التحرير ورجال الدين والدولة.. المشهد الإيراني والسؤال اللبناني

هاني فحص

انتصرت الثورة الإسلامية في إيران، غير أن موعد الانتصار كان مفاجئاً، لأن الجمهور والمعنيين من القادة سواء بسواء، لم تكن لديهم صورة كاملة عن مبلغ التصدع الذي استشرى في نظام الشاه، وتهيأ الجو لتأسيس الدولة فتم الاستفتاء الشعبي على الدستور، وبعده بدأت الاستعدادات لانتخاب رئيس الجمهورية، فاجتمعت قيادة الحزب الجمهوري الإسلامي، واقترحت مرشحاً هو الأستاذ جلال الدين فارسي ،  وحمل الدكتور حسن آيت الاقتراح إلى الإمام في قم، مع تصميم أعده فنانو الحزب لعلم الجمهورية الوليدة (هو العلم الحالي) ( زهرة اللوتس بأحرف اسم الجلالة). وكان رأي الإمام مع جلال الدين فارسي، من دون أن يكون ضد السيد بهشتي الأثير لديه جداً والذي أبدى الإمام ارتياحه في تلك الجلسة لأنه (بهشتي) انسحب من لائحة المرشحين للرئاسة، وفهم وقتها أن الإمام بصدد استبعاد رجال الدين عن السلطة المباشرة، حيث كان يفكر بتوفيرهم لمسؤولياتهم الأساسية، التي لا يقوم بها غيرهم، في الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية، خاصة أن إيران الجديدة قادمة ومطالبة باستكمال المفصل السياسي الكبير وحمايته وترسيخه بمفصل ثقافي يوازيه، وإن كان أشد تعقيداً وأكثر تطلباً للصبر وطول الأمد، وعلماء الدين، والكبار منهم خاصة، والمنفتحون على العصر وإشكالياته من هؤلاء الكبار بصورة أخص، معنيون بهذا الشأن أكثر من غيرهم ومع غيرهم من العلماء والمثقفين والسياسيين المدنيين الذين تميزت مدنيتهم في إيران بأنها لم تقطع بين الواقع والموروث والقادم ولم يفهم أحد من ذلك أن الإمام أجرى مراجعة لرؤيته في علاقة الإسلام بالسياسة، وإنما هي محاولة منه، تقع موقع الاحتياط الاستحبابي لإبقاء مسافة ما، وظيفية، بين رجال الدين ورجال السياسة بمعناها التنفيذي أو العرفي، أي المتعارف عليه في إدارة الشأن العام، ريثما تنتج التجربة أطروحتها الملائمة، التي تتكوّن على نار باردة، من خلال الانخراط الكامل وحوار المواقع والأفكار والأدوار، بلحاظ أن إقامة الأطروحة البديلة أصعب بكثير من رفض وإسقاط الأطروحة السابقة والتي هي على مقدار من الرسوخ. وحدث ما حدث يومها من انكشاف وجود مانع شوفيني دستوري من انتخاب فارسي لمنصب الرئاسة؟ وانتخب أبو الحسن بني صدر، بعدما استطاع فريق عمله المتداخل مع بعض الأجواء القريبة من الإمام، الإيحاء بأن هذه الأجواء داخلة في مشروعه الرئاسي أو حاملة له، من دون أن يعدم هذا الفريق علامة على مدّعاه. لتأتي من بعد، أزمة بني صدر، ومن أسبابها توهمه أنه نجح بأكثرية أحد عشر مليون صوت، بناءً على أفكاره الشخصية وحدها، متجاهلاً دور أنصاره وبعض أقرباء الخميني في الإيهام بأنه مرشح الإمام ومساهمة نجل الإمام السيد أحمد في إقصاء فارسي وجعل الساحة شبه فارغة من المنافس الجدي، لكون هذا الإقصاء قد تم في الفترة التي انتهت فيها مهلة الترشيح.

