الذكرى المئوية لولادة «لبنان الكبير»(1): المارونية السياسية والحرمان الشيعي

لبنان الكبير
في 31 آب 1920 أعلن الانتداب الفرنسي قيام دولة لبنان الكبير. واليوم يعجز اللبنانيون حتى عن الاحتفال بالذكرى المئوية لنشوء وطنهم المفترض، في ظل انهيار سياسي واقتصادي وأمني مأساوي، كلّلها انفجار نيترات الأمونيوم الكارثي مطلع الشهر الحالي في مرفأ بيروت الذي اطاح بثلث مباني العاصمة وواجهتها البحرية موقعا الاف القتلى والجرحى، وذلك بسبب الفساد وهيمنة السلاح والأمن الحزبي غير الشرعي على البلاد. ويبقى السؤال: ما هي الاسباب التي منعت لبنان ان يرقى لمرتبة "وطن" جامع لكل ابنائه؟ ولماذا اصبح معبرا لجميع المشاريع الخارجية التي ساهمت وتساهم في انحلاله؟ وهل سيتسبّب المشروع الايراني الشيعي الحالي الذي يشكل حزب الله رأس حربته، بتقويض الكيان اللبناني نهائيا؟

تحلّ اليوم الذكرى المئوية الأولى لقيام دولة لبنان الكبير، واذا كان المفوّض السامي الجنرال غورو كان أعلن في ذلك الزمان هذا الحدث التاريخي في أجواء احتفالية استجابة لرغبة الموارنة المسيحيين التي عبّر عنها البطريرك الياس الحويّك، فسلخ مناطق الجنوب والبقاع والشمال عن سوريا وضمها الى الكيان اللبناني رغم اعتراض المسلمين، فان الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون، هرع بعد مئة عام الى بيروت لمحاولة انقاذ ما يمكن انقاذه، وذلك بعد ان اعلن وزير خارجيته من باريس قبل أيام ان لبنان مهدد بالزوال، بسبب سلسلة الانهيارات المتسارعة التي ضربت اقتصاده ومؤسساته بفعل فساد الطبقة السياسية الحاكمة، وصراع المحاور الذي يشتدّ في المنطقة مولّدا انقسامات طائفية تهدد بحرب اهلية جديدة، فهل ارتكبت فرنسا خطيئة كبرى عندما اعلنت قيام دولة لبنان الكبير قبل مئة عام؟ 

إقرأ أيضاً: «مُرشد» لبنان يعترف بالوصاية الفرنسية..ويُشعل الثورة المضادة!

 طائفة حاكمة وطوائف محكومة 

 هكذا بدا العنوان العام لنشوء لبنان. ففي شهر آب 1918 فقد سافر البطريرك الماروني الياس الحويك على رأس وفد لبناني لحضور الجلسة الثانية لمؤتمر الصلح، ولقب حينها “بطريرك لبنان” للإشارة إلى التفاف اللبنانيين مسلمين ومسيحيين حوله، وخلال زيارته طالب البطريرك مجددًا استقلال لبنان. مكث الوفد في باريس أربع أشهر، وعندما عاد إلى بيروت كشف البطريرك عن رسالة من رئيس وزراء فرنسا جورج كليمنصو مؤرخة في 5 يناير 1920 تفيد بدعم فرنسا “استقلال لبنان”. 

صحيح ان الديموغرافيا كانت لصالح المسيحيين حينها، وان وعدد سكان لبنان الكبير كان عام 1920 كان حوالي 700 الف نسمة، ثلثه مسلمون سنة وشيعة ودروز، وثلثيه مسيحيون، لكن سرعان ما تغيرت النسبة الطائفية بسرعة كبيرة لتصل عام 1943 الى 48% لصالح المسيحيين، وتصل الى حوالي 35% فقط لصالحهم عام 2018 فقط استنادا الى أرقام اللّوائح الانتخابية، فيكون بذلك عدد سكان المسيحيين اليوم حوالي مليون ونصف نسمة، تقدر الاحصاءات أن ثلثهم غادروا مهاجرين في سنوات الحرب الماضية وما بعدها. 

مصطلح “المارونية السياسة” ظلّ مهيمنا على الحياة السياسية في لبنان حتى انتهاء تاحرب الاهلية عام 1990

مصطلح “المارونية السياسة” ظلّ مهيمنا على الحياة السياسية في لبنان حتى انتهاء الحرب الاهلية عام 1990 وتطبيق اتفاق الطائف الذي انهى تلك الحرب، وعدّل الدستور اللبناني بما يكفل انتقال صلاحيات رئيس الجمهورية المسيحي الممتازة الى مجلس الوزراء، مما عزّز حضور رئيسه، في حين لم يحقق مكاسب للشيعة ولم يأخذ منهم شيئا، وبقي منصب رئيس المجلس النيابي بحوزتهم، مع تمديد ولاية رئيسه من سنتين الى 4 سنوات. 

