الاعتكافُ المسيحي..إحتجاجٌ أم إحتجاب؟

بشارة الراعي

منذ أن كُلف نجيب ميقاتي تشكيل الحكومة إثر اعتذار زعيم «تيار المستقبل» سعد الحريري، والسؤال الأكثر تداولاً يتعلق بوضع القوى المسيحية الأساسية في التركيبة الحالية، بسبب تخلّيها عن المشاركة السياسية في صنْع القرار الحكومي، وانسحابها من تأمين غطاء مسيحي واسع للتكليفيْن، وسط اعتقاد أن القضية تتعدى الحكومة، لأن الاصطفافات الحالية تُنْذِر بمشهد انقسامٍ أفقي أقرب إلى الطائفي، بعد أعوام من التموْضع المتقابل بين فريقيْ «8 و14 مارس» اللذين رغم اختلافهما الجذري كانا يجمعان تلاوين طائفية متعددة.

ويعاود هذا المشهد المستجدّ طرْح إشكالية موْقع المسيحيين اليوم في المعادلة الداخلية، خصوصاً بعد انكفاء التسعينات، وعودة متدرجة بعد العام 2005 اعتبرها كل من «التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية»، «قويةً» إلى رئاسة الجمهورية وصوغِ تسويةٍ من موقع الأقوياء.

لكن العاميْن الماضييْن قلبا هذه المعادلة، بعد الاختلافات المسيحية الداخلية، واحتجاجات 17 أكتوبر 2019 ومن ثم انفجار المرفأ (4 اغسطس 2020)، وانهيار الليرة اللبنانية، والشلل الحكومي المتعاقب الذي ساهم أكثر في تعميق الأزمة الشاملة في البلاد.

تمثّل القوى المسيحية الأساسية، «التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية» وحزب «الكتائب» وتيار «المردة»، الأكثريةَ المسيحيةَ النيابية والسياسية. لكن «الكتائب» انسحب من البرلمان وقدّم نوابُه استقالاتهم عقب انفجار المرفأ، ما ترك ثلاثة أحزاب، بينها تيار المردة برئاسة سليمان فرنجية الذي يُعدّ حليف «حزب الله» والرئيس نبيه بري، وتالياً كان مُشارِكاً أساسياً في عملية الموافقة على تكليف الحريري، وأخيراً تكليف ميقاتي الذي تربطه به علاقة صداقة وتحالف.

«التيار الحر» و«القوات» لم يسمّيا لمرتين متتاليتين الرئيس المكلف تشكيل «السلطة التنفيذية»

وتبعاً لذلك تبقى «القوات اللبنانية» و«التيار الوطني الحر» (حزب الرئيس ميشال عون) المعترضيْن الأساسييْن على تسمية الرئيسين المكلفين (الحريري وميقاتي)، وما يتعداه من تحالفات داخلية وإقليمية.

ذلك أن هذا الموقف، ورغم الاختلاف الجوهري في الأسباب العميقة التي تقف خلفه بالنسبة إلى الطرفين، يعطي مؤشرات سلبية عن انحسار مشاركة المسيحيين في المشهد السياسي الفاعل، بمزيد من الشرذمة.

وهذا الأمر يترك تداعيات سلبية، لا سيما أن تجربة المسيحيين بعد الطائف، مع التركيبة الحاكمة والسلطتين التنفيذية والتشريعية لم تكن موفَّقة في بدايتها بعدما انطلقت من مقاطعة المسيحيين الانتخابات النيابية العام 1992، ما اعتُبر مفصلاً أساسياً في تَراجُع حضورهم في المعادلة اللبنانية.

تختلف الظروف السياسية الراهنة عن مرحلة التسعينات. حينها كان الاعتراض المسيحي الذي انطلق من البطريركية المارونية أيام تولي الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير السدة البطريركية، على سوء تطبيق الطائف، وعلى قانون الانتخاب، وعلى الإدارة السورية والنظام الأمني الذي كان بدأ يتحكّم بلبنان.

وفي غياب القوى المسيحية الأساسية، شكّلت مقاطعةُ المسيحيين أوّل خطوة في مسار تَراجُع دورهم، لا سيما في ظل اعتقال رئيس «القوات» سمير جعجع لاحقاً ونفي ميشال عون وقبله وجود الرئيس أمين الجميل في باريس. وما زالت المقاطعة محور مراجعات مسيحية داخلية عن السلبيات التي تركتْها بعدما عزّزت سلطة قوى مسيحية حليفة لسورية، وجعلت القوى السياسية الأخرى تتقدم في مراكز السلطة وتأخذ دورها في الإدارة والمؤسسات العامة والسلطتين التنفيذية والتشريعية.