اقرأ أيضاً: ورطة إيران في سوريا الخلفيات العميقة والآفاق

الجمهورية الفتية

ويقف السيد علي خامنئي في أوائل رئاسته للجمهورية مذكراً بأن عدم وصول فارسي كان ذا أثر سلبي جداً على الجمهورية الفتية، ولعله في هذا الكلام كان يشير إلى مسألة انتخاب بني صدر وما ترتب عليها من تداعيات، أكثر مما كان يركز على فارسي الشخص، أي أن السيد خامنئي، كان يصوّب على الانقطاع القهري الذي حصل في توجه الإمام وإرادته في تأجيل أو توفير مباشرة رجال الدين للسلطة في مقاماتها العليا، والتي كانت أزمة بني صدر والشعارات التي رفعت فيها ضد رجال الدين ومعرفتهم بالدين، أحد المنبهات إلى خطورة المنحى الاستبعادي وما يمكن أن يترتب عليه من تراكمات تذهب بالثورة وهويتها وخصائصها. وقد بلغ هذا المحذور غاية الوضوح عندما أحاط مجاهدو خلق ببني صدر واستسلم لهم وانقطع عن جذوره ومحيطه الذي أصبح غير متحمس لاستمراره بعدما انكشفت المسافة التي تفصل بينهما حيث كان بني صدر يريد الحالة معبراً شخصياً والحالة تريده معبراً إلى استبعاد التيارات المدنية أو الحداثية من داخلها.

ويقف السيد علي خامنئي في أوائل رئاسته للجمهورية مذكراً بأن عدم وصول فارسي كان ذا أثر سلبي جداً على الجمهورية الفتية، ولعله في هذا الكلام كان يشير إلى مسألة انتخاب بني صدر وما ترتب عليها من تداعيات

حركة تحرير إيران

ومذ شرع بني صدر في ممارسة الذاتية والنخبوية، وبقي الإمام يصر على إعطائه مزيداً من الفرص بشرط التعقل، ملاحظاً أن عقله أقل من علمه، تجنباً من الإمام للأزمة أو تأهيلاً لإطلاقها بعيداً عن ظروف الحرب القاسية مع العراق والحصار الذي عاشته الدولة الجديدة، ولكن بني صدر لم يترك عذراً لمعتذر، فأخذ الكلام يدور حول ما سببته أزمته من التفات إلى ضرورة أن يتصدى رجال الدين للمسؤوليات العليا في الدولة من دون استثناء (كما في حال رئاسة بهشتي للمجلس الأعلى للقضاء على أساس الاختصاص) حفاظاً على استمرارية الثورة وعافية دولتها، وتوقع الجميع أن يتم اللجوء، احتياطاً للأمر، إلى تقدم رجال الدين نحو كل المواقع.. هذا من دون أن ننسى دور السجال الذي سرعان ما تحول إلى صراع مكشوف بين التيار الليبرالي/ الجبهة الوطنية (وفي الطليعة منها حركة تحرير إيران) التي كان اختيار الإمام من البداية لها لتتولى السلطة التنفيذية الأولى في تاريخ الدولة، في فتح البصر والبصيرة على إشكالية الدولة والثورة، ومعادلتها الوسطية والتي أتى لقاء إبراهيم يزدي نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية مع بريجنسكي (وزير الخارجية الأميركية، في الجزائر)، مؤشراً على توجه للخروج منها في لحظة غير مناسبة، ما اعتبر مساً بمصداقية الثورة وشعاراتها، وإن كان الإمام الخميني، كشأنه مع بني صدر لاحقاً، قد حاول أن يميز المرحوم “مهدي بازركان” نظراً لما هو معروف عنه من استقامة وعمق إيمان ونضالية مشهودة تجعل الخلاف معه، خلافاً على الأصوب في أسلوب الحكم وإدارة الشأن السياسي…

