وجيه قانصو يكتب لـ«جنوببة»: الكارثة عندما تُفسَّرُ انتصاراً

وجيه قانصو
يخص المفكر والباحث والأكاديمي  الدكتور وجيه قانصو "جنوبية" بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع و منصاته الإلكترونية.

عندما أعلن ميشال عون حرب تحريره من “الإحتلال السوري”، كان شعاراً يحمل في ظاهره دوافع وطنية، لكنه في عمقه كان يعبر عن الخوف المسيحي التقليدي من أن المسيحيين أخذوا تدريجياً بعد الحرب الأهلية يفقدون زمام المبادرة والقول الأخير في الكيان اللبناني.  كان اتفاق الطائف في الوعي المسيحي العام بمثابة انتكاسة سياسية، عرّى رئاسة الجمهورية من سلطة الحسم والقرار، وركّز الكثير من الصلاحيات بيد رئاسة الحكومة.  ليخلق واقعاً صراعياً وتنازعياً بين سلطتين تنفيذيتين، بدلاً من تكاملهما وتناسق عملهما وإجراءاتهما.

كان اتفاق الطائف حينها بمثابة ترجمة لموازين القوى الدولية الفاعلة في لبنان، تختصرها عبارة س-س، أي سوريا والسعودية، مع مباركة أمريكية لهكذا معادلة.

هي معادلة سهَّلت وصول رفيق الحريري، وأسهم في نشوء حريرية سياسية، استطاعت أن تفرض نفسها نقطة توازن تقوم على تسويات بين المصالح المتعارضة والاتجاهات المتباينة، وفكّ اشتباك بين نقائض محلية من دون أن يتم حلها. 

الكارثة هي الشيء الوحيد الذي يجمع اللبنانيين والفشل هو المشترك الوحيد الذي يجمع جميع سياسييهم وأحزابهم

الأمر الذي حقق حضوراً سياسياً قوياً وانتعاشاً اقتصادياً للمكون السني،  وحقق رفاهاً نسبياً واستقراراً اجتماعياً في لبنان، لكن على أرضية هشّة وركيكة، قابلة للتفكك والانهيار مع أي متغير أو طروء عناصر جديدة تدفع باتجاه تغيير قواعد اللعبة.

تَنعَّم اللبنانيون باستقرار سياسي واجتماعي مؤقت، بدأت بوادر نهايتهما تظهر مع بروز معطيين أساسيين:
أولهما تحرير الجنوب شبه الكامل من الاحتلال الاسرائيلي.

إقرأ ايضاً: رغم الإقفال ومنع التجول..الطريق «سالكة» امام إرتفاع الدولار!

وهو معطى على الرغم من إيجابيته الكبيرة، إلاّ أنه طرح السؤال في الداخل حول مشروعية السلاح خارج الدولة، بخاصة وأنه خدم وظيفته ولم يعد هنالك حاجة لبنانية له. 

هو سؤال لم يكن حزب الله، بتكوينه الأمني والأيديولوجي، جاهزاً للاستجابة بإيجابية له، ما دفعه إلى تكثيف حضوره السياسي داخل مؤسسات الدولة التمثيلية والتنفيذية، للتأثير على القرار السياسي الرسمي ومنعه من المسّ بوضعية السلاح، أي العمل على التعامل مع السلاح بصفته أمراً واقعاً لا بصفته حاجة أو ضرورة وطنية.

ثانيهما الموت المفاجيء للرئيس حافظ الأسد، ومجيء ولده بشار، المتخم بنرجسية ذاتية وقصور نظر سياسي، اللذان يترجمان تهوراً مستداماً في الأداء، منعه من التقاط الثوابت الدولية والإقليمية، ودفعه إلى فرض قواعد لعبة سياسية خاصة به في لبنان، كسر بها التقليد المتوازن الذي أسسه والده، ليعلن، بإيحاء ودعم إيرانيين، تفرده بوضع سياسات لبنان التفصيلية والكبرى، ظناً منه أن التلهي الأمريكي المكلف في العراق سيمكنه من فرض واقع سياسي جديد في لبنان لن يكون باستطاعة الأمريكيين منعه أو رده.

الترجمة العملية لهذين المعطيين، هو المواجهة مع القوة السياسية التي كان اتفاق الطائف لصالحها، وجعلها القوّة السياسية والاقتصادية الأكثر نفوذاً في لبنان، أي السنية أو الحريرية السياسية. 

