منير كسرواني لـ«جنوبية»: ثورة 17 تشرين مُعمدة بدمائنا

منير كسرواني

” الحالة يا بيي لقدام مش لورا ” . هي جملة مسرحية ، قالها مبتسما ، بسخرية مريرة لاذعة ، ومشيرا بيمناه مع نطقه مقطعها الأول ( الحالة يا بيي لقدام ) ، إلى الوراء ! ومع نطقه مقطعها الثاني (مش لورا ) ، إلى الأمام ! أي عكس ما يعنيه مقصدها تماما .

وهذه الجملة هي التي ، وعلى هذا النحو الكوميدي الرائع قد قالها ، واقفا ، ذلك الرجل القروي ( الفنان المسرحي منير كسرواني ) بلباسه التراثي التقليدي ( طربوش أحمر وقميص وصدرة وشروال عربي ) ، على خشبة المسرح ، ومنذ زمن بعيد جدا ، ( وهذه الجملة التي أصبحت كليشيه تندريا في ما بعد ) ما هي إلا توصيف حقيقي ، تماما ، لأنه توصيف أمين ودقيق وحي للوضع اللبناني برمته الذي كان قائما انذاك ، بسبب من فساد سلطوي شامل اتسم به نظام الحكم في لبنان ، الذي، ومنذ ذلك الحين، استفحل تعاظمه ليزيد هذا الوضع سوءا ، حتى أوصل اللبنانيين – وكنهاية طبيعية للوضع المذكور – إلى العيش الإرغاميّ في جحيمهم الحالي الذي يتخبطون ، أيّما تخبط مأسوي في أجوائه المريعة والمرعبة ، هذه الأيام .

سأبقى وفيا لشعبي المظلوم ولثورته التي آمل أن تنتفض مجددا

منير كسرواني إذن ، قد وضع – وعلى صعيد المسرح – إصبعه على الجرح اللبناني الوطني ، المفتوح منذ أعوام طويلة جدا ، لأنه فنان ملتزم قضايا شعبه ووطنه ، وهذا الفنان المسرحي المبدع ، والذي بالرغم من كونه كوميديانا من الدرجة الاولى ، (والذي مسرحه هو مسرح الكوميديا السوداء) مكّنه خبث دهائه الفني ( هذا الذي يملكه كل مبدع حقيقي في أي مجال إبداعي كان ) من أن يجعل من مسرحه الملتزم الهادف قلعة منيعة على أية ثغرة من ثغرات الهزل العابث والمجّاني . لذلك لا غرو أن يكون كسرواني من المثقفين الذين يحملون لواء ثورة 17 تشرين التي ولمناسبة مرور عام على قيامها ، أجرى معه موقع ” جنوبية ” هذا الحوار :

لنمشِ إلى قبر غاندي !

● ماذا عنت لك ثورة 17 تشرين الأول 2019 وكيف كانت نظرتك إليها ؟

كانت ثورة 17 تشرين ثورة مباركة ، لأنه قلّ ما تولد ثورات في ظل الأنظمة الديكتاتورية ، في هذا العالم العربي ، ونحن جزء منه . وفي إحدى محاضراتي ، في مركز للثورة ، في مدينة صور ، قلت : إن المسؤول العربي ، وخاصة اللبناني ، يعتبر أن السلطة ميراث له ولأولاده ، وأن الوطن يبدأ به وينتهي به هو وعائلته ، وحتى ” الأجنّة ” التي ستتوالد منه أو من ذريته ” المقدسة ” ، ستسود وتُمسك بالأعنّة ، مذ يوم كنا ، وحتى نهاية الدهر . وقلت : إنّ هذه الثورة إنْ رَكَّزت (هي ) على العقل ومبادئ الدولة المدنية ، فحسب ، ستنتهي بالفشل ، لأنه في العالم العربي ، لا يتزحزح المسؤول إلاّ إذا جُلِد أو ضُرِب بالعصا أو بالرصاص الخ… ولذلك فإن كل الحلول والوزارات التي طرحت ، في ما بعد قيام هذه الثورة ، فشلت لأن المسؤولين ” قوطبوا ” عليها ، أي ” مطرح ما … شنقوه ” .

