بارقةُ الفكرِ المعتدل بين مرجعين.. سنة ١٩٥٢: رحيل السيد محسن الأمين وولادة السيد علي الأمين

السيد علي الأمين

وَرِثَ العامليّون لاسيما علماء الدين منهم الهجرةَ إلى الحاضرة العلميّة في مدينة “النجف الأشرف”، حيث عُدَّ معظمُ وأشهر علماء وأدباء وشعراء جبل عامل من طلاب النجف، كما أنّ البعضَ من العاملييّن كان يقصد إيران وحيدر آباد في الهند. فكان لهذه الرحلات العلميّة قبل القرن العشرين وأثنائه وبعده دورٌ بارزٌ وأثرٌ بالغٌ في بلورة الحركة الفكريّة والعلميّة والثقافيّة في جبل عامل “الجنوب حالياً “.

اقرأ أيضاً: العلّامة علي الامين: دَاعِية الكرامة الوطنيّة

قدَّمَ هذا الجبل للعالَمِ الإسلامي علماءَ كباراً أبرزهم: الشيخ بهاء الدين العامليّ ١٠٣١ هـ، والحر العامليّ ١١٠٤ هـ ، وأيضاً الشهيد الأول محمد بن مكي ٧٨٦ هـ ، والشهيد الثاني زين الدين الجبعي ٩٦٦ هـ، اللذين كانا رمزين للإنفتاح الثقافي في البلاد الإسلامية. فقد درَسا ودرَّسا في مكة والمدينة والقدس ومصر والعراق وفق المذاهب الإسلامية الخمسة.

هذا ولم ينسَ العامليّون أنّ مصر قاعدة الفكر الشيعي، فيممّوا شطرَ تلك الديار . فالشهيد الأول يقال أنه روى عن أربعين شيخاً من علماء المذاهب الأخرى في مكة وبغداد ومصر ودمشق، وقد استجازَ من علماء مصر َ وغيرهِم كما ورد في :مجلة العرفان، م٢، ص٣٨٣ . أما الشهيد الثاني فقد زار مصر عام ٩٢٤هـ وأخذ من علمائها ومفكِّريها.

أمثال هذه النخبة من العلماء لطالما شكلّوا منبرَ حوار ٍمع المجتمعات الدينيّة عامةً

فأمثال هذه النخبة من العلماء لطالما شكلّوا منبرَ حوار ٍمع المجتمعات الدينيّة عامةً، بخاصة المذاهب الإسلامية، على أنَّ إنسانيّةَ الإنسانِ هي في صُلب الرسالات الدينيّة. كما أوردَ ذلك الشيخ “محمد جواد مغنيّة” في كتابه : الوضع الحاضر في جبل عامل، ص٦٢١ : “… إنّ المسيحَ(ع) لا يريدُ النصراني الماروني أو الرومي، وإنما يريد النصراني الإنساني، ومحمدٌ(ص) لا يريدُ المسلم السني أو الشيعي، إنما يريد المسلم الإنساني….”.

ما شكّل بارقةَ أملٍ في فكر الإعتدال بين رحيل المرجع السيّد “محسن الأمين” سنة ١٩٥٢، وولادة المرجع السيّد “علي الأمين” سنة ١٩٥٢

وفي الربع الأخير من القرن العشرين كان جبل عامل يزخر ُبرجالات شهدتْ لهم المحافلُ الدينية والعلمية والأدبيّة، تحدَّروا من عائلاتٍ مجرّد ذكرِها يذّكرُ بأسماء وأقطاب كبار في ميادين العلم الديني، ومضامير الأدب والفكر والفلسفة…. ومن هذه العائلات الدينية آل “الأمين”، وأبرز الذين ورِثوا في هذا العصر عن أجدادهم العلماء، مدرسةَ الحوارِ والإنفتاحِ ثقافيّاً على سائر المذاهب والطوائف، ما شكّل بارقةَ أملٍ في فكر الإعتدال بين رحيل المرجع السيّد “محسن الأمين” سنة ١٩٥٢م، وولادة المرجع السيّد “علي الأمين” سنة ١٩٥٢م، وهو محلُّ بحثِنا.

