وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: لبنان.. أزمة دستور أم حوكمة

وجيه قانصو
يخص المفكر والباحث والأكاديمي الدكتور وجيه قانصو "جنوبية" بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع و منصاته الإلكترونية.

هل الأزمة في لبنان هي مشكلة دستور معطَّل، أو حتى مشكلة تعديله والذهاب إلى دستور جديد؟ أم هي أزمة حوكمة، أي مشكلة فاعلية المؤسسة السياسية العامة، أي الدولة، في ممارسة نفوذها وفرض سلطتها وترسيخ شرعية ولاء حصرية لها، لغرض تحقيق الإستقرار وتعميم النظام العام وتفعيل الإنتاجية؟

اقرأ أيضاً: وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: قتل لقمان جريمة قتل جماعي

رأى المفكر السياسي صامويل هاننغتون في كتابه “نظم سياسية لمجتمعات متغيرة”، أن الفرق بين الدول ليس في نوعية حكمها بل في درجة الحكم. فالذي يجمع بين الدول الديمقراطية الغربية والنظم الدكتاتورية الفاعلة، أكثر بكثير من الذي يجمعها مع النظم الديمقراطية التي فشلت في تأمين الإجماع السياسي وترسيخ قواعد الشرعية والاستقرار.

لذلك أجمع منظرو الدولة الحديثة على ضرورة توفر أمرين أساسيين، لا يمكن لأية دولة أن تقوم أو تستمر من دونهما: 

  • أولها: مركزية القهر، التي  تجعل الدولة تحوز القوة المادية للإكراه، فالدولة المجردة من سلطة الإكراه تتناقض مع نفسها. حتى دور الحماية الذي تقوم به الدولة، فإنه يفيد في الاصطلاح السياسي معنى السيطرة، إذ لا يمكن التفريق بين وظائف الدولة وسلطاتها .  وهو ما يسمى عند البعض بالقدرة على ممارسة السلطة.   هذا يعني أن الدولة لها أولوية سيادية Ultimacy على السلطات الاجتماعية الأخرى.  فلا تسمح بأن تعلو عليها أو تنافسها أية سلطة أخرى من الناحيتين المادية والمعنوية.  وهو ما يمكن الدولة من ممارسة سلطة فعالة قادرة على تنظيم نفسها بنفسها، وغير ملتزمة بالخضوع بأي شكل كان لأيٍّ كان.  فالتحالف بين القهر والشرعية ضروري، ونظام الدولة القانوني يكون مهدداً بالإنهيار إذا لم يكن الطابع الفعلي للقواعد التشريعية والتنظييمية مضموناً من خلال التهديد المعقول بالإكراه بإجبار المناهضين على الإنصياع.
  • ثانيها: الطابع المؤسساتي للدولة، الذي يتميز بالفصل بين الشخص الطبيعي للحكام والتصور المجرد للقوة العامة.  يكون فيها الحكام أجهزة للدولة، ويمارس رئيس الدولة وظيفة لا امتيازاً لشخصه. هذا الفصل يسمح باستمرار الدولة، التي لن يضيرها بعد ذلك تعاقب الأشخاص الطبيعيين القابلين لأن  يجسدوها وقتياً.  إضافة إلى تعميم الأنظمة القانونية المكوِّنة لدولة القانون، لتحديد إمتيازات (عامة لا شخصية) كل أولئك الذين يمارسون السلطة بإسم الدولة، وتحديد التزاماتهم، بالإضافة إلى حقوق والتزامات الذين تتحكم السلطة بهم. فقوة الدولة ليست شيئا آخر غير فعالية نظامها القانوني، بحيث يكون كل من السلطة السياسية والإدارية، أجساماً مكونة من أفراد خاضعين إلى علاقات منظمة قانونياً تنظم حقوقهم وواجباتهم تجاه الأفراد الآخرين.

الدولة صورة المجتمع نفسه

هذا يعني أن عجز الدولة لا يعني قوة المجتمع وقدرته على التعبير عن نفسه بحرية أكثر وتنظيم أموره بطريقة أفضل، بل يعني تفكك المجتمع نفسه، وذهابه إلى الفوضى والتفكك، وغياب الشرعية العامة لتحل محلها قاعدة حكم المتغلب، أي الدخول في نفق التوحش .   فالدولة عند الكثيرين ليس أكثر من صورة المجتمع في حكمه لنفسه، وعندما تكون كذلك، فإن الدولة ليست حقيقة تضاف إلى المجتمع، بل هي صورة المجتمع لنفسه، أي الصورة التي ينظر فيها المجتمع إلى نفسه، وينظم علاقاته الداخلية.  لذلك فإن ضعف الدولة هو ضعف للمجتمع نفسه، وانحلال للرابطة التي تربط الافراد بعضهم ببعض، وانقطاع لأواصر التواصل العقلاني بين مكوناته، لتستحيل الحياة ساحة صراع وغرائز موتورة وكيانات عدائية.  

