وداعاً العلامة العلماني المجدِّد محمد حسن الأمين

محمد حسن الامين
برحيل العلامة السيد محمد حسن الأمين ينكسر عمود من أعمدة فكرة الاجتماع اللبناني الواحد مهما تعددت وتنوعت المشارب والمنابت. فالرجل الذي مثّل طوال سني عمره قيمة وطنية وعربية وديموقراطية علمانية خسره لبنان وبلادنا العربية في أصعب الظروف وأقساها.

ومن دون مبالغة يمكن القول أن رحيله أصاب كل العقلانيين والاصلاحيين والمتنورين والمجددِين في هذه البلاد بجرح بالغ. كيف لا والرجل أمضى حياته الزاخرة طوال ستة عقود في البحث والتفكير والمناظرة والجدل، مؤكداً خلالها أن العلمانية لا تتناقض مع الدين ومقاصده ومراميه في خدمة الانسان وتقدمه في هذه الحياة. خصوصاً في المجتمعات العربية حيث يُستغل الدين ويصبح مطية لتدمير المجتمعات وما راكمته من تطور حضاري في مسيرتها الصعبة والعسيرة.

يجري ذلك من خلال تعميق الفروقات وترسيخ الانقسام بين المذاهب والطوائف والجماعات ودفعها إلى الاحتراب والتناحر. لكن العلامة الأمين لم يكن مجرد مجتهد يدلي بآرائه في الكتب والمناسبات العامة ومن على منابر الحوار التي كانت متاحة في مراحل سابقة قبل وباء كورونا، وأوبئة الانغلاق والتمترس في خنادق الانقسام والتشتت.

كان الأمين من القلائل الذين يقرنون الكلمة بالموقف الذي لا يحيد أو يتراجع عنه مهما اشتدت عليه ضغوط الطائفيين والمذهبيين، الذين وجدوا في مواقفه الصلبة نقضا لمصالحهم الرخيصة، ومقولاتهم في أزلية مكونات لبنان الطائفي والمذهبي الذي لا يتغير ولا يتبدل، مهما عصفت به الأزمات وحاقت بكيانه المخاطر. لهذا السبب جرى إقصاؤه عن مهمة القضاء الجعفري في مدينة صيدا، التي حمل إليها تراث جبل عامل ونضال علمائه وأهله، وجبله بتاريخ المدينة وصراع كل الجنوب المثابر مع الاحتلال الصهيوني والوصاية السورية وسلطات الطائفيين.. قد يفرك قسم من هؤلاء أيديهم فرحاً برحيله، باعتبار أن بقاءه على قيد الحياة والحضور، هو النقيض لممارساتهم وأفكارهم الطائفية، التي ترى في كل قامة تتجاوز كانتون انغلاقهم الفكري والمجتمعي خطراً يهدد وجودهم.

كان الأمين من القلائل الذين يقرنون الكلمة بالموقف الذي لا يحيد أو يتراجع عنه مهما اشتدت عليه ضغوط الطائفيين والمذهبيين

رحل العلامة الأمين المترع بالدين والقضاء الشرعي والعلم والأدب والشعر وفلسفة الحياة وهموم الاجتماع العربي في زمن تتمزق فيه الشعوب والكيانات والدول، ويتفرق الناس أيدي سبأ من اليمن مروراً بسوريا والعراق وصولاً إلى لبنان.

تصبح شعوبنا مجرد نازحين ولاجئين وجائعين يفتقدون كسرة الخبز وقطرة الماء، ينتظرون في خيام وطوابير الذل المساعدات الأممية للبقاء على قيد الحياة. في مشاغله ومواجعه انطلق الأمين من تراث ديني وعروبي زاخر استقاه من

مدارس وعلوم النجف، ومن تفاعل اجتهاداته مع دروس الحياة وعبرها ومن انفتاح على الحداثة  العصرية وطروحاتها ومدارسها العقلانية.

كان الأمين غصنا وزهرا وثمراً من شجرة وارفة تركت وما تزال بصماتها في هضاب الجنوب وبين أهل هذه البلاد

لذا لم يكن غريباً أن يعتلي المنابر مؤكداً على كل القيم التي أختزنها مطلقاً كلاماً من ذهب وجراح ووجع، وطموحات إلى بلاد تشبهه تماما بانفتاحها وعقلانيتها وقرارها الحر المستقل والمستنير في الوقت نفسه.