على الفنان المسرحي أن يسخِّر مسرحه لكشف مساوئ الحكم والحكام

وتسيست الثورة ، وصارت تتلقى أوامرها من أباطرة العالم . وصارت الثورة استنسابية ، بمعنى : يستنسبون سارقا دون آخر . علما أن الإثنين ” دفناه سوية ” . لم نر ثورة في العالم بدون دماء ، إلا في الهند ، ولكي نصل إلى تلك الثقافة الهندية ، يجب أن نسير مشيا على الأقدام ، من هنا ( من لبنان ) إلى قبر غاندي . ثم إنّ كل طائفة لبنانية تختلف أهدافها عن الطائفة الأخرى ، وكذلك الأحزاب ، كل ينظر إلى الخلاص من زاويته الخاصة . لكن المعروف أن معظم الشعب اللبناني يريد الخلاص ، وفئة كبيرة من هذا الشعب ترفض العلْمنة .

في النهاية أود القول : إنّ الصعوبات كبيرة ، ولكنني أؤمن أن الوعي لدى الشعب اللبناني سينتصر ، والفاسدون إلى زوال .

إقرأ أيضاً: ثورة تتجدد بين «التشرينين »..وصوتها يتردد من السراي إلى الأليزيه!

أنا نذرت نفسي مذ أن وعيت هذه الدنيا ، لأكون إلى جانب المظلومين والفقراء ، والعمال والناس ، الذين يموتون ، الآن ، على أبواب المستشفيات والبنوك . سأبقى وفيا لشعبي وللثورة التي آمل أن تنتفض من جديد ، لتقوم من رمادها علّ الوطن ، يرجع طائرا فينيقيا .

دم جديد للثورة

● ما هو الدور التغييري الحتمي المطلوب للمثقف اللبناني من موقعك الثقافي ؟

هنا يأتي دورنا كفنانين ، وهو دور رائد . فالفنان المسرحي ، مثلا ، عندما هو يَطرح موضوعا مسرحيا ما ، بطبيعة الحال ، سيُضمّنه رؤاه التغييرية من خلال البناء المسرحي العام للعمل الفني ، عبْر الشخصيات المتصارعة ، حتى عبْر الحوار والكلمات المختارة ، والتي تحمل رمزيةً ما وإشارات تُحفّز الجمهور ، من أجل هذا التغيير . مهم جدا أن يتعاطف الشعب مع الأثر المسرحي ، وأن يكون الأثر المسرحي مُعبِرا عن أحلام الثورة والثوار ، وعن تطلّعاتهم . ذلك لأن على الفنان المسرحي أن يُسخّر مسرحه للكشف الجلي عن مساوئ الحكم والحكام ، وفي هذه الحالة يكون المسرح مسيَّسا مائة بالمائة . وقد أدى وظيفته في التحفيز إلى التغيير . فالمسرحية هنا تخلق دفعا يكون بمثابة دم جديد للثورة .

لِمستقبلٍ مضيئ

● ما هي قراءتك الخاصة للأبعاد الثقافية لهذه الثورة ؟

المعروف أن الثورة لا تكون ثورةً ، إلا إذا ارتكزت على مرتكزات ثقافية أساسية ، تكون بمثابة السِّراج الذي يضيئ سُبلَها الآيلة إلى مستقبلٍ أفضل . ومن هنا دور المثقفين في الرّيادة . وإني أرى أننا قادمون على نُظمٍ جديدةٍ ، وبناء حُكمٍ جديد ، يقوم على الديموقراطية ، ويقوم أيضا على العلْمنة وفصل الدين عن الدولة ، وخلق ما يسمى بالتخطيط الذي هو أساسيٌ في كل شيئ ، إنْ من حيث التربية والإجماع على تاريخٍ موحد للبنان ، وسياسة موحدة للدولة ، وإنشاء المؤسسات العظيمة التي يقوم الحكم على أساسها : مثلا : الأنظمة الجديدة ، أنظمة الضرائب ، مثلا ، والصحة ، والإستشفاء ، والضمان الاجتماعي ، والتأمين الإجتماعي للمسنين ، وتحديث وتعزيز نظام الخدمة المدنية من أجل اعتماد الرجل المناسب في المكان المناسب .

