إذا فَسُدَ «الملح».. بماذا «نكافح»؟!

مكافحة الفساد
"مكافحة الفساد" شعار بات له وقع السحر في نفوس المواطنين، والتعويذة التي تستعملها بعض الأنظمة لتحسين صورتها أمام مواطنيها والعالم، وكلمة السر التي تؤذن بالإنتقال من وضع إلى آخر.

من المعروف أن مكافحة الفساد في الدول التي تقوم على حكم المؤسسات ومبدأ فصل السلطات، يكون بإصلاح القوانين وذلك بهدف سد الثغرات التي ينفذ منها بعض الفاسدين، أو بتشريع قوانين جديدة تأخذ بعين الإعتبار المتغيرات التي من الطبيعي أن تطرأ على المجتمعات بإعتبارها مجتمعات حية متحركة ومع ذلك نجد أنه من الصعب إن لم يكن من المستحيل الجزم بأن القضاء على الفساد وإستئصاله هو أمر ممكن بدرجة مئة بالمئة بل جُل ما يمكن تحقيقه من نجاحات في هذا المجال هو محاولة الحد منه إلى أدنى المستويات التي لا تشكل خطرا كبيرا على الوضع الإقتصادي والإجتماعي لأي بلد.

اقرأ أيضاً: من بيته من «النايلون» لا يراشق بـ«أكياس» الفساد!

لا مؤسسات

هذا في الدول القائمة على حكم المؤسسات فما بالك بالدول التي لا مؤسسات فيها أصلا اللهم سوى مؤسسة العائلة أو القبيلة أو الطائفة المتلطية وراء حزب أو إنجاز وطني عام تصادره لمصلحتها وهو واقع الحال في المنطقة العربية بكل أنظمتها الجمهورية والملكية، التقليدية منها والثورية. في الدول المؤسساتية يكون النجاح في كبح جماح الفساد غالبا لمصلحة الوطن والمواطن بغض النظر عن السلطة الحاكمة وأشخاصها التي قد يكون مردود النجاح عليها معنويا بحيث يعاد إنتخابها مرة أخرى لمتابعة مسيرتها ومكافأة لها على جهودها، فكيف يا ترى تسير الأمور في الدول الشمولية ونحن في منطقتنا جزء منها مهما حاولنا تجميلها بإستعمال مصطلحات رنانة واللعب على الكلمات والإستغلال الرخيص عبر تسخيف كل القيم من إجتماعية وسياسية ووطنية ودينية في سبيل ترسيخ هذه الأحادية.

في منطقتنا العربية لدينا ثلاث نماذج ظهرت في السنوات الثلاث الماضية وهي كلها بعيدة كل البعد عن منطق القانون والعدل بل هي أقرب ما تكون إلى منطق البطش والبلطجة وهذا طبيعي في أنظمة توتاليتارية قائمة على هذا النوع من الممارسات، أولها في السعودية وهو ما أتفق على تسميته نموذج “الريتز كارلتون” وآخرها ما يجري اليوم في سوريا وما طفا على السطح من صراع بين بشار الأسد وأمين سره وخزانته إبن خاله رامي مخلوف، وبينهما النموذج اللبناني – إذا صح التعبير – في مقاربة ملف الفساد خاصة بعد ثورة 17 تشرين الأول وما نشهده اليوم في ملف الفيول المغشوش وغيره من الملفات المطروحة التي كشف البعض منها بالأمس رئيس تيار المردة سليمان فرنحية في تأكيد لكل ما يُتداول في الإعلام وعلى ألسنة اللبنانيين منذ سنين عن هذه السلطة وعلى لسان شاهد من أهلها كما يقال.

معركة سياسية

المهم أنه في كل من هذه النماذج الثلاث نرى أن الهدف من “محاربة الفساد” لم يكن إسترداد الأموال المنهوبة لمصلحة خزينة الدولة والشعب، بل هو معركة سياسية بغطاء إصلاحي مزعوم بهدف تثبيت وتقوية مواقع السلطة عبر تشديد القبضة عليها والتحكم بمفاصلها وذلك بإضعاف الأطراف التي يمكن أن تشكل مصدر إزعاج كما حصل في السعودية، أو المحافظة عليها ضمن العائلة الصغيرة عبر قصقصة أجنحة البعض إيذانا ببداية إنتهاء دوره الذي أوكل إليه من قبل بعد أن ظهر الجيل الجديد من العائلة ليأخذ دوره ولتنتقل إدارة المال بما هو من رافد للسلطة السياسية والأمنية إلى الأصيل بدل الوكيل كما هو الحال اليوم في سوريا وسط الصراع الإقليمي والدولي القائم فيها وعليها، كل ذلك تحت عنوان وشعار مكافحة الفساد الجذاب للمواطن العادي الذي يعاني الأمرين في حياته اليومية.

