وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: قتل لقمان جريمة قتل جماعي

وجيه قانصو
يخص المفكر والباحث والأكاديمي الدكتور وجيه قانصو "جنوبية" بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع و منصاته الإلكترونية.

لننظر إلى الصورة الأوسع، مثلما قالت أخت الراحل لقمان سليم. فقتل لقمان ليس مجرد اغتيال لفرد أو إزاحة شخص أو حتى عقاب له، بل يأتي في سياق فرض مناخ وتعميم ذهنية لإيجاد بيئة لا اختلاف بداخلها ولا خلاف، لا تعدد ولا تنوع، لا تنافس ولا تزاحم، لا ألوان ولا عبَق، بل صورة واحدة متكررة رتيبة، سلوك واحد منتظم رغم تعدد متلبسيه، عقلٌ واحد تسيره أجهزة تحكم خفية وشيفرات لفظية، تفكير متوقع البداية والمسار والنتيجة رغم كثرة فاعليه.

لم تكن معركة لقمان سياسية، حتى يقال أنهُ قُتِلَ لدواع أو دوافع سياسية. فلقمان لم يزاحم أهل السلطة على مواقعهم، ولم ينافسهم في صناعة قرارهم، بل كان محركه لوحة جمالية للوطن، صورة إنسانية متخمة بالتنوع والاختلاف، ورغبة حياة فنانة متدفقة، تسعد بإرادتها، تنتشي بحريتها، تخلق نفسها باستمرار، يتجدد عشقها لنفسها مع كل عود أبدي لها.

إقرأ أيضاً: في مواجهة طيور الظلام.. لقمان سليم شاهدا وشهيدا!

ربما كان هذا الدافع يحتاج إلى خطاب سياسي، إلى منبر إعلامي يطل من خلاله، إلى قلم، إلى دار نشر، إلى مقال، إلى خيمة، إلى مخيم، إلى مقابلات تلفزيونية، إلى علاقات دولية. لكن مشهد المواجهة لم يكن بالنسبة للقمان سياسياً، أي لم يكن صراعاً بين الإرادات لتغليب إرادة على آخرى، بل كان مشهد الصورة الكلية، أي المواجهة والمقابلة بين نمط حياة ونمطٍ حياة آخر، أفق تفكير مقابل أفق تفكير آخر، سلوك أخلاقي مقابل سلوك آخر، معنى للإنسان والوجود في مواجهة معنى ووجود آخر.

من يظن أن المعركة في لبنان ما تزال لأجل الدولة، أو لأجل السيادة، أو لأجل تفعيل العمل بالدستور وتنشيط مؤسسات الدولة، فهو ليس فقط واهم، بقدر ما هو شخص بريء منشغل بشعارات بريئة، مع غفلة كاملة منه عن حقيقة الصورة الفعلية لحال لبنان اليوم.

ما بقي في لبنان: جيفة دولة، عفن مؤسسات، ارتهان قوى، قادة أصابتهم نرجسيتهم بالعمى

ما بقي في لبنان: جيفة دولة، عفن مؤسسات، ارتهان قوى، قادة أصابتهم نرجسيتهم بالعمى، ساسة منشغلون بأحلامهم الوضيعة، غوغاء جمهور وموالين. هو وضع لا يُصحَّح ولا يمكن عكس مسار انحداره السريع Irreversible Process، بالتالي لم يعد بالإمكان استعادة مشروع الدولة، ولم يعد هنالك أرضاً صلبة نقف عليها لمحاسبة الفاسدين وملاحقة القتلة وعقابهم.

من أراد إسقاط الدولة وتفتيت سيادتها فقد حسم المعركة لصالحه، من عمم ثقافة اللادولة فقد أفلح، ومن تعمد هتك القانون مرات ومرات لا تحصى فقد حوَّل العدالة إلى أنفاق ملتفة على نفسها وسراديب كهوف لا ضوء في آخرها.

كفوا عن المطالبة بالتحقيق بمقتل لقمان أو الجري وراء معرفة ومحاكمة من قتله، فهذا فخ يستدرجنا إليه قاتل لقمان ليميع القضية!