 ولعلّ تعديلات الطائف التي جرى تطبيقها بشكل انتقائي عشوائي، واهمال المفيد منها خصوصا ما نص عليه من تشكيل هيئة الغاء الطائفية السياسية، وكذلك نص انشاء مجلس الشيوخ الذي لم يُبحث فيه أيضا، بسبب رغبة منظومة الفساد الحاكمة بتقاسم النفوذ داخل الدولة واتتهاك قوانينها واضعاف مؤسساتها،هو ما فرغ هذا الاتفاق من محتواه، اضافة الى رغبة الوصاية السورية حينها ان تبقى ممسكة بخيوط اللعبة السياسية، فكانت تسهر على بقاء الكيان اللبناني هشّا وان يستمر التباعد والتنافر بين مكوناته، كي يبقى ورقة وساحة تستخدمها دمشق عند الحاجة لتفاوض اسرائيل كما فعلت في التسعينات من القرن الفائت، أو عندما تحاور المجتمع الدولي.    

الشيعة في زمن الحرمان والاستضعاف 

جاء في مجلة العرفان تحت عنوان «للتاريخ» من مذكرات الشيخ أحمد رضا عضو المجمع العلمي العربي مجلد 33 عام 1366هـ 1946م – قوله: 

« يوم الأربعاء في 5 ج2 1338 و25 شباط 1920 ورد يوم الاثنين أمر من حاكم صيدا العسكري بأن تستعد النبطية وما حولها لإستقبال الجنرال غورو الساعة التاسعة صباحاً فنشر مدير النبطية الأمر وأبلغه إلى مختاري القرى بطريقة رسمية وأخذ تواقيعهم بالتبليغ. 

 ولما كان هذا اليوم اجتمع الجند الفرنسي وكان عدده نحو المائة مشاة وسبعة وثلاثين فارساً. وحضر الاجتماع كامل بك الأسعد من الطيبة وحسين بك الدرويش من جباع والحاج محمد سعيد بزي والسيد عبد الحسين محمود الأمين من أعيان بلاد بشارة واستدعى كامل بك الشيخ عبد الحسين صادق واستدعانا معه، ولكن الشيخ أبى أن يكون في الاستقبال بل يقابله في مستقره وكنا معه وكذلك كان ولم يقف كامل بك والأعيان مع العساكر الواقفين للاستقبال، بل انحاز إلى دكان في السوق مع بعض الأعيان وفيهم السيد عبد الحسين محمود الأمين. 

 وفي هذه الأثناء التفت كامل بك إلى السيد عبد الحسين وقال له مداعباً: إني نظمت الآن تاريخاً لزيارة الجنرال فتقدم عند المقابلة واقرأه باسمي وهذا هو: 

 ويوم كله ظلم نأى.. عن أفقه النور 

 به للنحس تاريخ.. كيوم جاءهم غورو 

 فقال له السيد عبد الحسين أنت تقدمني إليه بهذا التاريخ وأنا أتلوه!! 

 فضحك الجميع. وشرَّ البلية ما يضحك».  

(انتهى) 

نستدلّ من رواية هذه الواقعة التاريخية التي حدثت في شهر شباط من عام 1920 اي قبل ولادة دولة لبنان بخمسة شهور، حجم الذلّ الذي تجرعه الجنوبيون الشيعة من قبل المنتدب الفرنسي الجنرال غورو، الذي اصرّ على اخضاع زعمائهم الزمنيين والروحيين بالقوة تحت طائلة العقوبة، وجرّهم ليستقبلوه مرحبين به غصبا عن ارادتهم وهو يستعرض امامهم موكبه الفخم القادم بالخيل والآليات الى مدينة النبطية، وزعماء جبل عامل وشيوخهم واقفين اذلاء في شارع سوق المدينة، من يتعب منهم يجلس في دكان، كما فعل حينها زعيم الجنوب كامل بك الاسعد، الذي اختار ان ينظم شعرا طريفا يسخر فيه من ظلم الضيف الثقيل المحتل، ولكن همسا بمشاركة صديقه السيد عبد الحسين الامين، فلم يسمعهما سوى الاديب المؤرخ الشيخ أحمد رضا، فأرّخ مشهدا من مشاهد الكوميديا السوداء ضمن مسلسل الدراما الشيعي اللبناني، الذي ما زالت تتابع حلقاته المثيرة الى يومنا هذا. 

السابق
بالفيديو: مقتل شخصين وإصابة 7 جنود بغارات إسرائيلية على دمشق!
التالي
بالفيديو.. هكذا بث مسجد النميرية أغنية فنية!