وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: حزب الله.. الدولة قبل القضاء

وجيه قانصو
يخص المفكر والباحث والأكاديمي الدكتور وجيه قانصو "جنوبية" بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع و منصاته الإلكترونية.

أن يكون القضاء مرجعية لفض النزاعات والخلافات بعيداً عن الاستنسابات الشخصية والعصبيات المذهبية والغطاءات السياسية فهذا كله علامة على تمدن للمجتمع وقوة للدولة. أما أن يستدرج القضاء  إلى ساحة التجاذبات السياسية وتسجيل النقاط وممارسة الضغوط وتصفية الحسابات بين قوى الامر الواقع، فهذا مدعاة قلق ومؤشر سقوط  لآخر حصون الدولة، الذي هو القضاء، والذي لا تقوم قائمة لدولة من دونه، ويمثل أساس وجودها وشرعيتها وهو فض نزاعات الناس على قاعدة قانونية كلية.

إقرأ أيضاً: وجيه قانصو يكتب لـ«جنوببة»: الكارثة عندما تُفسَّرُ انتصاراً

الأخطر من ذلك، هو حين يتم التعامل مع القانون بطريقة انتقائية، فنحرص على تطبيق نفس القانون بحق غيرنا ونتهاون في تطبيقه على أنفسنا وعلى من يهمه أمرنا،  وأن تختار من القانون الذي يقوي مواقعنا ويدين خصومنا، ونتعمد تجاهل بل اختراق القوانين التي تتعارض مع مصالحنا أو أيديولوجياتنا أو انتماءاتنا، وأن نعمد إلى تفسير القوانين وتطبيقها خلافاً للأصول وخارج مرجعياتها الرسمية والدستورية.   

هذا هو حال الدعاوى القضائية التي رفعها حزب الله ضد الذين اتهموه بأنه مسؤول عن تفجير مرفأ بيروت.  المشكلة لا تكمن في خصوص هذه الدعوى، فهذا حق مكتسب لكل لبناني، لكن تكمن المشكلة في أصل تقيد حزب الله بالقانون على مستوى الممارسة من جهة، وفي جديته في اعتبار القانون مرجعيته العليا وضابط نشاطه وسقف قراراته من جهة أخرى.

يُطالَبُ حزب الله التقيد بسيادة الدولة، مقابل ذلك يؤكد الحزب أن مرجعيته في ذلك هو “الولي الفقيه”!

فالحزب مارس ويمارس مخالفات قانونية أكثر من أن تحصى: أدناها وضع اليد على الساحات العامة وإغراقها بالأعلام والصور والشعارات من دون إذن أو مسوغ قانوني.  يطالب بتسليم المتهمين من عناصره في المحكمة الدولية فيرد بأن تسليمهم لن يحصل ولو بعد ألف سنة.  لا يتوقف إعلامه عن اتهام خصومه السياسيين والأفراد المعارضين له بالعمالة لإسرائيل من دون أية بينة أو دليل.   فنرجسيته المتضخمة، توهمه بأن ما يصدر عنه هو الحق، وأن خلاف ذلك هو الباطل والضلال والخيانة.

  يُطالَبُ حزب الله التقيد بسيادة الدولة، التي هي صاحبة الحق الحصري في بناء سياسات الخارج وتحديد الموقف من الأحداث المحيطة به.  وهي مرجعية ملزمة قانوناً ودستوراً لكل اللبنانيين.  مقابل ذلك يؤكد الحزب أن مرجعيته في ذلك هو “الولي الفقيه” وأنه يملك الحرية الكاملة في الانخراط وتوريط لبنان كله في جبهات وصراعات متنوعة ومنتشرة، من دون التقيد أو مراعاة أدنى مستلزمات الإنتماء إلى الدولة، أو الالتزام بسياساتها العامة.  هي وضعية لا تقتصر على مخالفة قانون مخصوص، بقدر ما هي مخالفة لأصل مبدأ القانون وفكرته، التي تعني قاعدته الشاملة أنه مُلزِمٌ للجميع ولا يحتمل الاستثناء ولا التخصيص، وإلا فَقَدَ حقيقته كقانون.  ليس القانون دائرة مظالم بل هو الدولة نفسها في أعلى ظهورها بصورتها الكلية.

أن يقرر حزب الله اللجوء إلى القانون مع كل هذه المعطيات، فهذا تعطيل لأصل مبدأ القانون، ومهين لذكاء اللبنانيين.   فالقانون لا يتجزأ، إما أن يؤخد كله أو يترك كله. أي قبل دخوله صرح القضاء عليه أن يلتزم بمبدأ القانون مرجعية صارمة لكل ممارساته ومسلكياته العامة، وأن يتقيد بجميع بنود القانون ليكون تحته لا فوقه، وان يتخلى عن كونه سلطة أمر واقع تفرض قانونها ودستورها الموازي وحتى ثقافته البديلة.

ليعلن حزب الله صراحة ومن دون مواربة دخوله في الدولة ومن ثم ليقاضي من يشاء!

أَمَّا أن تبقى مرجعية الدولة عند حزب الله محل نظر ونقاش، ويوارب بالإستعاضة عنها ببدعة الشعب-الجيش-المقاومة وهي ثلاثية غرضها الحصري فرض معطيات الأمر الواقع على حساب سيادة الدولة،  وأن يستنسب من القانون ما يريد، ويعمد إلى إقحام القضاء في ملفات ذات طابع سياسي خالص، لغرض انتزاع أحكام قضائية لإدانه خصومه السياسيين ويقطع الطريق على أي تحقيق قضائي يسائله في حادث تفجير بيروت ولو من باب المسائلة.  فهذا كله ليس تعزيزاً للقانون ولا اعترافاً بمرجعية القضاء في حل الخلافات،  بقدر ما هو مسعى لبسط اليد على القضاء وإغراقه في تجاذبات تشوه سمعة القضاء وتعرضه للسقوط، بالتالي القضاء على آخر معاقل الدولة وإماتة لضمانة العدل الأخيرة التي  يراهن عليها اللبنانيون للبقاء والخلاص.

ليعلن حزب الله صراحة ومن دون مواربة دخوله في الدولة، والتزامه الشفاف بالقانون، ولينهي مخالفاته القانونية الفائضة، ومن ثم ليقاضي من يشاء. 

السابق
«إعلاميون ضد العنف»تستنكر اعتداء «الحزب» على الصحافية مريم سيف.. لتتحرك القوى الأمنية!
التالي
إصابات الكورونا لا تزال مرتفعة.. ماذا عن الوفيات؟