وهكذا كانت أزمة بني صدر بمثابة جرس إنذار ومدعاة إلى حسم الأمور، وهكذا كان، من رئاسة الشيخ مهدوي كني للوزارة بعد رئاسة الشيخ هاشمي رفسنجاني للمجلس النيابي قافزاً من الرقم 17 على لائحة الناجحين في انتخابات طهران النيابية الأولى إلى رئاسة المجلس… إلى رئاسة الشيخ محمد جواد باهنر للوزارة إلى جانب رئيس الجمهورية المدعوم من رجال الدين على أساس انسجامه التام معهم، الرئيس محمد علي رجائي، إلى رئاسة السيد علي خامنئي للجمهورية، دورتين منحازاً إلى تركيز ولاية الفقه بعدما كان يسائلها في حياة الخميني بعد استشهاد رجائي والشيخ محمد جواد باهنر رئيس وزرائه المعمم، واستشهاد بهشتي مع رفاقه في الحزب الجمهوري.

صيانة الدستور

وبتشكيل أو انتخاب مجلس الخبراء من كبار رجال الدين حصراً، وتشكيل مجلس صيانة الدستور منهم حصراً في البداية، ثم تطعيمه تحت وطأة المفاعيل السلبية لهذه الحصرية بعدد مواز من رجال القانون المدنيين الذين يختارهم المرشد الولي.. احتل رجال الدين المشهد السياسي والإداري، فضلاً عن موقعهم الأصلي في الثقافة، الذي أتاحت له السلطة المباشرة فرصة التمدد إلى وسائل الإعلام، وإذا ما كان هناك من تلوين مدني برئاسة مير حسين موسوي للوزارة لفترة طويلة قبل تحويل النظام إلى نظام رئاسي في أول رئاسة لرفسنجاني للجمهورية فإن هذا اللون كان يستمد حضوره وشرعيته من اتصاله بالمؤسسة الدينية حيث اشتهر مير حسين موسوي إلى كفاءته وشجاعته بأنه أشد الولائيين ولاءً، وهذا ما جعله يمتنع في الدورة الأولى التي انتخب فيها أحمدي نجاد لرئاسة الجمهورية يرفض ترشيح نفسه للمنصب بعدما طلب إليه بعض الإصلاحيين ذلك ليكون الرئيس بعد خاتمي، في هذه الأثناء كان الإمام الخميني قد انتقل من طهران إلى قم، موقعه التاريخي والطبيعي، ونأياً بنفسه عن التفاصيل (لم تلبث ان لحقت به) مفترضاً إن أمور الدولة يمكن أن تدور وتدار من داخل العاصمة، ليبقى لقم موقع الرعاية الفكرية والفقهية والرقابة نقداً وتسديداً وإلزاماً إن اقتضى الأمر، من خلال المرجعية القائدة، ليتبين في ما بعد، إن إقامة الإمام في قم وإرباكات طهران وسجالاتها في مرحلة التأسيس ذات الخطورة الشديدة التركيز، بدأت تحول قم إلى عاصمة بديلة، ما يعني تسلطاً لقم بما فيها من التباسات يعرفها الإمام  الخميني عن كثب وقد عانى منها كثيراً في السابق، ويعني انفراطاً تدريجياً للموقع العاصم في طهران، وكانت قم الحوزة على تعقيداتها، وعلى اختلاط الأهلية بعدمها في نصابها، قد أخذت تستشعر دورها المبالغ فيه من حيث الوصاية على الدولة وأهلها، ما أغرى أطرافاً فيها بتجاوز معارضتهم أو اعتراضهم على السياق إلى الخروج عليه، مسلحين بصورة تهميش تاريخي اثني أو مذهبي للأقليات ورفع الاختلاف إلى مستوى الصراع (الأذريون والعرب والأكراد والبلوش).