هذا الأمر يغير المنحى الذي نقارب به الأمور في لبنان. فبدلا من البحث في الشروط السياسية التي تحفظ أصول العيش المشترك وتحترم خصوصية المكونات الدينية والطائفية، فإن البحث يأخذ وجهة معاكسة، وهي:  كيف يجب أن تكون صور العيش المشترك ليكون بالإمكان بناء دولة قوية، أو إذا شئت: كيف يجب أن تكون عليه هذه المكونات ليكون بالإمكان تأسيس دولة حديثة وضمان دوامها؟ هو سؤال يخرجنا من نفق الكيانات المغلقة على نفسها، ذات العلاقات الأبدية الثابتة، ليكون بالإمكان إعادة بناء هذه المكونات وإعادة هيكلة ثقافتها ووعيها لنفسها ليكون بالإمكان تكيفها وتفاعلها مع نظام الدولة الحديث. أي نقل هذه المكونات من حال اللادولة المستقر في ثقافتها ووعيها وعلاقاتها، إلى حال الدولة، أي إلى الحال الذي يسهل تظللها بالدولة والخضوع لسيادتها.  

لا معنى لديمقراطية خارج الدولة القوية، أي تكون الدولة ثم تكون الديمقراطية

كذلك فإن البحث لا يعود يدور في الشروط السياسية التي تجعل الديمقراطية ممكنة. أي وضع القيود على الفعل السياسي ليكون متطابقاً مع جملة قواعد أخلاقية ومعيارية، بالأخص حق جميع أفراد المجتمع ومكوناته في التعبير والمشاركة في الحياة العامة والتأثير في صناعة القرار السياسي.  بل إن البحث يصبح متمحوراً حول الشرط الذي يجعل أصل الحياة السياسية ممكنة، ويجعل بالإمكان وجود فعل سياسي ناشط ومؤثر.  أنه السؤال عن  قدرة الدولة على ممارسة نفوذها وسلطتها، أو إذا شئت السؤال عن الشرط الذي يجعل سلطة الدولة ممكنة.   وهو بحث كما ترى يسبق البحث في الديمقراطية. فالديمرقراطية لا معنى لها بغياب المؤسسة السياسية القائمة على قاعدة سيادة وسلطة قانونية فاعلة. إذ لا معنى لديمقراطية خارج الدولة القوية، أي تكون الدولة ثم تكون الديمقراطية.

في لبنان، ساد اعتقاد، ترجمته الممارسات والمواقف السياسيتين، أن قوة الدولة تتنافى مع حفظ الخصوصيات الدينية والمذهبية.  هذا الاعتقاد ترجم بتحول المكونات الطائفية إلى كيانات مقفلة، ذات سيادة خاصة، جعل منها مكونات سياسية تنافس الدولة نفسها، وتدعي لنفسها الحق بنقض قرار الدولة في حال تم المس بخصوصيتها.  والخصوصية هنا ليس سوى حفظ وحماية مصالح القوى التي تسيطر على كل طائفة وتهيمن على قرارها.

لم تعد أزمة لبنان أزمة عقد اجتماعي جديد، أو مشكلة مؤتمر تأسيسي آخر، بل باتت الأزمة كل الأزمة في المتعاقدين والمؤتمرين أنفسهم

هي وضعية خلقت ذهنية ومسلك تنافس حاد بين المكونات اللبنانية، تحولت مع الزمن إلى صراع وعداوة، تسببت بتآكل القيم العليا المشتركة للمجتمع، بالتالي إلى تحلل هذا المجتمع وتقطع أوصاله، لتصير السياسة لعبة عض الأصابع، تصعيد للغرائز، حياة توحش، ساحة تحطيم لإرادة المتصارعين، حفلة إبادة للضعفاء والمنكسرين، مع غياب كامل لأية خلقية تنافس شريف.  لم يدرك أحد أن مآل هذه اللعبة هو دمار الدولة وانهيار تام للمصالح الاقتصادية وإعدام تام لكل صور الحياة الطيبة، بالتالي الدخول في الجحيم. وهو حال ما وصلنا إليه اليوم.

لم تعد أزمة لبنان أزمة عقد اجتماعي جديد، أو مشكلة مؤتمر تأسيسي آخر، بل باتت الأزمة كل الأزمة في المتعاقدين والمؤتمرين أنفسهم. 

السابق
«غنم وصوص»… السجال يشتد بين «التيار الحر» و«المستقبل»!
التالي
«القصف المتبادل» على جبهتي بعبدا وبيت الوسط يُصيب من الحكومة مقتلاً!