صحيح أن المناصفة حَفَظَتْ للمسيحيين حقوقهم في الوظائف (الفئة الأولى) وفي المجلس النيابي والحكومات بعد مقاطعة 1992، إلا ان ممثليهم كانوا يأتون من ضمن الخط الموالي لسورية. والعام 2005، صار التحوّل مجدداً مع عودة عون وجعجع وقبْلهما الجميل إلى بيروت، وباشرتْ القوى المسيحية تتحضّر لعودتها إلى السلطة.

كان انتخاب عون (اكتوبر 2016) إثر تسوية رئاسية مع الحريري، وبعد «اتفاق معراب» بين جعجع وعون، رغم اعتراض شخصيات مسيحية مستقلة، تعبيراً عن عودة الأحزاب المسيحية إلى الحُكْم، لا سيما ان «اتفاق معراب» نصَّ في ذاته على محاصصة بين القوات والتيار.

لكن ما حصل على مدى الأعوام الخمسة الماضية، أَظْهَرَ تَنافُساً مسيحياً، من دون أن يعكس حقيقةَ عودة القوى المسيحية إلى السلطة، ولو أنها موجودة على رأس الهرم، أي رئاسة الجمهورية.

 اتكاء «التيار الحر» على تحالفٍ مع «حزب الله» وانكفاء «القوات» أفْقدهما القدرة على المبادرة

وما جرى منذ عام تحديداً وصولاً إلى الخطوة الأخيرة المتمثلة باعتكاف الطرفيْن عن تسمية الرئيس المكلف دليل على ذلك.

تختلف مقاربة التيار والقوات لانسحابهما من المشهد السياسي. فحسابات «القوات» تكاد حالياً لا تتعلق سوى بالانتخابات النيابية المقبلة وبعلاقتها بالقوى الخارجية لا سيما المُناهِضة لـ «حزب الله» والدور الايراني في لبنان. إذ كانت تدعو إلى استقالة النواب من البرلمان، مُحاوِلةً اجتذاب الحزب التقدمي الاشتراكي (بزعامة وليد جنبلاط) و«المستقبل» إلى جانبها من دون جدوى، ثم انتقلتْ إلى طرح الانتخابات النيابية المبكرة، من دون أن تحصل كذلك على ما تريده.

لكن بين الطرحين، استقالتْ «القوات» من حكومة الرئيس سعد الحريري بعد احتجاجات 17 أكتوبر، فتفاقم الوضع الحكومي وقدّم الحريري لاحقاً استقالته، وهذا أحد أسباب توتر العلاقة بين الطرفين.

وعند استقالة حكومة حسان دياب بعد 6 أيام من انفجار مرفأ بيروت في 4 اغسطس 2020، واعتذار الرئيس المكلف مصطفى أديب (سبتمبر 2020)، عاد اسم الحريري إلى الواجهة.

إقرأ ايضاً: شهية باسيل لتوزير حزبيين تُفرمل الحكومة..ورفع الدعم «ينتصر» نيابياً!

لكن موقف «القوات» ظل على ما هو من رفْضٍ لتسميته (كُلف في 22 اكتوبر 2020) بحجة انها تريد حكومة مستقلين من اختصاصيين قبل المبادرة الفرنسية وبعدها.

إلا أن تطور المفاوضات وتوقُّفها في شأن التوزيع الحكومي، دفع إلى التداول بطرْح مشاركة «القوات» في الحكومة بغية كسر احتكار «التيار الحرّ» للمقاعد المسيحية وتخفيف شروطه، ما يسفر عن تشكيل الحكومة. ولكن «القوات» رفضت العروض المتتالية، وظلت تنادي بالانتخابات المبكرة. وبعد اعتذار الحريري (في 15 يوليو الماضي) تكرر الأمر نفسه، فرفضت «القوات» تسمية ميقاتي وأي شخص آخر.

في المرتين انسحبت «القوات» من المشهد الحكومي، وسط اعتقاد أن خلفية خيارها يتعلّق بموقف أطراف إقليمية من الحريري ومن عدم قبولها بتأليف حكومة يشارك فيها «حزب الله»، سواء كان الرئيس المكلف هو الحريري أم ميقاتي.

ورهان «القوات» كذلك هو على أن مواقفها هذه تساعد في تمتين قاعدتها الشعبية، تمهيداً للانتخابات، من خلال حصد المعارضة ضد القوى الأخرى المشاركة في التسمية أو تشكيل الحكومة، وأنها وسط حال التدهور المالي والاجتماعي يمكن أن تستفيد من النقمة الشعبية لتعزيز أوراقها.