كان عروبياً وعروبته لها عنوان واحد هو إلتزامه الدفاع الشعب الفلسطيني ونصرة قضيته

قتله وباء الكورونا فترجل المفكر الاسلامي الكبير والعلامة العلم السيد محمد حسن الامين مساء العاشر من شهر نيسان عن جواد عطائه، بعد أن فشل المتمذهبون في إلحاق الهزيمة به. ظلت قامته الشامخة عصية أن تلويها قدراتهم وقراراتهم السلطوية في التزامه وجع الناس الذين دافع عن حقوقهم بالحياة الحرة الكريمة .

بدل البقاء أسرى نظام وقوى همها تفريق وتجزئة الناس تبعاً لمذاهبهم وما توارثوه عن آبائهم والاجداد من انتساب.

لذا كان الأمين غصنا وزهرا وثمراً من شجرة وارفة تركت وما تزال بصماتها في هضاب الجنوب وبين أهل هذه البلاد. شجرة أنجبت علماء ومفكرين ومؤرخين ومناضلين كلما أبحروا في القوافل نحو النجف كلما غاصت جذورهم في تراب هذه الأرض.

إقرأ ايضاً: الشيخ حسين شحادة يَرثي العلامة الأمين..كيف يَطيب العمر بعدك يا نسر اللغة؟

وكما كان الأمين وطنيا توحيديا علمانياً صلباً في لبنان رغم أنه يرتدي عمامة سوداء تدلل على عمق التزامه كان عروبياً. وعروبته لها عنوان واحد هو إلتزامه الدفاع الشعب الفلسطيني ونصرة قضيته.

و أدرك العلامة الأمين منذ وقت مبكر أن جنوبيته تملي عليه هذا الموقف دفاعاً عن الأرض وتاريخها في مواجهة العدوان الصهيوني. كانت فلسطين وظلت بالنسبة له هي البوصلة التي يجب أن تظل الأبصار شاخصة نحوها. ولم يتراجع عن التأكيد على حقها البديهي في الإمساك بقرارها الوطني المستقل في مواجهة الكيان العنصري الصهيوني ومعه المتاجرين بمأساتها وأوجاع أبنائها وجراحهم النازفة. وكما دافع عن فلسطين وأهلها دافع عن حق الشعب السوري في الديموقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية والعيش في بلاد لا تديرها منوعات المخابرات بأقبيتها المعروفة والمجهولة على حد سواء. بالتأكيد كما خسر لبنان هذه القامة خسرته فلسطين وسوريا والعراق ودنيا العروبة مفكراً ومجدداً في الدين والفكر والفلسفة والأدب.

والسيد الأمين كتب الشعر منذ شبابه. وشارك خلال دراساته في النجف في إصدار وتحرير (مجلة النجف) مع نخبة من الأدباء، وله كتابات فيها. وكذلك شارك في إصدار وتحرير (مجلة الكلمة) في النجف أيضاً، وله كتابات فيها.

كان الأمين وطنيا توحيديا علمانياً صلباً في لبنان رغم أنه يرتدي عمامة سوداء تدلل على عمق التزامه

وكتب العديد من المقالات في مجلة “عبقر” أيام إقامته في النجف. وبعد عودته إلى لبنان ورغم مشاغله القضائية تابع مساهماته الفكرية والثقافية والأدبية وله العديد من المؤلفات منها: الاجتماع العربي الإسلامي، نقد العلمنة والفكر الديني، بين القومية والإسلام، الإسلام والديموقراطية، مساهمات في النقد العربي، وضع المرأة الحقوقي بين الثابت والمتغير، حقوق وواجبات المرأة المسلمة في لبنان (مع آخرين)، الإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر، سمو الذات وخلود العطاء.

رحل محمد حسن الأمين.. نفتقد بغيابه عمامة سوداء وقلباً مترعاً بالأمل، أبيض كالثلج واعداً بربيع زاهر من الحياة المتدفقة.

السابق
الموت «الكوروني» يَجتاح شباب الجنوب..و«الثنائي» يركب موجة الثورة بـ«المعاينة الميكانيكية»!
التالي
القصف الإسرائيلي يَتمدد في سوريا..ضربة صاروخية تهز الساحل وتوقع قتيلاً وجريحين!