إنطلاقاً من هذا المدخل، وإنصافاً لهذه الشخصيّة المتميّزة ذات المكانة المرموقة في بحر العلم والثقافة والإعتدال، وردّاً على من يَسوقُون التُهمَ الجزاف، ويُسوِّقون سِعايةً بالبُهتان والتشويش على دور هذه القامة العُلمائيّة من خلال تقديم دعوَيين بحقه أمام القضاء اللبناني، واحدةٌ عنوانها : “التطبيع مع العدو الإسرائيلي” والأخرى: “إثارة النعرات الطائفية والتحريض المذهبي” ، علماً أنّ هاتين الدعوَيين فارغتا الجدوى شكلاً ومضموناً .

أما في ما خصّ الأولى: فإنّ للسيد “علي الأمين” تصريحاتٍ وحواراتٍ وكتاباتٍ منشورة ومشهورةٍ في مقاومةِ العدو الصهيوني، وتركيزِهِ الدائم على القضيّة الفلسطينيّة المقدسة. وعلاوَةً على ذلك فإنّ له قصائدَ عديدةٍ نظمَها، وبحوثَ كثيرةٍ كتبَها في هذا الخصوص، وحاضر بها على عشراتِ المنابرِ في المؤتمراتِ الداخليّة والخارجيّة.

للسيد علي الأمين تصريحاتٍ وحواراتٍ وكتاباتٍ منشورة ومشهورةٍ في مقاومةِ العدو الصهيوني

وأما في ما يعود إلى الثانية: فإذا كان الأمر كذلك لماذا يَفخرُ السيد”الأمين”عندما يستقبل أو تستقبله متروبوليّاتُ الطوائف الدينيّة الأخرى وكنائسُها، سواءً في مدينة “الإمام الصدر” في الجنوب ، إلى بيروتَ والمناطقِ ثم عواصم العالَم بخاصة “روما” عندما استقبله “بابا الفاتيكان” أكثر من مرّة حيث انبهرَ بفكرِهِ ، وأُعجِبَ بطريقة استنباطِه للعناصر المشتركةِ التي تجمعُ جميعَ الطوائفِ ونبذ النعرات الطائفيّة فيما بينهم ( وهذا مدوّن ومأرشف في مكتبات الفاتيكان) فضلاً عن علاقاته الواسعة مع أصحابِ غِبطةٍ ونيافةٍ وكهنةٍ وشواخصَ عديدةٍ من كافة الطوائف المسيحيّة الذين تربطهم به علاقةُ ودٍّ واحترام، لطالما رددَّ البعضُ منهم أمام أبرشيّاتهم وضيوفهِم: أنه مرَّ على طوائفنا في هذا العصر إثنان لا يتكرران بسماحتهِما وانفتاحهِما الفكري واعتدالهِما الديني هما الإمام موسى الصدر أولاً والسيد علي الأمين ثانياً.

وبعد هذا الإيجاز والإختصار من واسع، أيُعقل أنْ تُتهمَ هذه الشخصيّة المعتدلة بإثارة النعرات الطائفيّة؟! .

ولو استعرضنا بشكلٍ مختصر مروحةَ نشاطات السيد “الأمين” الدينيّة والإجتماعيّة مع أبنائه وأهله في الطائفة المسلمة السنيّة الكريمة في لبنان، إبتداءً من الناقورة جنوباً حتى العريضة شَمالاً ترى السيد “علي الأمين”حاضراً بينهم مشاركهم أفراحَهم وأتراحَهم محاضراً في لقاءاتهم مركِّزاً على وحدة المذاهب الإسلاميّة والتقريبِ فيما بينهم. ومن جملة ما يقولُه: إذا كان التسنن هو الإيمان بسنّة رسول الله(ص) فكلُّ المسلمين سُنّة. والتشيّع إنْ كان حبّ أهل البيت(ع) فكلُّ المسلمين شيعة… شارحاً كيف أمرَ أهلُ البيتِ (ع) شيعتَهم بالتعاطي مع مُخالطيهِم؛ وللإزدياد أكثر حول هذه التفاصيل مراجعة كتاب للعلاّمة السيد علي الأمين: السنّةُ والشيعةُ أمةٌ واحدةٌ- إسلام واحد وإجتهادات متعددة ؛ وكتابه الثاني: زبدةُ التفكير في رفض السبّ والتكفير ؛ إضافةً إلى عدّة بحوث ألقاها في مؤتمرات وندوات في العالم العربي والإسلامي.

