هل استسلم حرّاس «الفكرة اللبنانية»؟

حشد بشري كبير في بكركي

لا يمكن الكلام عن انحسار الدور المسيحي في لبنان راهناً، مع كل ما يحمله من تساؤلاتٍ حول هذا التراجع الدراماتيكي، من دون استعادة معنى «الفكرة اللبنانية» التي كان المسيحيون عرّابيها قبل الاستقلال.

فالفكرة اللبنانية ثمرة أعوام طويلة من المعاناة والتجاذبات والاحتلالات المتعاقبة للأرض التي نشأ عليها الكيان اللبناني وأرسيت فكرته الأولى مع إعلان «لبنان الكبير» في الأول من سبتمبر عام 1920.

هذا المسار لا ينفصل عن الدور الذي لعبتْه الكنيسة المارونية تحديداً من بين سائر الكنائس الكاثوليكية الغربية والشرقية في تَزَعُّمها لحراك ريادي وأساسي في العمل على تحقيق هذه الفكرة، مع مشاركة البطريرك الماروني الياس عريضة في مناقشات باريس وصولاً إلى إعلان الجنرال غورو دولة لبنان الكبير التي فاخرت بفرادتها إلى حد وصف البابا يوحنا بولس الثاني لبنان بأنه «أكثر من وطن، إنه رسالة».

من بين الطوائف المكوِّنة للبنان الذي يضم 18 طائفة، قاد الموارنة في شكل خاص معركة سيادة لبنان واستقلاله وحريته حتى قبل أن يكون لهذه الشعارات المعنى السياسي الحالي.

 استغراق المسيحيين في مشاريعهم الخاصة عرّض دورهم للانحسار و«التجربة اللبنانية» للخطر

أساساً اندماج الموارنة بلبنان صار جزءاً من تاريخهم الكنسي والديني والسياسي، في مؤلفاتهم الكنسية، في أناشيدهم الدينية وخطبهم الوطنية ووثائقهم السياسيةـ قبل أن تنضم إليهم كنائس أخرى كانت تتمتع بوجود أقل تأثيراً وعدداً من الموارنة.

ثمة خلط بين الدور التأسيسي للموارنة وبين ما عُرف لاحقاً بـ«المارونية السياسية»، التي وإن شابتْها أخطاء وتشوّهات، إلّا أنها أثمرت في المقابل بناء للدولة وحرية وازدهاراً اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وفنياً مازال وهجه حتى اليوم إحدى ميزات لبنان الأساسية.

لكن لا يضير الخلط بين المارونية السياسية وبين الدور الريادي في نشوء الكيان.

لاسيما ان الموارنة تزعموا حركات استقلالية في وجه الاحتلالات المتتالية على لبنان وآخرها قبل الاستقلال والاحتلال العثماني الطويل، قبل الوصول إلى حقبة الوصاية السورية.

مع هزيمة العثمانيين والانتداب الفرنسي بدأت مفاوضات الاستقلال ووضع دستور للبلاد فانطلقت عملية استفتاء عبر مجموعة أسئلة وجّهتها لجنة مؤلفة من نواب وحقوقيين لوضع أول دستور للبنان في ظل الانتداب الفرنسي.

ويقول ميشال شيحا في محاضرة له في «الندوة اللبنانية»: «هل نبالغ في إعطاء أهمية كبرى لوطننا الصغير؟»، ويجيب «كلا من دون أيّ شك».

شيحا الذي أمضى حياته يبشر بلبنان وبأهميته ومعنى وجوده هو أب الدستور اللبناني وصانعه، مفكّر وشاعر واقتصادي.

كان مسكوناً بـ «فكرة» لبنان بجغرافيته، بشعبه وباختلاف طوائفه فكتب الكثير عنه في محاضرات ومناقشات.

يختلط على البعض هذا التماهي بين شيحا ولبنان على اعتبار أنه ماروني. لكن شيحا متحدّر من طائفة أقليات وانتُخب نائباً عنها العام 1925.

ونصوصه عن لبنان بشاعريتها وأفكارها أعطتْه دائماً صبغة الانتماء الصافي إلى البلاد التي أشرف على كتابة دستورها. فاللجنة التي شُكلت لبنانياً وتعاونت مع الفرنسيين وضعت صيغة مستوحاة من الدستور الفرنسي بموادها القانونية إلا أنها كُتبت بروحية لبنانية تتلاءم مع ما أنتجتْه المفاوضات الداخلية مستشرفةً مستقبل البلاد.

ورغم أن النزعة الأساسية التي خلصت إليها إجابات الذين شملهم الاستفتاء والأسئلة التي وجهت اليهم، قبل وضع مسودة الدستور، أظهرت للوهلة الأولى عدم رضى المسلمين (الطائفة السنية) عن استقلال لبنان ورغبتهم في البقاء مع سورية والانضمام إليها، لكن سحر التسويات التي أعلت فكرة لبنان المستقل تغلّبت، فأشرف شيحا على كتابة الدستور توطئةً لإعلان لبنان الكبير.

مع الاستقلال، كان لبنان الرسمي يحتاج إلى تثبيت هذا الانتصار الداخلي في إعادة جمْع اللبنانيين في ظل الميثاق، بعدما اقتنعت جميع المكونات بضرورة الانصهار باللبنان الجديد رغم التأثيرات العربية والغربية.

