالباني، ويعمقوا تجرية سياسية تشارك فيها جميع مكونات المجتمع الأفغاني، بدل حكم ولي الأمر والطاعة. بيد أن شيئاً من هذا لم يحدث،  بسبب أن لحظة التحول التاريخي لم تأت بعد. هي لحظة تحول، لا يخلقها الامريكيون ولا تأتي لوحدها، بل يخلقها الأفغان، الذين تجنبوا، مجملهم لا كلهم طبعاً، الخوض في هذه المهمة الصعبة والمرهقة، وآثروا ألفة المتكرر، وسكينة الطمأنينة، وراحة التسليم بالقدر.

السابق
علوش ينعى التأليف: ما لم ينجح به أديب والحريري لن ينجح به ميقاتي
التالي
هل من تغيير في أسعار بطاقات التشريج وخدمات الانترنت؟