فهل بعد هذه العُجالة نستنتجُ أنّ السيد “الأمين” يُثيرُ النعراتِ الطائفيّة والمذهبيّة؟؟!!.

علاوةً على ذلك، مراسلات مجلس حُكماء المسلمين للعلاّمة السيد “علي الأمين” برئاسة شيخ “الأزهر الشريف” ومن ثم تعيينهِ عضواً بارزاً في مجلس الحكماء ؛ فهل يكون هذا “تحريضاً مذهبياً” أيضاً؟؟!!.

أما إنتخابه في مجلس أُمناء إحدى الجامعات العربيّة المشهورة التي تُعنى بالدراسات الإسلامية؛ يُعدُّ ذلك “تحريضاً مذهبياً” برأيكم؟!.

وهل الذي إقترح منذ عقود إعادة النظر في الكُتب الدينيّة المعتمدة في المدارس الحكوميّة والخاصة بما فيها من فجواتٍ، كثيراً ما أدتْ إلى زيادة بناء الجدران العاليّة بين الطوائف والمذاهب، واستبدالِها ببناء جيلٍ موَّحدٍ من خلال إنشاءِ كتابِ دينٍ موَّحدٍ تُدرَجُ فيه تعاليمُ وسلوكُ وأخلاقُ الأنبياء والأئمة عليهم أفضل التحيّة وأزكى السلام. وإلا لا يمكنُ والكلام للعلاّمة “الأمين” : تُفرّقوهم صغاراً… وتطلبون الوحدةَ منهم كباراً !! …

فإذا كان صاحبُ هذه النماذج من الإقتراحات والأفكار يُعتبرُ مُحرِّضاً ومُثيراً للنعرات الطائفيّة والمذهبيّة! إذاً ما هي يا سادة الصفات والمعايير التي تتوافق مع الغير مُقسِّم طائفيّاً والغير مُحرِّض مذهبياً؟! “أفيدونا أفادكم الله” ..

أو فقط لأنه ناهضَ أو وضع ألفَ علامةِ إستفهامٍ على مشروع “الوليّ الفقيه” السياسيّ الذي يريدُ تطويعَ كل الشيعة ِ وإرغامهم في التطبيع معه والتهليل له؟!.

المفارقة أنّ الإمام “الصدر “كان في زمن”الشاه” والسيد “علي الأمين” الآن في زمن “المرشد”

ولابدّ من هذه الإشارة التي تُرجِعُنا بالذاكرة إلى سبعينيّات القرن الماضي في ذكرى المفكِّر الدكتور “علي شريعتي”، عندما كانت في الحفل الكلمة الرئيسة “للإمام موسى الصدر” الذي هاجم فيها النظام الإيراني لتدخلهِ في لبنان، فغضِبَ يومها النظام على الإمام الصدر ، وطلبَ عبر سفيره في لبنان إلى الأمن العام اللبناني أنْ يقدِّم الإمام الصدر إعتذاراً وإيضاحاً عن ملابسات تصريحاتِه. فحينها نشرت “مجلة الحوادث” مقابلة مع الإمام الصدر بتاريخ:٢/٩/١٩٧٧ وأبرز ما جاء فيها : ( …إنني آسف لما أسمع ، لأنّ الأجدر بالرقابة اللبنانيّة التي تصدر عن الأمن العام اللبناني أنْ تضعَ يدها على الأسباب لا على النتائج، وإلا فالميزة الوحيدة للبنان أن يتمكن الإنسان فيه أن يقول “آخ” . أما بعد سكوت الأمن العام على الضربات ومنع التأوه، فلا أظنه اختار الطريق الأفضل والناجح…) .

