بادية فحص عن حبها للنبطية..هبة السماء تضيء باقي الطريق!

سوق النبطية الشعبي

عن حبها للنبطية التي تعتبرها هبة من السماء، كتبت بادية فحص الصحافية والكاتبة اللبنانية وابنة العلامة المتنور السيد هاني فحص على صفحتها عبر “الفايسبوك”.

وتقول :”طالما آنست من جانب النبطية ضوءا يهديني إلى باقي الطريق، والنافذة التي تتسع وتضيق وفق المشهد الذي تنفتح عليه، التي غادرتها ولم تغادرني، وما زالت تثير في داخلي متعة اكتشاف التناقضات”.

وتصف فحص في بوحها عن ذكريات ومشاهد معاشة من النبطية، بساطة وطموح اهلها الطيبين والذي قتله جنوح سياسي نحو التمديد لمجلس نيابي وسلطة لا تمل من الاستئثار وقتل الاحلام في نفوس شعبها، فسجلوا على تعثر احلامهم كثيراً من مشهديات الصمود والتحدي لمصاعب الحياة ومشاغلها.

“مدام روحية زهري”

وتقول :”ذكرني العامل السوداني، حين قال لي وهو يساعدني في وضع مشترياتي في السيارة: “إفتحي الصندوق يا مدام” روحية زهري، رغم أن المرأة ماتت قبل انتقالي من النبطية إلى بيروت، الذي مضى عليه سنوات وسنوات.

كلمة مدام كانت كافية إذا نادى أحدهم روحية زهري بها، كي ترشقه بشحنة شتائم من الزنار وبالنازل، وحفلة “ربربة” كما يحلو لأهل النبطية تسمية عبارات الكفر، تنتهي غالبا بثورة حجارة ضد المعتدي.

لا يعرف روحية زهري ونهفاتها إلا من عاش في النبطية، وهي منذ رجع عهد الانتخابات النيابية إلى ربوعنا، كانت تقرر في كل دورة، الترشح عن دائرة النبطية، وتذهب كغيرها من مرشحي المنطقة إلى دارة “الإستيز” في المصليح، تطالبه بوضع اسمها على اللائحة.

إقرأ أيضاً: بلبلة في مصرف لبنان..الحاكم ونائبه بلا «كورونا» والمصابون الـ17 تماثلوا للشفاء!

وحدها روحية زهري من بيننا، نحن اللواتي نطرب للقب مدام، ونعتبره إضافة حضارية استثنائية تسبق أسماءنا العادية، للإشارة إلى انخراطنا بركب المدنية، كانت تعتقد أن لقب مدام انتقاص من كيانها، وتلويث لأنوثتها المعتقة.

وربما لو عاشت إلى وقت التمديد للمجلس النيابي، لكانت أشد معارضيه ضراوة، ولأوعزت إلى جهازها الاستشاري أن يكتب بيانات اعتراض واحتجاج، ظللنا نتندر بمضامينها حتى اللحظة، كما برامجها الانتخابية الغابرة.

مزيج ساحر من السخرية والألم

ووحدها النبطية تتفرد في تقديم نماذج ساخرة من المدنية بين كل المدن اللبنانية. لا يمكن لأي مدينة في العالم أن تستأثر بصناعة هذا المزيج الساحر من السخرية والألم وتتناقله جيلا بعد جيل ويظل ممسكا بتلابيب الدهشة، من دون أن تعتريه رتابة، إلا النبطية.

مسشتفى الأحذية في سوق اللحم الذي يديره علي الخياط واحد منها. كذلك شاشة العرض البدائية التي كان ينصبها أشرف نور الدين فقيدنا النبيل، ليالي العيد، في موقف حي السراي، ليتسنى لأطفاله الفقراء مشاهدة أفلام سينمائية تعرض “تحت” أي في صيدا وبيروت. فراريج الغضب أيضا، وهو الاسم الذي اختاره حسين فقيه لمحله، للغضب الذي ظل يلازمه لعدم إنصاف مجلس الجنوب له، في تعويضات حرب عناقيد الغضب.

لا مسرح في النبطية، وربما لم يخطر ببال المسرحيين الذين يتنقلون بعروضهم من مكان إلى آخر في بيروت، والمدن الأخرى، أن يقرعوا باب هذه المدينة العالقة فوق، ولو فعلوا لوجدوا مواد درامية، لا يقدر لهم العثور على ما يوازيها قيمة وإثارة في أي مكان آخر. ليس في غير هذه المدينة، الرافضة للترييف العصية على التمدن، تتسرب إلى أنفك مع زحف المساء روائح روث الغنم والماعز والأبقار، وعلى مسافة فرسخين من بيتك تستطيع أن تحظى صباح كل يوم بطنجرة حليب ساخن.

أو أن تجد أكياس اللبنة البلدية معلقة على باب دكان كأنها مجموعة مناطيد مجهزة للإقلاع. وفي الوقت ذاته تمر قربك سيارة حديثة الطراز لا يملك مثيلا لها إلا أغنياء مدن العالم الكبرى.