للتوقف عن المطالبة بالتحقيق بمقتل لقمان

لذلك كفوا عن المطالبة بالتحقيق بمقتل لقمان، أو الجري وراء معرفة ومحاكمة من قتله، فهذا فخ يستدرجنا إليه قاتل لقمان ليميع القضية، ويغرق المطالبين بها بالتفاصيل التقنية والأدلة الجنائية التي يملك اليد الطولى في التلاعب بها أو طمسها، ليدور المطالبين داخل فُلكٍ دوار تعيدك فيه النهايات إلى البدايات الأولى. احفظوا حرمة دماء لقمان، ولا تطالبوا بالبحث أو الكشف عمن قتله أو محاكمته، فهذا مسار علَّمتنا تجارب القتل السابقة أن نتائجه باتت معروفة سلفاً، وسيوزع القاتل حلوى انتصاره بعد الإعلان الرسمي المتوقع عن عدم كفاية الأدلة أو عدم وجودها من الأساس.

جاهروا بالقول أنكم تعرفون القاتل بإسمه وجهته، وأن العدالة التي تنتظرونها هي عدالة السماء، وأن الذي ينصفكم هو التاريخ الذي يلفظ دائماً نوابته. قولوا للقتلة بثبات الواثق أن: طمسكم الجريمة لن يُخفِ عاركم، وأن صلاتكم لن تمحُ دنس الخطيئة عن أرواحكم، وأن قلوبكم امتلأت إثماً لم يعد للرحمة الإلهية إليها من سبيل، أنسيتم أن الله ينظر إلى القلوب والنوايا قبل الأعمال الباهرة والعظيمة، وأن الفضيلة وحتى القداسة تكتسب بالإرادة الخيرة الصامتة لا بالضجيج والصراخ والشتائم.

جريمة قتل لقمان ليست جريمة شخصية، بل قتل للحياة التي أراد لقمان أن تعم فينا

الذي قتل لقمان ليست الرصاصات الست فحسب، أو حتى من أطلقها، بل من صنع مشهد القتل واستكمل عناصره، وخلق أجواءه وصنع خطابه وثقافته وإعلامه وجمهوره وحرض عليه. قتلُ لقمان مشروع إجتماعي وثقافي وفكري قبل أن يكون حدث تشويق بوليسي أو براعة أمنية أو تذاكٍ إعلامي. فكل من حرَّض وهدد وخطط وأمر ونفذ فهو قاتل، وكل من شمت وفرح بموت لقمان ورآه لطفاً إلهياً واستخف بوجع أمه الثكلى وجعل قتله مناسبة للتندر والفكاهة فهو أيضاً قاتل وشريك في قتل لقمان حتى بعد موته.

القتل هنا ليس القتل الجنائي الذي يحاسب عليه القانون، فهذا قتل محدود ينحصر بشخص، بل هو القتل الخلقي الذي يتحول إلى سجية اجتماعية وسلوك معمم، وينتج قلوباً قاسية كالحجارة أو أشد قسوة، تنطفئ بداخلها الحساسية الإنسانية بحرمة حياة وكرامة الإنسان المختلف، ويختفي الشعور بالتعاطف والتحسس بألم ووجع ومأساة الآخرين، بل تنشأ أحاسيس مضادة عدوانية نرجسية، تحتكر العالم لنفسها، وتحتفل بالكارثة التي تقع على الآخرين وتطرب لموتهم وتبتهج بألمهم. إنها خلقية القتل التي تقتل مجتمعاً بأسره، وتفنى بها البشرية بأسرها.

جريمة قتل لقمان ليست جريمة شخصية، بل قتل للحياة التي أراد لقمان أن تعم فينا، حياة الإرادة الطيبة والخيال الخلاق والحرية المتوثبة. ما يجعل جريمة قتل لقمان جريمة قتل جماعي، لأن غرضها قتل الحياة نفسها.

السابق
خلاف على إرث يوقع جريحاً في الضنية.. بين أبناء العم!
التالي
اليوم الأول على فتح البلد: عدّاد وفيات «كورونا» يرتفع.. ماذا عن الإصابات؟