أما «التيار الحر» برئاسة جبران باسيل ورغم التقائه مع «القوات» في عدم تسمية الحريري وميقاتي معاً، فإنه يختلف في مقاربته.

في المرتين، ينطلق التيار من موقفه المعارض لتفرُّد الرئيس المكلف في تشكيل الحكومة التي قد تكون آخِر حكومات ولاية عون.

موقف التيار بعدم تسمية الحريري كان بمثابة اعتراض أولي على استقالته بعد 17 أكتوبر، وعلى أنه عاد مجدداً من دون تسوية مماثلة لتلك التي أتت بعون رئيساً للجمهورية والتي أعادت الحريري إلى رئاسة الحكومة.

فزعيم «المستقبل» صعّد لهجته ضد التيار بعد الخلاف بينهما، وحاول بعد تكليفه أن يفرض شروطاً في التأليف لم يستطع التيار ابتلاعها بسهولة، لا سيما أنه كان مقتنعاً بأن الحريري يحاول كسب الوقت للحصول على ضوء أخضر إقليمي، قبل الإقدام فعلياً على تأليف الحكومة.

رغم أجنداتهم المختلفة عزّز استنكاف «الأقوياء» الاصطفاف الطائفي وأسس لوقائع سلبية

وكرر التيار الأمر نفسه مع ميقاتي، علماً أنه تربطه علاقة جيدة به، فهو الذي ساهم في اختياره بعد الانقلاب على الحريري في العام 2011 باستقالة وزراء قوى «8 مارس» على خلفية الموقف من المحكمة الدولية.

ويحاول «التيار الحر» كسب الوقت قبل الانتخابات النيابية، ومن ثم الانتخابات الرئاسية، وفي هذا المجال، يلعب بكل الأوراق في حوزته بما في ذلك المقاطعة «الميثاقية» لتسمية الرئيس المكلف، ليلتقي بذلك مع «القوات» من موقعين مختلفين.

لكن الطرفين يتعاملان مع الأزمة على افتراض انها آنية ومحصورة فقط بمناورة التسمية والتكليف والتشكيل. وهما لا يأخذان في الاعتبار ان التموْضع الحالي يعيد فرز اصطفاف طائفي ومذهبي، سيترك آثاره السلبية عليهما، ويقدّم نموذجاً سياسياً لا يشبه النماذج التي كان يتطلع إليها المسيحيون عند عودتهم إلى السلطة، خصوصاً أن ما يحصل يتم في عهد رئيس جمهورية اختارتْه الكتل المسيحية، ما يسحب أي اتهام لقوى أخرى بعرقلة الحضور المسيحي، ليس في الحُكْم إنما في العملية السياسية برمّتها.

وفي حين يغيب المسيحيون عن المعادلات الإقليمية والمفاوضات الجارية حول لبنان، بخلاف ما حصل مثلاً إبان اتفاق الطائف حيث كان حضورهم، مؤيِّداً أو مُعارِضاً، أساسياً، يُسجَّل أيضاً انكفاؤهم الداخلي.

فلا مبادرات تخرق فعلياً الاعتكاف السياسي، ولا تحركات جدية أو تواصل على مستوى وطني شامل، يعيد التوازن إلى علاقة القوى السياسية.

فإذا كان «التيار الحر» لا يزال متكئاً في تحصين موقعه على علاقته مع «حزب الله»، إلا أنه في المقابل كَسَر التحالفات التي بناها خلال خمسة أعوام من عمر التسوية الرئاسية مع «تيار المستقبل» وفَقَدَ كذلك كل تواصل مع القوى المسيحية الأخرى. أما «القوات» فكسرت بدورها تحالفاتها مع «المستقبل» والشخصيات المستقلة التي تناهض «حزب الله»، الأمر الذي جَعَلَها تعود إلى موقعها المنكفئ وهي التي لا تربطها أي تحالفات مع قوى سياسية أخرى كـ «حزب الله» والرئيس نبيه بري، أو حتى الحزب التقدمي الاشتراكي خارج تَقاطُعاتٍ انتخابية.

وثمة مَن يرى أن الطرفيْن (التيار والقوات) يجعلان من الواقع المسيحي اليوم بعيداً عن الإطار الذي كان يفترض بهما التمسك به كدورٍ أساسي جامعٍ وشامل بَدَلَ العودة إلى التقوقع.

السابق
هل استسلم حرّاس «الفكرة اللبنانية»؟
التالي
لبنان المهدَّد بالعطش عينُه على تفاعلات «الإنزال النفطي» لـ «حزب الله»!