وأيضاً تعزيز الفنون : مسرح ، سينما ، مكتبات ، معارض …الخ وتأمين الضمان الصحي والمهني للفنانين ، وإقامة المهرجانات العالمية التي تجعل من لبنان حاضرا في العالم . فضلا عن أن بناء الدولة لا يستقيم بالسياحة وحدها ، بل بالتركيز على الزراعة والصناعة ، ومنع التهريب ، وصيانة الحدود ، فضلا عن بناء الجيش والقضاء والأمن . يبقى فَتْح لبنان على جميع الجامعات المهمة في العالم .

المهم عدم تسييسها حتى لا تصبح ثورة ضفادع وأبواق

وتفعيل دور السفارات لكي لا تبقى عاطلة عن العمل ، وإيلاء الدعاية والإعلان ، والإعلام والصحافة المكتوبة ، وغير المكتوبة ، الإهتمام الكبير كي نجد لنا مكانا في هذا العالم ، الذي يخطو بخطى سريعة ، وما زلنا على ظهر الجمل . بذلك نكشف عن وجه لبنان الثقافي ، ونوفر الفُرص لشبابه ، للحد من آفة الهجرة .

من مكتسبات الثورة

● بعد مرورعام على قيام هذه الثورة ، كيف يمكننا تحديد ما لها وما عليها ، في الحكم على مسارها الذي قطعته حتى اليوم ؟

يكفي أنّ الثورة هزّت العصا ، ولم تعد كلاما في الهواء . أجّجت الثورة الغضب الكبير حتى صار أكبر . وبات ” الحيتان ” الذين يعرفهم الشعب ، يحسبون لشبان لبنان حسابا . وبذلك تكون الثورة أدخلت السلطة الحالية في دور النزاع الأخير .

طبعا ، اليوم انكفأت الثورة بوجود كورونا جديدة . وكأن كورونا السلطة على اتفاق ضمني مع كورونا الفيروس . أما اذا التجأ الحيتان إلى الصلاة فلكي تطول أزمة الكورونا لكي يطول عمر سلطتهم . واليوم، فإن الثورة مدعوة لتكمل مسيرتها في ظل شبح الجوع الجاثم على الأبواب : منه رفع الدعم ، وغلاء المعيشة، وفلتان التجار، وسيادة التهريب، والتلاعب بالعملات، وسفك مال الفقراء وتعبهم .

ورغم أن الدخلاء حاولوا تشويه وجه الثورة ، إلا أن صمود الشرفاء فيها تركها شُعلةً ناصعة ، لن تَخْبْ نيرانها ما دام في الوطن أحرار . وسيكون ، في النهاية ، نجاح الثورة الكبير عندما تضع يدها بيد الجيش اللبناني ، من أجل بلوغ أهدافها السامية ، ويمكننا أخذ العِبرة من الثورات في التاريخ .

● برأيك ما الذي تحتاجه ثورة 17 تشرين لتستعيد زخمها من جديد ؟

من المهم جدا الدعاية اللازمة لهبوب الثورة من جديد . أما الأهداف فواضحة للجميع : توحيد شعاراتها وقطع يد الدخلاء عليها . واليوم من مكتسبات الثورة أنه ، صار لها حضور عالميّ . فلا يمكن لأحد أن يتخطاها بعد الآن ، وهي سَتُعَمَّد بدمائنا نحن اللبنانيين وبتأييد الأحرار في العالم . والمهم عدم تسييس الثورة ، حتى لا تصبح ثورة ضفادع وأبواق .

السابق
بعد الصرخة.. «سلفة مالية» للقطاع الإستشفائي!
التالي
إرجاء مُحاكمة كيندا الخطيب.. لعدم سوقها من مكان توقيفها!