أن شعارات الإصلاح والتغيير ومحاربة الفساد في لبنان إنما هي مجرد شعارات لا تهدف للإصلاح بقدر ما تهدف إلى المحاصصة وتقاسم المغانم بإسم حقوق الطائفة والمذهب وعلى طريقة المبدأ السياسي القائل ” قوم تأقعد محلك”

وكما في السعودية وسوريا كذلك في لبنان مع إختلاف الظروف بحيث أن في لبنان أكثر من “عائلة حاكمة” متحكمة بالسلطة ما يجعل الأمور أكثر تعقيدا خاصة عندما تختلط الأمور السياسية بالدينية وحقوق المواطن بحقوق الطوائف وكيفية تقاسمها بين المذاهب بحيث يصبح تغيير محافظ بيروت مثلا يعتبر مسا بطائفة الروم الأورثوذكس تبعا للنظام الطائفي السائد وبالأخص في هذا العهد الذي بممارساته إنما عمَّق هذه المفاهيم وكرسها، ويصبح الحديث عن رياض سلامة مساسا بحقوق الطائفة المارونية، وتبديل نائب حاكم مصرف لبنان مسا بحقوق الطائفة السنية، وبنفس المنطق يدافع سليمان فرنجية عن مدير عام المنشآت النفطية سركيس حليس المطلوب الإستماع إليه في قضية الفيول المغشوش، ويتحرك محمد رعد دفاعا عن نقيب الصرافين المتهم بالتلاعب بسعر صرف الدولار مع ما يتسبب به هذا الأمر من ضرر بالغ بإقتصاد البلد وبمستوى معيشة المواطن العادي، وقبلها الكثير من القضايا التي سببت الضرر بلبنان والمواطنين كقضية مدير أمن المطار التي أعتبرت يومها كذلك مسا بالطائفة الشيعية وحتى بالمقاومة ما تسبب بأحداث 7 أيار الشهيرة، وقضية المقدم سوزان الحاج التي ما زالت منظورة أمام القضاء بعد أن تم التعاطي معها بطريقة أقل ما يقال فيها أنها بعيدة عن منطق الثواب والعقاب وهي القضية التي تضرر بسببها المواطن زياد عيتاني ماديا ومعنوياً.

اقرأ أيضاً: الكورونا وما بعدها.. «إثنان أحلاهما مرّ»!

مجرد شعارات

وهكذا نلاحظ أن شعارات الإصلاح والتغيير ومحاربة الفساد في لبنان إنما هي مجرد شعارات لا تهدف للإصلاح بقدر ما تهدف إلى المحاصصة وتقاسم المغانم بإسم حقوق الطائفة والمذهب وعلى طريقة المبدأ السياسي القائل ” قوم تأقعد محلك ” كذلك أيضا بالنسبة لكشف الفاسدين إنما يكون بهدف المناكفة والكيد السياسي لإحلال فاسد موالٍ مكان فاسد معارض بالسياسة وهكذا دواليك. يقودنا هذا إلى الإستنتاج بإن محاربة الفساد في العالم العربي ما هي إلا حرب تصفيات يقوم بها “العراب” العربي لإعادة ترتيب وضعه ووضع “مؤسسته” العائلية أو الطائفية أو الحزبية تمهيدا لإنطلاقة جديدة وتجديدا لدماء منظومته القائمة أصلاً على الفساد السياسي ومن نافل القول بأنه من السذاجة الكبرى الإعتقاد بإمكان تحقيق إصلاح إقتصادي وإجتماعي في ظل فساد سياسي وسلطوي، فالفساد السياسي هو أس كل الموبقات التي ترتكب تارة بإسم الوطن وتارة بإسم الدين وتارة بإسم العائلة والحزب.

كفانا الله “شر” مكافحة الفساد في هذا العالم العربي المنكوب بـ”عرابيه” وما أكثرهم الذين هم يمثلون في الواقع الخصم والحكم للوطن والشعب وغني عن القول بأن فاقد الشيء يستحيل عليه أن يعطيه.

السابق
تطورات «كورونا» على طاولة مجلس الوزراء.. عون: لتشديد اجراءات الوقاية
التالي
حالة من الهلع في لبنان.. بورصة اصابات «كورونا» ترتفع الى 870 والحكومة تعلن الاقفال التام!