أمزجة فكرية وسياسية

إلى ذلك، فإن الثورة أولاً، ومن بعدها الدولة إلى حد ما، كانت جمعاً لأطروحات وأمزجة فكرية وسياسية على السلب، وإن كانت الأطروحة الإسلامية، على نسب ومستويات مختلفة بين الشمولية والليبرالية، هي الجامع الأعظم للحيز الأعظم من القوى المشاركة، أي إن الاعتراض على نظام الشاه وجوره هو المشترك، من دون أن تكون المشتركات الموجبة في الفكر والسياسة بينها، مؤهلة لأن تحفظ المستوى اللازم من وحدتها حول مشروع الدولة، كما كانت كافية للمقدار اللازم والمجزي من الوحدة حول الثورة، أعني الجبهة الوطنية (جبهة ملي) وحركة تحرير إيران (نهضت آزادي إيران) فضلاً عن اليسار الحزب الشيوعي (توده) و”فدائيان خلق” و(رنجبر) الكادحون و(بيكاران) المناضلون، وفضلاً عن اليسار المهجن إسلامياً أو الملفق نظرياً “مجاهدين خلق” الذي انتهى إلى انكشافات كشفت أن المعارضة السياسية عندما تعمى تصبح أقرب إلى المرض في واقعه وعوارضه ولا ترقى إلى مستوى أطروحة سياسية بل تصبح حشوة دافعة في أسلحة نقائضها المدعاة . وهكذا كان لا بد للإمام، أن ينتقل إلى طهران ليمارس دوره القوي في الفرز والضم والإلغاء والشطب، ودوره في تعزيز عاصمية العاصمة حتى لا يسقط الناظم المدني، وكف الحوزة عن التمدد إلى ما ليس هو شأنها وحدها (وربما كان هو شأنه وحده) وإن كان داخلاً في شأنها الذي له حدود تحده، خاصة أن الحوزة ربما تكون قد فهمت من اتساع حضور رجال الدين في المشهد الحكومي، إنه ترجيح لكفتها أو إفساح في المجال لاستئثارها وانفرادها، ما يعني خروجها التدريجي من شأنها العلمي، وما ينتج عن ذلك من مخاطر المماهاة بين السلطة والمعرفة، كما لاحظ الدكتور عبد الكريم سروش، وأن في ذلك خطراً على الدولة والمعرفة معاً وينتهي عادة إلى صالح السلطة على حساب الدولة.

اقرأ أيضاً: لبنان من إيران وجع الحرف

إن لديّ رغبة هنا في ملاحظة هذا الملمح (لقمي الحوزوي) في قضية آية الله الشيخ حسين علي منتظري، فلربما كان استبعاده استكمالاً لمسيرة التخفيف من قبضة الحوزة، أو الحفاظ عليها حاضناً للدولة لا قابضة عليها.. ولست بصدد الموافقة أو المخالفة لمجريات هذا الاستبعاد، ويبقى لديّ سؤال عن ضرورة التوسع في الاستبعاد المنظور إليه كضرورة، إلى حد جعله اجتثاثاً للحرية، مفترضاً، بناءً على معرفة وثيقة، بأن الإمام الخميني لم يتخلَّ مرة أو لحظة عن موقعه الحارس على قاعدة الشريعة للديموقراطية مرة وللمركزية مرة أخرى.. ومن موقع مركزي دائماً على قاعدة ولاية الفقيه التي نزل الدستور والقانون عليها ولم تنزل عليه. هذا وقد ثبت بعد التجربة أن الشيخ حسين علي منتظري كان يستخدم موقعه الفقهي والجهادي التاريخي لممارسة دور اعتراضي ذي مضمون مدني وفي صلب هذا الدور ومدنيته معارضته للاستبداد والاستئثار بالقرار، وقد بقي موقفه من هذه المسألة فقهياً يتطور إلى حد أنه أدرك أن العلة هي في أصل الولاية المطلقة وأن الحل هو في إفساح المجال للمدني من خلال إعادة رسم حدود المجال الفقهي الذي نقله من مجال الولاية الإلهية والمطلقة إلى مجال النظارة على الدولة والرقابة.

(9/1/2000)

السابق
عدّاد «كورونا» تخطى الـ 800 حالة في لبنان.. وارتفاع الاصابات في صفوف المقيمين!
التالي
بالفيديو: في أعنف هجوم على«حزب الله».. الطفيلي: يا حماة اللصوص وخدم الصهاينة!