في تلك المرحلة بدأت أصوات لبنانية، تروّج لفكرة لبنان الجديد، بحدوده المعترَف بها. وقبل مغادرته إلى الأمم المتحدة كأول سفير لبناني رسمي، ودّع الفيلسوف اللبناني شارل مالك الأرثوذكسي الآتي من الكورة إلى رحاب العالم والفلسفة، اللبنانيين بكلمة قال فيها إنه ذاهب إلى مانهاتن ليعرّف العالم على وجه «لبنان المستقل الحر، القادر بتضامن أبنائه على مواجهة أيّ عاصفة تهبّ عليه حاضراً ومستقبلاً. ولي ملء الثقة بأن هذا اللبنان الجديد، سيؤدي دوره الإيجابي الخلّاق».

الكنيسة شكّلت رافعةً لـ «الطائف» الذي يُنحر على أيدي قوى مسيحية

من سبتمبر 1920 إلى الاستقلال العام 1943 وميثاقه الوطني وصولاً إلى حرب 1975، تَدَرَّجَ دور المسيحيين في الحفاظ على الخصوصية اللبنانية، فارتبط اسم قيادات مسيحية روحية وسياسية في ترويج الفكرة اللبنانية، الهوية والكيان والدور. ولمعت في هذا الميدان وجوه في الحياة السياسية كالرؤساء كميل شمعون وشارل حلو وفؤاد شهاب وبرزت نخب فكرية وثقافية، ولعبت الكنيسة دور الرافعة، فانطلقت حركة نهضوية سياسية وصحافية استمرت رغم دخول العمل الفدائي المسلح إلى لبنان وانطلاقاً منه، في تشكيل بيئة لبنانية مستقلة في عزّ صعود الحركات اليسارية التي ضمّت مسيحيين ومسلمين.

لا شك في أن تلك المرحلة تحتاج إلى كثير من المراجعات، ومنها ما أجرتْه قيادات يسارية ويمينية بعد الحرب بسبب انفلاش الحرب العسكرية واختلاط الحابل بالنابل فيها لاسيما أن ما عزز الانقسامات هو الحاجة إلى مراجعة النظام الذي كان قائماً والعمل على إجراء تعديلات على دستور ميشال شيحا، وهو ما تَحَقَّقَ لاحقاً مع اتفاق الطائف.

إقرأ ايضاً: «فيدرالية بنزين» تطل برأسها جنوباً..و«جنون أسعار» في السوق السوداء!

يمكن الكلام عن مرحلة حرب 1975 من منظار «مسيحي» في الدفاع عن لبنان بوجه التنظيمات الفلسطينية قبل أن تتحوّل الحرب مُستنقعاً لكل أنواع الحروب والصراعات الداخلية.

ومع صمت المَدافع، عَكَسَ اتفاق الطائف وما تضمّنه دوراً مسيحياً بارزاً في صوغه وفي القبول به والدفاع عنه.

وهذا المسار الطويل عَكَسَ في لحظة مفصلية أدوار القيادات المسيحية السياسية في العمل عليه وإقراره في وقت لعبت الكنيسة المارونية بقيادة البطريرك مارنصرالله بطرس صفير دوراً بالغ الأهمية، وهو كان أبرز المُدافعين عن الطائف إلى حين وفاته، متمسكاً في عظاته بالصيغة اللبنانية، التي كرّسها وأشاد بها الفاتيكان في الإرشاد الرسولي الذي خُصص للبنان، وفي كل خطب البابوات المتعلقة ببلاد الأرز ونظامها وعيشها المشترك.

كل هذه الاستعادة التاريخية، تُبْرِز الحضور السياسي للمسيحيين منذ نشأة لبنان الكبير وصولاً إلى إتفاق الطائف، وثباته في مكانين متلازمين، العلاقات الداخلية والانفتاح على العالمين العربي والغربي من أجل الحفاظ على «الفكرة اللبنانية»، وعلى مفهوم لبنان الذي أرساه مفكّروه.

غير أن هذه الاستعادة تكشف الهوة الواسعة بين الماضي والحاضر، بعدما أخذ يظهر فاقعاً انحسارُ الدور المسيحي السياسي عن مواكبة التطورات الداخلية في لبنان وعلاقاته بالدول العربية والغربية.

فـ «اللبننة» التي استُخدمت أحياناً بالمعنى السيئ للدلالة على الحروب الداخلية لها وجه مُشْرِق يرتبط بالحفاظ على التجربة اللبنانية رغم كل ما عرفتْه من خضات.

تَزَعُّم الموارنة لحركات الاستقلال جعلهم حرّاساً لـ «الفكرة اللبنانية» وفرادتها

والخضة الحالية تكاد تفوق في حدتها كل ما سبق أن عرفه لبنان نتيجة عودة الانقسام السياسي، وإلى حد كبير الطائفي، معطوفاً على الأزمة المالية – الاقتصادية الشاملة.

إلّا ان هذا الانقسام، يحصل من دون أيّ مواكبة فعلية للقوى المسيحية لوقف النزف الحالي، هي التي لاتزال منقسمة على بعضها البعض، وغائبة عن مواكبة الحدَث، نتيجة الأزمة التي تضرب بنيتها الحزبية والسياسية والفكرية.

وقد يكون أخطر ما تواجهه هذه القوى هو أن اتفاق الطائف الذي أرسى تسوية تاريخية حصّنتها الكنيسة وغالبية القوى المسيحية يتعرّض لهجمات مستمرة من التعطيل والتهشيم بمشاركة من قوى مسيحية (التيار الوطني الحر) ما يجعله عرضة للترنح، فلا يبقى من دستور ميشال شيحا إلّا بعض الشذرات التي تذكر بماضٍ جميل كان المسيحيون من أربابه وشهوداً عليه.

السابق
3 مستجدات تعرقل التشكيل..وإعتذار ميقاتي «بتوقيته لا بتوقيت الآخرين»!
التالي
الاعتكافُ المسيحي..إحتجاجٌ أم إحتجاب؟