ولا بحر أيضا في النبطية، كي يضيف إلى حضورها هيبة، أو لتجتذب شواطئه المشاريع السياحية والمساكن الأرستقراطية، أو ليتزين طرفها بكورنيش للمشاة، وليس فيها ميناء تتدفق منه البضائع والثقافات، وتبحر السفن والبشر منه وإليه.

أعظم المشاهد في النبطية أن تمتلك زاوية في وسطها التجاري، أو بسطة تعرض عليها بضاعتك البسيطة في سوق الاثنين، أو أن تبدأ نهارك بجلسة صفا في مقهى الصفا، تدخن أركيلة وتلعب دق طاولة، وتذهب إلى عملك سيرا على القدمين.

فالنبطية تستمد مكانتها وموقعها من دنوها من قمم التلال التي تحيط بها، كأنها ماء في كأس أوشكت أن تمتلئ، هناك تبحر الأعين في رحابة الأمداء مستعينة بأشرعة الألوان والأضواء.

منجبة “الصبّاح” وغارقة في العتمة

والنبطية أرض بركة وسلام، من يوم مر عليها المسيح قادما من الجليل في طريقه إلى صيدا. وهي صاحبة فضل كبير على البشرية، ألم تهدها فتى العلم الكهربائي حسن كامل الصباح؟ يقول قائل ويتهكم “ومع ذلك مدينتنا غارقة بالظلام”، لكن لا عجب أن تنجب النبطية العلماء، فأهلها أحفاد الأنباط، الذين نقلوا المياه إلى الصحراء.

والمفارقة أن النبطية تسمى مدينة الحسين، فهي رغم افتتانها واعتزازها بهذه التسمية إلا أنها لم تتنازل كرمى لها، عن خصوصية تتعارض معها. فضريبة الحيدر مثلا، أو بعضهم، أو أكثرهم، يتناولون قليلا من الخمرة يوم عاشوراء كي تساعدهم على كسر حاجز التردد قبل الالتحاق بمواكب شج الرؤوس.

كما أن صاحب المحل المحاذي للجامع وسط السوق يلتزم بأداء صلاته خلف الشيخ ظهرا، وحين يعود إلى بيته مساء، يشرب نبيذا وعائلته. ولا أحد سوى أهل هذه المدينة يتنابزون بطيب خاطر بالألقاب.

لم توفر الألقاب عائلة، مهما علا شأنها أو تواضع، واللقب يلتصق بصاحبه من طفولته حتى مماته، وقد يرثه أبناؤه، ويستوحى اللقب من تشابه، أو عادة، أو مهنة، أو هفوة تظل عالقة في أذهان أهل المدينة وغير ذلك.

“حبلق والتنانير القصيرة”!

تقول قريبتي إن شقيقها لقبوه “حبلّق” لأنه كان منذ صغره “يسرغس” أمام صاحبات التنانير القصيرة. وفي هذه الأيام يقصد الفتيان قهوة السلوم، ليختار لهم صاحبها لقبا مناسبا، لبراعته في ذلك.

روحية زهري ماتت قبل أن تحقق أمنيتها في ركوب المحدلة، وعلي الخياط كان يتمنى أن يصبح طبيبا، لكن ضيق ذات اليد منعه من تحقيق حلمه، فاستبدله بمعالجة الأحذية، أشرف نور الدين رحل باكرا، والتغيير الذي كان يحلم بإرسائه صار مخلوقا بلا أطراف، عاجزا عن الحركة، حسين فقيه، ظل يروي لزبائنه حكايته مع مجلس الجنوب، حتى مماته، ويتبعها بأبيات من الشعر العامي الذي برع في قرضه.

والنبطية على حالها، أم حنون، تفتح ذراعيها لتحمي أبناءها من غدرات الزمان وضربات الأقدار، بجلد محارب عتيق، تعالج الفقر بالتفاؤل، وتهزم المرض بالأمل، وتتحدى الإهمال بالسخرية، وإذا ما أحست بالخناق يضيق حول عنقها، وسعت رئتيها لاحتباس ما أمكنها من هواء وحرية.

قال لنا المرشد السياحي “من يرمي قطعة نقدية في فونتانا دي تريفي زينة مدينة روما، يعود إليها ثانية”.

أنا التي ولدت في النجف وعشت في طهران، وبدلت عائلتي أماكن إقامتها في الوطن تبعا لجولات الحرب الأهلية وصولاتها، وزرت مدنا وعواصم كثيرة، قبلت القطعة النقدية وتمنيت أن أعود إلى النبطية.

هبة السماء التي طالما آنست من جانبها ضوءا يهديني إلى باقي الطريق، والنافذة التي تتسع وتضيق وفق المشهد الذي تنفتح عليه، التي غادرتها ولم تغادرني، ومازالت تثير في داخلي متعة اكتشاف التناقضات.

السابق
بلبلة في مصرف لبنان..الحاكم ونائبه بلا «كورونا» والمصابون الـ17 تماثلوا للشفاء!
التالي
5 إصابات «كورونية»..وإستهتار طالبة وأمين مسجد «يُرعب» الجنوبيين!