كمال جنبلاط: مدرسة دروز لبنان في الهويّة الوطنيّة والقوميّة

مهما تكن النظرة السياسيّة إلى الشهيد الكبير كمال جنبلاط ، إلا أنّه لا يمكن لأي قارئ لواقع الدروز في ايامه إلا أن يشهد له بأنه ولد في بيت إقطاعي كبير، وورث الزعامة بفعل هذا النموذج الإقطاعي، إلا أنّه سعى أن يغلق معه باب الماضي الإقطاعي، وقال بعد أن دفن والدته، بأنه يدفن معها آخر إقطاعي في عائلته.

هو دخل في الحداثة التي كان يشهدها المجتمع الدولي منذ الحرب العالميّة الثانيّة وما بعدها. وأنشأ حزبا سياسيا منحه فكره وعلمه وفلسفته. أراد أن يتبع نماذج الكبار من أمثال غاندي، وجواهر لال نهرو، وجمال عبد الناصر.

مارس كمال جنبلاط قناعاته الفكريّة المستمدة من فلسفته الروحيّة والإنسانيّة

أراد أن يشكل حزبه جسرا له مع لبنان الجديد الذي كان يطمح له. تبعوه الدروز بشكل خاص فأخرجهم من بوتقة الولاء الإقطاعي إلى الولاء العقائدي على مساحة لبنان بكامله. جنبلاط كان المفتاح الحقيقي الذي ألحق دروز لبنان بالهوية الوطنيّة اللبنانيّة والقوميّة العربيّة منذ الإستقلال وليس بالولاءات العائليّة التي تقاسمت الحكم منذ ذلك الحين.

لعب كمال جنبلاط دورين. فقد قاد الدروز في نظام يقوم على توزيع الإدارات طائفيا، لكنه لعب دوره كاملا في الدفاع عن أفكاره ومبادئه ولاسيما في ذلك الدور.

والدي كان من عائلة محسوبة تاريخيا على العائلة اليزبكيّة. لكن كمال جنبلاط لم يتردد في إرساله كموظف مقترح من جانب مجلس الشورى الذي كان يتبع له في حينه، كي يسافر بمنحة إلى بلجيكا، لمتابعة دراسة الدكتوراة في دراسات القانون الإداري. والدي عين قاضيا عام 1962، وكان ما زال في الخارج.

ظل شهرا قبل أن يعرف أنّه عين قاضيا. لم يتدخل كمال جنبلاط ووالدي لم يكن بحاجة إلى أيّة واسطة.

وقد رافقت والدي في مسيرته القضائية فلم يتدخل يوما كمال جنبلاط في عمله. وأذكر أنّ والدي انتخب عام 1970، رئيسا لخريجي مدرسة الداوودية التي كانت تعتبر مدرسة الدروز الأولى في لبنان لعدّة عقود، فلم يتدخل كمال جنبلاط بهذه الإنتخابات. لم نلمس يوما تدخلا له في يومياتنا ولا في ممارساتنا حرياتنا.

لم نكن نخاف الحزب الإشتراكي ولم نكن نخاف القائمين عليه. ما كان لهم سطوة على حياتنا الخاصة بل كان دورهم أن يبعثوا فينا القناعة الإيديولوجيّة بفكر الحزب ومدرسته.

إقرأ أيضاً: عشرة صهاريج للتعمية على تهريب المئات !

مارس كمال جنبلاط قناعاته الفكريّة المستمدة من فلسفته الروحيّة والإنسانيّة. لم يختلف عن قادة زمانه في ذلك العصر، عصر الصراع الإيديولوجي، فبين الرأسماليّة والإمبريالية وحركات التحرر التي قامت في دول آسيا وإفريقيا وبعض العالم العربي، إنحاز كمال جنبلاط إلى حركات التحرر، واتخذ موقفا فكريا واضحا إلى جانب قضايا الإنسان والحريات والعدالة.

لكنه لم يسمح لعدائه للإستعمار بأن يحوّله أداة إلى قوّة خارجيّة أخرى، ولو كانت ترفع شعار محاربة الإستعمار. كمال جنبلاط أصر على استقلال الشعوب وحرياتها وكان جزءا من من مفكري حركة عدم الإنحياز.

كان لبنانيّا بكل معنى الكلمة ومفهوم السيادة بالنسبة إليه كان يقوم على حق الشعوب بتقرير مصيرها، وعلى حقها في الدفاع المشروع عن النفس.

كان كمال جنبلاط يُعرّف مفهوم السيادة بانه يقوم على حق الشعوب بتقرير مصيرها

ولطالما سألت نفسي هل أخطأ كمال جنبلاط عندما قبل باتفاقيّة القاهرة لعام 1969 ؟ في حينه كانت الإتفاقيّة حاجة وطنيّة. حتى الشيخ بيار الجميّل أيدّ الإتفاقيّة. فلبنان كان أمام مصير أسود محتوم على غرار المصير الذي وصل إليه الأردن عام 1970. لم يكن بإمكان لبنان أن يدخل في حرب مع المقاومة الفلسطينيّة فكان اتفاق القاهرة بمقابل وعد عربي أن يمتنع الفلسطينيون عن التدخل في الشؤون اللبنانية.

وحده كمال جنبلاط كان قادرا على فرض المحافظة على هذا الوعد، ولجم أي تمدد فلسطيني في لبنان. وحده كان قادرا على ضبط نبض الشارع الذي أخذه الحماس كثيرا مع انطلاقة المقاومة الفلسطينية. كمال جنبلاط لم يضع يده على المقاومة، ولم يسع لذلك، بل ساهم مع شركائه في الحركة الوطنية في اعتراف الإتحاد السوفياتي بمنظمة التحرير ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني.

يرى البعض أن كمال جنبلاط  تلوثت يداه بدماء المسيحيين. لا هذا مفهوم خاطئ لفكر كمال جنبلاط. أنا  كنت شاهدا على أن هذا الرجل سعى بكل قوّة لمنع أن تتحول الحرب التي وقعت عام 1975، إلى حرب بين الطوائف. أرادها حربا بين الأحزاب. لكن الحرب كانت أكبر منه.

وسرعان ما دفع حياته ثمنا لنظافة فكره العقائدي ولرفضه التخلي عن مبادئه، ولرفضه الخضوع لأرادة الغزاة السوريين الذين دخلوا برعاية من قالوا أنهم يقاتلون ضده، حاملين تحت شعارات الممانعة والصمود التي أضافوا إليها لاحقا شعارات المقاومة.

أهل الجبل سيحافظون على الهويّة الوطنيّة والقوميّة فهي كرامتهم الباقية لهم

إلى كمال جنبلاط في ذكرى اغتياله الرابعة والأربعين، أقول نم مطمئنا فأهلك الأبرار لن يغدروا بإيمانك بلبنان. هم افشلوا تقسيم لبنان وتحويله إلى جزء من الجمهوريّة الإيرانيّة الباسيليّة. فقد أفشلوا بسواعدهم وأجسادهم، محاولة حزب إيران احتلال الجبل الأشم في أيار 2008، ثم افشلوا مسرحية الحزب وجبران في في تموز 2019. أهلك في الجبل سيحافظون على الهويّة الوطنيّة والقوميّة  فهي كرامتهم الباقية لهم.

السابق
«مديرية النفط» تتنصل مبكراً من الصهاريج الإيرانية..لا طلب لإجازة استيراد البنزين!
التالي
«حزب الله» يُرهب الإنتفاضة بشبح الحرب الأهلية!