ما جعل رفيق الحريري المستهدف الأول سياسياً وحتى اقتصادياً. هي مواجهة انتهت بمقتل رفيق الحريري، وبداية نهاية مأساوية للحريرية السياسية، رغم الزخم الشعبي الذي حصده سعد الحريري بعد موت والده، إلا أنه زخم عصبوي وانفعالي أخذ يتلاشى ويتبدد تدريجياً نتيجة فقدان الأرضية التي تمنحه عناصر القوة والنفوذ اللازمين في الداخل، إضافة إلى أن احتلال حزب الله لبيروت، كان بمثابة الرسالة المباشرة، بأن العهد السياسي السابق قد انقضى وأن عهداً جديداً بقواعد لعبة سياسية جديدة قد بدأ.

المتغيران المذكوران، أيقظا ميشال عون من رهاناته الخاسرة التي اعتمدها، التي كان أهمها تأمين ضغط أمريكي لعودة ظافرة له إلى لبنان. بخاصة وأن دوافع عون لم تكن في صميمها ذات طابع وطني عام تتصل بمشكلة تماسك الكيان اللبناني أو سيادة الدولة، بقدر ما انحصر بغرضين، أولهما حصد تاريخه النضالي بأغلبية تمثيلية مسيحية، واستعادة  زمام المبادرة مسيحياً في صناعة القرار السياسي. 

ما يستدعي تقويض الحريرية السياسية وإضعاف نفوذها. وهو مسعى تقاطع مع حزب الله، الذي أدرك أن الخروج السوري من لبنان جعل سلاحه مكشوف الظهر، وأن معطيات قوة وترتيبات داخلية باتت ضرورية للحد من الاندفاع الحريري والقوى الحليفة له (قوى 14 آذار)، اللذين ظنوا مخطئين أن اللحظة التاريخية لإنهاء النفوذ السوري ومحاصرة التمدد الإيراني قد حانت.

هذا يعني أن الطرفين عون وحزب الله، لم يلتقيا على الأهداف البعيدة أو المباديء الجوهرية، إنما وحَدَّهُما الخصم الواحد، على قاعدة عدو عدوك صديقك، لا بإنهاء الحريرية السياسية فحسب، وإنما تقويض اتفاق الطائف نفسه، باللعب على تناقضاته والتأويل المزاجي والرديء له، ووضع قواعد لعبة جديدة، تنهي التقليد السياسي الذي تأسس منذ الطائف، ويضع قواعد لعبة جديدة، تمثلت باتفاق الدوحة، الذي هو بمثابة هزيمة مهينة للحريرية السياسية، وبداية عهد جديد، كانت ذروته الإتيان بميشال عون رئيساً للجمهورية. 

عون وحزب الله جمعهما الخصم الواحد: إنهاء الحريرية السياسية وتقويض اتفاق الطائف نفسه!

هو عهد، جاء فاقداً لكل مقومات الحكم الناجح، فالسياسة لا تكون بالقدرة على التعطيل وإنما في القدرة على التفعيل، والدول لا تدار بالسيطرة والتصلب وإنما بالابتكار والإبداع، والمجتمعات لا تستقر بغلبة طرف على آخر وإنما بالشراكة والهوية الصلبة الجامعة.  إنه عهد أدخل لبنان في الكارثة، ووضعه لأول مرة على حافة الانهيار والتفكك الشاملين. 

كان الخاسر من كل هذا هو الكيان اللبناني الذي تعمقت الشروخ الداخلية بين مكوناته الاجتماعية، وبتنا لا أمام مجتمع بل جمعات أهلية تجذرت بداخلها العصبية والعصبوية.

أمّا الخاسر الأكبر من كل هذا فهو الدولة التي فقدت الكثير من خصائصها الذاتية، مثل السيادة والدستور والقانون والعقلانية-المؤسساتية، وبتنا أمام حياة عامة تحكمها الزبائنية والشخصانيات المتضخمة وأوهام الظفر والانتصارات الخاوية، وهي عوامل انهيار كلي لا تصيب فرداً أو طائفة بعينها بل تصيب الجميع، وتعرض الرابح والخاسر، المنتصر والمهزوم للغرق معاً.

باتت الكارثة هي الشيء الوحيد الذي يجمع اللبنانيين ، أما المشترك الوحيد الذي يجمع جميع سياسييهم وأحزابهم فهو الفشل.  الأسوأ من كل هذا هو عندما يفسِّر البعضُ الكارثةَ انتصاراً.

السابق
رغم الإقفال ومنع التجول..الطريق «سالكة» امام إرتفاع الدولار!
التالي
«التسيّد» على سيادة الدولة بحجة الفساد والعقوبات!