والمفارقة هنا أنّ الإمام “الصدر “كان في زمن”الشاه” والسيد “علي الأمين” الآن في زمن “المرشد” لكنّ الممارسات على ما يبدو واحدة…

وهنا تجدر الإشارة أيضاً إلى أنّ السيد “الأمين” عمِل على تأسيس قمةٍ روحيّة من كل الطوائف الدينيّة ، مُريداً بذلك إتمام ما بدأه الإمام موسى الصدر، فانطلقت من دار الإفتاء الجعفري في “صور” حيث مقرّ وإقامة المفتي السيد “الأمين”، وكانت اللقاءات تُعقدُ بشكل دوري ومنتظم من أجل تعزيز الوحدة والعيش المشترك حيث لاقتْ هذه النشاطات ترحيباً واسعاً بين الناس حتى تحوّلتْ دار الإفتاء الجعفري محجةً لجميع المواطنين للوقوف عند حاجاتهم والإصلاح بينهم واستفتاءاتهم للمفتي “الأمين” في مسائلهم الدينيّة والإجتماعيّة، وكلمتِه الصادقة وقولِه الفصل، نتيجةً لتأثيرِه وتأثّرِهم به، ولعلَّ أهم ما يميِّز فكرَ السيد”الأمين” وسلوكَه وخياراتِه كما يتبيَّن من مواقفه، إعتبارُهُ بشكلٍ أساسيّ “المواطنة” بابُ الإنتماء، وأنها الحق الأولى للحماية. بَيدَ أنَّ هذه النشاطات، أثارتْ حفيظةً لدى “قوى الأمر الواقع” خصوصاً الذين جيَّشوا الجيوشَ في القضاء اللبنانيّ وغيره من أجل الحدِّ من هذا التأثير الذي دخل إلى كلِّ بيتٍ وإلى كل منطقة، خوفاً بنظرهم أنّ السيد “علي الأمين” إذا استمرَّ بالذي هو عليه، سيسحبُ “البساط” من تحت أقدامهِم …

فراحوا يفتّشون في دوائر الفساد فلم يعثروا على أثرٍ له في قاموسه…

ذهبوا باتجاه “الإثراء الغير مشروع” فوجدوا مشروعَ إثراءٍ بالفكر وغنىً في الثقافة وكنزاً من العلم وكتلةً من الأخلاق ومنظومةً في الإعتدال والإبداع..

فعمِلوا على قاعدة ((إنَّ الناسَ لم يجدوا عيباً في الذهب، فقالوا إنَّ بريقَهُ يُتعِبُ العيون))

فلم يلمعْ أمامَهم إلا سرابٌ إسمه : “سُوءُ السُمعة” لأنه سهلٌ يسير … وما دَرَوا أنّ الله عنده الحسابُ العسير.

فيا رافعي الدعاوى أمام القضاء اللبناني بوجه أحدِ وجوه الأُمّة وأعلامِها، أليس فيكم عاقلٌ رشيد؟

أليس عندكم موجِّهٌ لبيب؟

أليس بينكم حكيمٌ رقيب؟

فعلى أي نهجٍ اعتمدتم في دعواكم؟

النهج التاريخي؟ التحليلي؟ الإستقصائي؟

هل عرضتم إدعاءاتكم على محكمة الضمير؟ على محكمة الآخرة قبل محاكم الدنيا؟

أم أنكم ظلُّ الله في الأرض؟ تُفتُون كيفما تشاؤون؟

تحاكمون مَن تشاؤون؟ تعزلون مَن تشاؤون؟ وأنتم على كلِّ شيءٍ قادرين؟!..

رحم الله ذلك الشاعر:

والفِقهُ عند الناسِ أمرٌ هيِّنٌ / والكلُّ يُفتي دائماً ويُصيبُ…

والكلُّ قد درسَ الحقوقَ وعلمِها / والكلُّ في علمِ القضاء رهيبُ..

ما عادَ في هذي الديار تخصّصٌ / هذا لعمري مُخجِلٌ ومُعيبُ…

لو كلُّنا عَلِمَ الحدودَ لعقلهِ / ما عاثَ فينا جاهلٌ وكَذوبُ…

وختاماً لقضائنا اللبناني نقول: الإعتدالُ الدينيّ في عُهدتك، إحميه إحرسهُ حافظ على ما تبقّى من فكرٍ ديني معتدل جامع، إطلقْ له العنان لكي يظلَّ قناةَ اتصالٍ بين المذاهب والأديان، لأنه لا بقاءَ ولا قيامةَ للبنان بدونه.

السابق
تفوّق لبناني جديد.. بايدن يعين بشارة شقير منسقا عاما للقاحات ضد «كورونا» في أميركا
التالي
داعشيّ في قبضة القوى الأمنية: رصد مراكز عسكرية بين فرن الشبّاك وعين الرمانة ومطاعم ببدارو!